أبرزت ظاهرة “الجريمة” في الفترة الأخيرة. تطورا جديدا في السلوك الإجرامي ليس فقط من حيث معدل الانتشار. لكن من حيث أنماط الجرائم والتأثير على المحيطين.
وظهرت هذه الأنماط في شكل عملية توثيق الفعل الإجرامي من خلال مواقع التواصل الاجتماعي لتحقيق نوع من البطولة الزائفة أو إبراز نوع من الجسارة على الضحية.
التفاخر بالجريمة. كان أحد مظاهر الواقعة التي شهدتها محافظة الإسماعيلية. حيث حمل الجاني رأس الضحية وتجول بها في الشارع. لإثبات تلك الجسارة تحت مظلة الحفاظ على الشرف متحديا القانون. وبعدها بيومين قام أحد الخارجين عن القانون في الفيوم باحتجاز مجموعة من النساء والأطفال وإجبارهم على اعترافات طالت العديد من الشخصيات المحيطة له في مجتمعه تحت تهديد السلاح. وبث تلك الاعترافات مباشرة علي صفحته الشخصية لمدة ثلاث أيام. مجاهرا بالجريمة بعد قيامه بقتل زوجته ووالدتها انتقاما لشرفه حسب زعمه.
الدكتور عبد الوهاب بكر أستاذ التاريخ الحديث في جامعة الزقازيق يرى في كتابه (الجريمة في مصر). أن الجريمة ظاهرة اجتماعية مرتبطة بأمور اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية معينة. وأنها صورة من صور الصراع الاجتماعي تدور في الطابع الانتقامي وتأثير العامل الاقتصادي في نشأتها كبير.
وذكر عبد الوهاب في كتابه أن الجريمة أثر من آثار النشاط الإنساني. لذلك تتطور مع التطور الاجتماعي. حيث تأخذ أشكال جديدة ومعقدة. وأساليب أدائها يتطور أيضا. مع التطور المعرفي والتقدم العلمي وتطور التعليم وزيادة المتعلمين، قائلا: لا يمكن مساواة الجريمة التي تحدث في مجتمع بدائي مع جريمة تحدث في مجتمع متطور علميا وتكنولوجيا.
التحول النوعي في السلوك الإجرامي
الدكتورة سامية قدري أستاذ علم الاجتماع في جامعة عين شمس. أكدت أن هناك تحولا نوعيا في قدرة الجاني على الإجهاز والتنكيل بالمجني عليه وإعلان ذلك على الملأ. لكنها أشارت إلى عدم إمكانية التعامل مع أحداث ووقائع متفرقة حتي وإن كانت متقاربة على أنها ظاهرة جماعية.
وحذرت قدري من خطورة تلك الوقائع. خاصة في ظل قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على توجيهها والتأثير علي سلوك الأفراد وانتقالها بشكل سريع.
وقالت لـ”مصر 360″: لابد من إخضاع هذه الأحداث للدراسة. والتحقيق النفسي، والاجتماعي للجناة للوقوف على الأسباب الحقيقية التي دفعتهم إلى ارتكابها وتوثيق أفعال التنكيل بهذه الطريقة العنيفة والمجاهرة بها علنا قبل الحكم عليها.
وتضيف قدري: قد يكون الجاني تعرض إلى ضغط نفسي واجتماعي قوي أو إساءة بالغة من قبل المجني عليه. أو وقع تحت تأثير تناول بعض المواد المخدرة. دفعته إلى ارتكاب جريمته. وأوضحت، أن ذلك ليس دفاعا عن الجاني أو تبرير فعله. إنما للوقوف على الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ارتكاب الجريمة بهذا الشكل والإجهار بها. لمنع تطورها وتقليدها في جرائم وأحداث أخرى.
أسباب انتشار الجريمة
كشفت دراسة صادرة عن جامعة عين شمس. أن جرائم القتل العائلي وحدها باتت تشكل نسبة من الربع إلى الثلث من إجمالي جرائم القتل. فيما أكدت دراسة أخرى للمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية. أن نسبة 92% من هذه الجرائم تُرتكب بدافع العرض والشرف. فضلا عن العوامل الاقتصادية التي أصبحت من بين أبرز أسباب تضاعف معدلات القتل العائلي.
تعود أستاذ علم الاجتماع سامية قدري لتذكر. أن أغلب الجرائم التي يتم الإجهار بها وإعلانها تتم تحت ذريعة جرائم الشرف. وأن مرتكبيها ينتمون إلى المجتمعات متدنية تفتقر الثقافة والثقة، ودور القانون والعدالة الناجزة في أخذ الحقوق.
وأبرزت قدري أن جرائم الشرف في مصر تنتشر بكثرة في الصعيد والقرى البعيدة. وأن سبب ذلك هو الاختلاط والمقاربة الشديدة بين العائلات. التي تستخدم أسلوب الضغط على الرجال من أجل الحصول على الثأر. فيتوجهون إلى استخدام العنف عن طريق القتل. من أجل حفظ هيبتهم فقط أمام المجتمع الشرقي المحيط بهم. خوفًا من النظرة المجتمعية فقط، وليس من أجل الحفاظ على الشرف.
وشددت على أهمية تكريس الجهود لمناهضة العنف ضد مرتكبي جرائم الشرف. والاهتمام بالجانب التعليمي من الصغر وصولًا إلى الجامعة. كعامل رئيسي في غرز القيم والمبادئ الجيدة التي تخلق إنسانا سويا وتعزيز دور الإعلام في محاربة تلك الجرائم التي يستخدمها الرجال ضد النساء أو التي تتم باسم الشرف. من خلال تغيير محتوى الأعمال التي تحرض على ارتكاب مثل هذه الأفعال وتغير السلوكيات والعادات والتقاليد غير السليمة. وعرض المشاهد الدرامية دون انحطاط في الألفاظ.
الأبعاد النفسية لتوثيق الجريمة
تنسب الإعمال الإجرامية الشاذة عن المألوف عادة إلى بعض الاضطرابات النفسية عند الجاني. لكن تقرير إدارة الطب النفسي الشرعي أثبت، خلو المتهم في جريمة الإسماعيلية من أي أعراض دالة على اضطرابه نفسيا أو عقليا ما قد يفقده الإدراك وسلامة التمييز ومعرفة الخطأ والصواب.
وقال تقرير إدارة الطب النفسي الشرعي الصادر عن المجلس الإقليمي للصحة النفسية. إن المتهم في حادث الإسماعيلية. خال من أي أعراض دالة على اضطرابه نفسيا أو عقليا مما قد تفقده أو تنقصه الإدراك والاختيار وسلامة الإرادة والتمييز ومعرفة الخطأ والصواب. سواء في الوقت الحالي أو في وقت الواقعة محل الاتهام. ما يجعله مسؤولا عن الاتهامات المنسوبة إليه.
الدكتور أشرف سلامة استشاري طب الأمراض النفسية قال، إن أسباب وقوع الجرائم نفسي. هو حدوث خلاف بين بعض الأفراد بدافع الدفاع عن النفس والمصلحة الشخصية أو الجماعية تشكل مشاعر العداوة والعدوان التي قد تتطور في ظروف معينة لتنتج شكلا من أشكال السلوك الإجرامي.
المحاكاة والتقليد
واعتبر سلامة المحاكاة والتقليد من العوامل المباشرة المؤدية للسلوكيات الإجرامية، تنمية نمط معين من الشخصية لدى الشخص المقلد تتصرف بطريقة عدوانية وتعجب بهذا النوع من السلوكيات.
وقال إن العنف ينتقل بالمشاهدة والمعايشة. وإن الأطفال الذين يتربون في أسر يمارس فيها العنف المنزلي يعتبر أكثر عرضة لتعلم السلوكيات العدوانية تجاه الآخرين في المجمع. ويتحول إلى صانع للفعل الإجرامي في مرحلة البلوغ لما ترسخ في الشعور عنده خلال سنوات التربية.
وعن الدوافع الإجرامية عند الجاني. قال سلامة لـ”مصر 360″. إن توثيق الفعل الاجرامي عند الجاني هو لإثبات الذات والتحدي. من خلال إخافة الآخرين منه ومن تصرفاته العدوانية. وقد تتطور المسألة لدى هذا الشخص للقيام فعلاً بتصرفات إجرامية مثل الاعتداء على الآخرين أو ارتكاب جرائم مثل الاغتصاب أو السلب بالقوة أو القتل أحيانًا. بالإضافة لدافع التحدي الذي قد يسبب الاعتداء على شخص معين يجد فيه المجرم ندا له ويرغب بفرض انتصاره عليه.
وأرجع سلامة ظاهرة توثيق الجرائم والإفصاح عنها للمجتمع إلى تغير المنظومة الأخلاقية. تفشي وانتشار المخدرات. والعشوائيات الممتدة منذ 70 سنة وغياب قيم الفن والجمال والتربية الموسيقية في المدارس التي تهذب النفس وتدهور حالة التعليم بشكل عام.
وطالب بضرورة فرض رقابة تداول المواد المخدرة بالصيدليات بدون روشة مثل (ريفوتريل، زاناكس، والترامداول، ريميرون). لما لها من أثار ضارة على الصحية العقلية لدي متناوليها من الشباب بخاص مادة “الايس” التي تتلف خلايا المخ بمجرد تناولها من أول مرة.
وألقى سلامة بالمسؤولية على المجتمع في إعادة ضبط سلوكيات أفراد بإعادة زرع القيم الأخلاقية بين أبنائه.
الأعمال الدرامية وتجسيد مشاهد العنف
تقمص دور البطل والاحتذاء به وتقليده أو تمثيل مشاهد العنف في الدراما المصرية والسينما. أحد أهم أسباب انتشار الجرائم وإعادة إنتاجها في الواقع. فهناك بعض الجرائم تمت طبقا لما تم عرضه في هذه الأعمال. فقد قام مجموعة من الشباب بالتنكيل بآخر وإجباره على ارتداء ملابس نسائية “قميص نوم”. أمام أهله في الشارع الذي يسكن فيه انتقاما منه أمام الجميع مقلدين هذا المشهد مسلسل الأسطورة وغير من المشاهد المتكررة.
الكاتب الصحفي والناقد الفني أشرف بيدس يقول، إن النجم الجماهيري في مواصفات الشعبية يمثل أيقونة لدى الجماهير تنجذب إليه وتصدق ما يقوله وتقلده في كل تصرفاته وأفعاله. بدءا من تسريحة شعره مرورا بطريقة كلامه وحتى الملابس التي يرتديها. فالجماهير تتحلق حول نجمها وتتبعه ويتأثرون بما يفعله، أحيانا بوعي وكثيرا بدون وعي. لافتا إلى أن المشكلة تأتي عندما يخرج هذا التأثير عن إطاره الموضوعي وينجرف ناحية الأشياء غير المألوفة. أو بصورة أدق تندرج تحت طائلة القانون.
ويبين بيدس أن الانسحاق الجماهيري يلغي العقل عند شرائح سنية من الشباب. الذين يمثلون بالفعل الجمهور الحقيقي الذي يذهب إلى دور العرض ليشاهد نجمه.
في فيلم “إبراهيم الأبيض” للنجم أحمد السقا، كان أداؤه ملهما رغم وحشيته ودمويته ومثل إلهاما لدي البعض لممارسة تلك الأفعال في كثير من الحوادث التي نشرت بالصحف.. الناقد الفني أشرف بيدس
الجريمة والبلطجة
ويؤكد أن من يتابع صفحات التواصل الاجتماعي. يكتشف بسهولة أن الغالبية العظمى من العبارات والجمل المستخدمة مقتبسة من الأعمال الدرامية التي تشجع علي الجريمة والبلطجة.
ويتابع: إذا نظرنا للأعمال الدرامية في رمضان الماضي. سنكتشف أعمال كانت تشجع علي الجريمة يجسدها نجوم يحتلون مكانة كبيرة في قلوب المشاهدين مثل (ملوك الجدعنة، وموسي، ونسل الأغراب). قائلا: بعملية حسابية بسيطة نكتشف أن هذه الأعمال الثلاثة أسقطت قتلي يتجاوزون أعداد العاملين بها، ومن دون مبرر درامي سوي جذب الانتباه إليها من قبل الجماهير التي أصبحت تتوق لهذه الأعمال.
ويرى بيدس أن العنف سمة سائدة في الدراما والسينما. لأن هذه الأعمال تحقق نسب مشاهدة عالية للغاية. ما يبين أن العائد المادي والتجاري يحكم الأعمال الفنية في الدراما والسنيما. حيث يتم حشر مجموعة من الألفاظ والسباب والمشاهد الخارجة بدون داعي.
دور السوشيال مديا
ومع تعاظم دور وسائل التواصل الاجتماعي وتحكمها في حياة الأفراد. حدث تطور نوعي في أداء الجريمة في المجتمع المصري وانتقالها من كونها فعل مخالف للقانون وأعراف المجتمع. يخفيه الجاني إلى فعل علني يجاهر به أمام المجتمع. وتحظى بعملية توثيق اجتماعي يقوم بها الجاني مستغلا سرعة تداول المعلومات والإحداث علي السوشيال ميديا بحثا عن دور بطولي.
يذهب الكاتب الصحفي المتخصص في تكنولوجيا المعلومات في مجلة لغة العصر أشرف شهاب. إلي أن وسائل التواصل الاجتماعي لها تأثير كبير علي سلوك الأفراد. حيث تصنع من أشخاص مجهولين أبطال لتحقيق “الترند”. لافتا إلى إن الوضع بات خارج السيطرة. وإن العالم لم يعد قرية واحدة بل غرفة واحدة بعد اختراع ( الميتافيرس). وهو عملية انتقال عبر الزمان والمكان تساهم في ارتفاع معدلات الجريمة وانتهاك الحريات الشخصية.
وعن قيام وسائل التواصل الاجتماعية بتوثيق ونقل هذه الجرائم. قال شهاب، إنه علي الرغم من خضوع المحتوي المنشور غير الملائم لعملية تحليل ذكاء اصطناعي لكن وجود مليارات من البشر علي وسائل التواصل في نفس اللحظة يؤدي إلى انتشارها السريع ويشتت هذه الأدوات. ويجعل عملية الحظر صعبة ومرهقة لأن ملايين الناس تشهد في لحظة واحدة.
وتابع: “بكل أسف وقعنا تحت تأثير ما يعرف بصحافة المواطن على السوشيال ميديا. التي ساعدت في نشر هذه المحتويات. دون دراية أو معرفة بأخلاقيات ومعايير النشر وأدواته التي يعرفها الصحفي الممارس للمهنة أو المتخصص مما يتسبب في انتهاك حرية الأفراد بدون حساب.
وقال شهاب: لا يمكن تجاهل أهمية دور وسائل التواصل في نقل وتداول المعلومات بشكل سريع لكن لابد من الانتباه إلى انعكاساته السلبية علي سلوك الأفراد ونقل الجرائم ومحتواها من ثم تقليدها أو تمثيلها في المجتمع.
قصور قانون الإجراءات الجنائية
ويعاني قانون الإجراءات الجنائية بعض الثغرات منها بطء التقاضي، مثل رد القضاة والاستماع للشهود والأحكام الغيابية وكفالة حق الدفاع. وأخيرا الطعن بالنقض وجعله على درجة واحدة. وتصدى النقض لموضوع الدعوى في حالة قبول الطعن. ومشكلات عملية متعددة تعوق سرعة صدور الأحكام.
عصام شيحة محام متخصص في القضايا الجنائية، رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان. قال لـ”مصر 360″. إن هناك قصورا في قانون الإجراءات الجنائية خاصة فيما يتعلق بقضايا الشرف. حيث يغلب عليه الفلسفة الذكورية في التشريع. فهناك تعاطف من جانب المشرع مع الرجل بما يخل في الدفاع عن حقوق المرأة.
وأكدا أن مرتكبي جرائم القتل الأخيرة سواء في حادثتي الفيوم أو الإسماعيلية. ارتكزا على أنهما سيكسبان تعاطفا شعبيا. ويصبح بطلا عندما ينسب جريمته إلي وقائع الشرف إضافة الي ضعف التشريع ومساندة القانون له في هذه الجزئية.
يشير إلى أن القانون يعتبر كل القضايا الجنائية التي تمت تحت مظلة الدفاع عن الشرف تمت تحت تأثير رد فعل لحظي أثناء التلبس. مطالبا المشرع بإعادة النظر في قانوني الإجراءات الجنائية والعقوبات. ووضع فلسفة جديدة تضمن المساواة بين الرجل والمرأة. أمام القانون والضرب بيد من حديد لتنفيذ القانون حتى لا تكون هذه الوقائع بابا جديدا للإفلات من العقاب ومن سلطة القانون.
واختتم شيحة: حالة التراخي القانوني الحالية. تعود بنا إلى عصر القبيلة ويعطي للأفراد حق الاتهام، والحكم. والتنفيذ معتبرا ذلك تكريسا لظاهرة الثأر البغيضة وانتشارها في ظل تراخي الحالة الأمنية عن سلة التنفيذ والضبط.