تعيد التطورات التي تشهدها الضفة الغربية وقطاع غزة في الأشهر الأخيرة، والتحولات السياسية الكبيرة الجارية داخل إسرائيل، طرح القضية الفلسطينية على المجتمع الإقليمي والدولي، بعد أن كادت تغيب تحت وطأة الأحداث الكبرى التي مر بها العالم العربي على مدى العقد الماضي، والتحولات التي شهدتها مواقف الدول العربية من إسرائيل، حتى أصبح الاهتمام بالقضية يتلخص في الحفاظ على الهدوء حول المسجد الأقصى وبين قطاع غزة وإسرائيل. كما أنها تعيد إلى السطح النقاش حول تأثير ممارسات إسرائيل وطموحاتها على التوازن الاستراتيجي في المنطقة، وانعكاسات ذلك على مكانة مصر ومصالحها.
والحقيقة أن سياسة مصر الخارجية لم تنشغل في تاريخها بقضية قدر انشغالها بالصراع العربي الإسرائيلي، سواء عندما كان قضية فلسطينية محضة، أو عندما حدث أول عدوان مباشر على أرض مصر عام 1956، ثم احتلال سيناء نتيجة لحرب 1967 لاحقا، أو حتى بعد أن ردت على هزيمتها بالانتصار في حرب 1973، إلى أن استعادت كامل أرضها المحتلة سنة 1982، في إطار معاهدة السلام مع إسرائيل.
كان الأمر في جانب منه دفاعا عن التراب الوطني، كما كان أيضا موقفا أخلاقيا إنسانيا، تضامنا مع الشعب الفلسطيني الشقيق الذي طرد من دياره عنوة وظلما. إلا أنه كان قبل كل ذلك معبرا عن رؤية استراتيجية عميقة سابقة لتأسيس إسرائيل رسميا، مؤداها أن نشأة دولة تحمل مشروعا عسكريا وأطماعا توسعية كالتي تبنتها الحركة الصهيونية، وترى وجودها على حساب غيرها وبالتناقض مع محيطها، وتقطع التواصل الجغرافي العربي، وتسعى لتحقيق أهدافها تلك بكل الوسائل العلنية والخفية، مهما كانت درجة عدم مشروعيتها، مثل هذه الدولة تمثل تهديدا استراتيجيا مصيريا لمصر وللأمة العربية لا مجال للتهاون معه.
إلا أن موقف مصر من إسرائيل تغير تدريجيا بعد حرب أكتوبر 1973، عندما اجتمع الشعور بالإرهاق من حالة المواجهة العسكرية، بحالة الرضا التي أعقبت رد الاعتبار في حرب 1973، فتغيرت معها حسابات القيادة المصرية، متراجعة عن لاءات قمة الخرطوم العربية في سبتمبر 1967 الثلاث: لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف، التي اعتبرت أن إعادة الحقوق العربية واجب على إسرائيل لا تستحق مقابلا له، ومسقطة من حسابها الخطر الاستراتيجي لمشروع دولة إسرائيل بصيغته الحالية، وانتقلت من خيار المواجهة إلى خيار التفاوض مع إسرائيل، بدعم أمريكي، سعيا إلى استرداد الأرض المصرية المحتلة، وما يتيسر من باقي الأراضي المحتلة، بغض النظر عن رأى هذه الأطراف العربية.
لكن، على خلاف تصور البعض وقتها أن تخلص مصر من أعباء هذه المواجهة، وبناء علاقات قوية مع الغرب، وتجنب توظيف إسرائيل لنفوذها ضد مصر، سيتيح لها الانطلاق بقوة نحو أهدافها التنموية والدبلوماسية، فقد استمرت مصر تواجه ذات المصاعب الاقتصادية، بينما ظلت القضية تفرض نفسها على أولويات سياستها الخارجية، ليس كطرف فيها وقائد للجانب العربي كما كانت، وإنما كداعية للتفاوض، ثم وسيطا في مساعي التوصل إلى تسوية سلمية على أساس حل الدولتين بعد مؤتمر مدريد.
***
إلا أن فشل عملية مدريد واقعيا بعد خروج الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون ورئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك من السلطة عام 2001، ليحل محلهما قيادات أمريكية وإسرائيلية لا تضمر أي رغبة جادة في استكمال عملية السلام (جورج بوش الابن وآرييل شارون)، وكذلك الانقسام السياسي الفلسطيني بين منظمة التحرير الفلسطينية والحركات الإسلامية، ثم وفاة ياسر عرفات الزعيم الأهم للحركة الوطنية الفلسطينية، كل هذا أفرغ مساعي السلام من مضمونها، وتحول الدور المصري تدريجيا إلى دور رجل المطافئ الذى يتوسط لوقف إطلاق النار عند نشوب مواجهات مسلحة بين إسرائيل، وحركات المقاومة الفلسطينية الإسلامية في قطاع غزة المحاصر، هذا طبعا بجانب كونها المتحكمة في فتح أو غلق البوابة الرئيسية بين قطاع غزة والعالم الخارجي.
وكما توقع كثيرون، لم تكن إسرائيل جادة في التوصل لاتفاقيات سلام تنسحب بمقتضاها مما احتلته من أراض فلسطينية أو من الجولان، رغم قبول الجانب العربي قصر مطالبه على حدود ما قبل يونيو 1967، ورغم تعهده بأن يقابل ذلك اعترافا عربيا جماعيا بإسرائيل، وتبادلا للعلاقات الطبيعية معها. بل أن إسرائيل -كما توقع البعض أيضا- استغلت تحررها من عبء المواجهة مع مصر في الذهاب أبعد من مجرد عدم إعادة الحقوق العربية، وذلك بالسعي لبناء وضع متفوق استراتيجيا في المنطقة، تحول تدريجيا إلى حرية شبه مطلقة في استخدام القوة، وصولا إلى محاولة تبوء مكانة مهيمنة، من خلال بناء صلات أمنية وعسكرية ومخابراتية واقتصادية مع عدد متزايد من دولها، قدمت فيها إسرائيل نفسها باعتبارها الحامي لها، والشريك الاقتصادي الذي يمكن معه تحقيق التطلعات التنموية، وهو نمط متكرر وفعال في سياسة إسرائيل الخارجية، الأمر الذى يأتي على حساب مكانة ومصالح مصر بشكل جوهري.
أدى هذا التطور إلى نتيجتين استراتيجيتين عميقتي الأثر على مصر ومصالحها، أولاهما هي توارى قضية احتلال إسرائيل للأراضي العربية، وبوجه خاص قضية الشعب الفلسطيني واحتلال الجولان السوري، بما لذلك من تبعات سلبية كبرى على استقرار المنطقة؛ والثانية هي تعميق اختلال توازن القوى والنفوذ في المنطقة في غير صالح مصر، ولصالح إسرائيل في الدرجة الأولى، ثم القوى التي استمرت في حمل لواء التصدي لها ولممارساتها، أو ما يسمى بجبهة الممانعة، في الدرجة الثانية.
***
إلا أن التطورات الأخيرة المحيطة بإسرائيل تفتح أمام مصر طريقا لتصحيح هذا الوضع، بإعادة التوازن الاستراتيجي للمنطقة، واحتواء ومحاصرة توسع النفوذ الإسرائيلي فيها، واستعادة المكانة التي شغلتها مصر تقليديا، باعتبارها قائد الإقليم وبوصلته التي تحدد اتجاهه في المسائل الكبرى، والباب الأهم -وليس مجرد أحد الأبواب المهمة- الذى تطرقه القوى العالمية في تعاملها مع المنطقة.
فقد استندت إسرائيل للوصول إلى المكانة التي وصلت إليها اليوم، والتي أتاحت لها هذا الوضع في العالم وفى المنطقة، إلى عدة دعائم رئيسية هي كفاءة نظامها السياسي، وتماسكها الداخلي حول هوية وطنية محل توافق داخلي واسع، وقدراتها الاقتصادية، وفاعليتها العسكرية، وما تمتعت به من تحالفات دولية مدعومة بشبكة علاقات فعالة، استندت إلى الاعتقاد بأن لديها نظام ديموقراطي يستحق الاحترام، وتجربة بناء دولة ناجحة ومتطورة في ظروف صعبة، ونجاحها في تقديم نفسها كطرف مهدد يحاول التصدي لمحيط إقليمي ينكر عليها حقها في الوجود، ولا يقبل منها أي عرض بالسلام.
لكن، كما هو واضح، بدأت دعائم هذه المكانة في التآكل تدريجيا في السنوات الأخيرة مع صعود تحالف تياري اليمين الديني والعلماني المتطرفين إلى الحكم في إسرائيل، وتراجع معسكر السلام الليبرالي العلماني القريب فكريا وسياسيا من المجتمعات الغربية، وتورط إسرائيل بشكل متزايد في ممارسات لم يعد يمكن قبولها أخلاقيا، ووصول أخبارها إلى العالم فورا ومباشرة بفضل وسائل تدفق المعلومات الحديثة. إلا أن الضربة الكبرى التي تلقتها قيمة إسرائيل وسمعتها جاءت عندما وبدأ التوافق الوطني حول هوية الدولة يتداعى، وانطلقت قواها السياسية في التعامل مع مؤسساتها الديموقراطية، وتقاليدها وقوانينها باستهانة واستهتار لا يليق بدولة تستوفى الحد الأدنى من معايير وقيم الديموقراطية، وبدا مجتمعها منقسما انقساما حقيقيا وعميقا صعب الرأب، وما صاحب ذلك من تقارب إسرائيلي بدول استبدادية مناوئة للغرب، خاصة روسيا والصين، وتقاربها مع التيارات السياسية اليمينية المرفوضة من قطاعات واسعة من المجتمعات الغربية، دون اعتبار للدول والمجموعات التي تعد مساندتها لإسرائيل عنصر حيوي في تأسيسها وتطورها وبقائها.
والحقيقة، أن المتابع لطريقة تناول العالم لإسرائيل اليوم على مستوى الحكومات والإعلام والمجتمع المدني، وغيرهم يلمس بوضوح التغير الكبير الحادث في صورة إسرائيل، والتساؤلات الجادة حول الموقف الواجب اتخاذه منها ومن ممارستها، الأمر الذي يصل حتى إلى الولايات المتحدة، بل وإلى المجتمع اليهودي الأمريكي، الذي يشعر القطاع الغالب فيه اليوم أنه لا يكاد يعرف إسرائيل الحالية، ولا يرى فيها القيمة السامية التي سعى إلى دعمها والدفاع عنها. ما يعيق ترجمة هذه المشاعر والانطباعات إلى سياسات رسمية وفعالة، هو التحول الحادث في المواقف العربية تجاه إسرائيل، والتي ترفع الضغط من على حكومات دول العالم وتعفيها من اتخاذ مواقف حازمة من الممارسات الإسرائيلية، وتجعل من تبنى مواقف مائعة بلا تكلفة سياسية عليها. بعبارة أخرى، لا يمكن تصور حدوث تغير جوهري في مواقف هذه الحكومات من إسرائيل، مهما توافرت لذلك من أسباب، طالما لم يكن هناك ضغوط من الدول العربية تجعلها تخشى على مصالح الدول الأخرى الاستراتيجية والدبلوماسية والاقتصادية.
وهنا تتجمع الخيوط التي يمكن على أساسها رسم المسار الذي تواجه به سياسة مصر الخارجية المسألة الإسرائيلية، لإعادة بناء فرص التوصل إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية والعربية، ولتستعيد مصر ما فقدته من مكانتها ومصالحها على مدى العقود الأخيرة، وهو ما سنتناوله بقدر من التفصيل في الجزء الثاني من هذا المقال.
أيمن زين الدين: قانوني ودبلوماسي سابق