منذ أن بدأت دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى تجديد الخطاب الديني في 2015. حين قال “الأمر يحتاج إلى ثورة”. قامت بعض المؤسسات الدينية الرسمية بالعديد من المحاولات لـ”تجديد الخطاب الديني”. إذ ظهرت في الصورة الرسمية على أنها صاحبة أطروحات بديلة للحد من ظاهرة التطرف والإرهاب. فيما وقف الأزهر -المؤسسة الدستورية والمرجعية الدينية- موقف المتفرّج. حتى ظهر آخر الأطروحات تحت قبة مجلس الشيوخ عبر ما تمت تسميته “التفسير العصري للقرآن“.
ورغم مرور وقت طويل على دعوة الرئيس وانطلاق دعوات أخرى منه كل فترة خلال مناسبات قومية ورسمية. وصلنا إلى المحطة الأخيرة في مجلس الشيوخ. حيث أثارت مناقشة لجنة الشؤون الدينية بالمجلس وضع تفسير “عصري” للقرآن بأسلوب يتماشى ومقتضيات الراهن علامات الاستفهام حول غياب الأزهر عن هذه المناقشات. إذ لماذا تتم المناقشة داخل “الشيوخ” وليس المؤسسات المعنية بذلك –كالأزهر؟ وهل يمكن اعتبار هذه الخطوة دعوة أخرى لتجديد الخطاب الديني أم محاولة لوقف استئثار الأزهر بمنصب “المرجعية الدينية” وفرض سلطته على كل ما يمس الإسلام كدين من قريب أو بعيد؟
يثير المشروع الجديد -“التفسير العصري للقرآن”- شكوكا بأن يكون امتدادا لفكرة الدين الإبراهيمي أو ما يطلق عليه “الدين العالمي”. وهي الفكرة التي تدعو إلى دمج الإسلام والمسيحية واليهودية بذريعة التقريب بينها للخروج بمبادئ “مشتركة”.
هذا المشروع تبنّته الإمارات -إحدى الدول العربية المطبّعة مع إسرائيل. فقد أعلنت في وقت سابق عن اتفاق لبناء صرح يجمع بين “الديانات” السماوية الرئيسية الثلاث. وسمّت هذا الصرح “بيت العائلة الإبراهيمية”. وقد شيدت له مقرًا في جزيرة “السعديات” في عاصمتها “أبوظبي”.
وهو المشروع الذي كشفت اللجنة العليا للأخوة الإنسانية عنه في اجتماعها العالمي الثاني بمدينة نيويورك الأمريكية في 20 سبتمبر عام 2019. ويضم معبدًا وكنيسة ومسجدًا تحت سقف صرح واحد. مشكّلاً للمرة الأولى مجتمعًا مشتركًا لتعزيز ممارسات تبادل الحوار والأفكار بين أتباع هذه “الديانات”.
عقبات أمام التفسير “العصري” للقرآن
ويواجه مشروع مجلس الشيوخ المصري “التجديدي” بعض الإجراءات التي قد تعرقل خطواته. منها اعتراض الأزهر على المشروع بموجب سلطته التي منحته إياها المادة السابعة من الدستور المصري.
وتنص المادة 7 من الدستور على: “الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة. يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه. وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية. ويتولى مسؤولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم”.
كما تنص ذات المادة أيضا على أن تلتزم الدولة توفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراض الأزهر. كما تنص على أن شيخ الأزهر “مستقل غير قابل للعزل” وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء.
بين سلطة الأزهر والتطرف الجديد
الدكتور سعد الدين الهلالي -أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر- قال إن الدستور المصري ينص على أن الأزهر مرجع أساسي “وليس مرجعا وحيدا”.
وأضاف: “الرأي في الدين ليس رأي الأزهر منفردا. وإنْ كان للأزهر حق الاعتراض على بعض الموضوعات أو القضايا التي قد يري أنها لا تتماشى مع الشرع. فهذا مجرد رأي غير ملزم اتباعه”.
وأوضح “الهلالي” أن الفقه “رأي بشري ينسب لأصحابه والعمل به غير ملزم”. وتابع: “الإسلام في جوهره إنساني قائم على التعدد لا الاحتكار. حتى لو كان هذا الرأي صادرا من مؤسسة فهو يمثل مجموعة أشخاص عاشوا في ظروف اجتماعية معينة تحكمت فيهم توجهاتهم الثقافية. وآراؤهم تعبّر عنهم فقط. وإلا خرجنا من قواعد الاجتهاد إلى تطرف جديد في شكل مؤسسي”.
وانتقد الدكتور أحمد كريمة -أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر- المشروع الجديد لتقسير القرآن. وقال: “الأزهر هو المسؤول وحده لا غيره طبقا للدستور على الشؤون الدينية في الدولة. ولا يجوز دراسة ومناقشة تفسير القرآن في مجلس الشيوخ نظرا لعدم اختصاصه بهذا الأمر. ومثل هذه القضايا بالذات لا تُجاز إلا بالمرور على الأزهر الشريف أولا”. واستند في ذلك إلى أن مصر دولة مؤسسات.
التفسير “العصري” للقرآن و”ثوابت” الإسلام
وذهب “كريمة” إلى أبعد من ذلك في انتقاده للمشروع المقترح في “الشيوخ”. إذ قال: “مصطلح تفسير عصري لنص القرآن يحمل الكثير من التشكك في تغيير ثوابت الإسلام عند المتلقي البسيط”. وأشار إلى أن لدينا العديد من التفسيرات التي تتماشى مع العصر في التاريخ الإسلامي كتفسير القرطبي. وهناك تفاسير تاريخية كتفسير “ابن كثير”. أي إن لدينا تنوعا في التفاسير.
وطالب “كريمة” بتقديم الاقتراح المشار إليه إلى مشيخة الأزهر لدراسته بدلا من مناقشته في “الشيوخ”. لأن المجلس دوره تشريعي وليس له علاقة بعلوم الشرع –حسب قوله.
واعتبرت الدكتورة آمنة نصير -عميد كلية الدراسات الإسلامية للبنات بجامعة الأزهر- الاقتراح “خروجا عن الأصل في تولية أهل الاختصاص”. حيث إن هذا الأمر “له ضوابطه وله أصول ليس لمجلس الشيوخ دراية بها” –حسب قولها.
إعادة إنتاج الإرهاب
الدكتور شوقي علام -مفتي الجمهورية- قال في تصريحات صحفية إن مقترح إعداد تفسير “معاصر” للقرآن الذي بدء “الشيوخ” مناقشته مؤخرا “يتواكب مع الجمهورية الجديدة”. وتابع أن هذا الطرح “له أهميته ويتماشى مع متطلبات العصر مع مراعاة ما هو ثابت لا يقبل الاجتهاد وما هو متاح للاجتهاد وإعمال الفهم لمعالجة قضايا الزمن باحترافية ومهنية.
عمرو عبد المنعم -الباحث في الشؤون الإسلامية- يرى أن وضع تفسير “رسمي” تتبنَّاه الدولة تحت أي اسم يتم اعتماده على أنه “التفسير الصحيح”. وقال إن هذا “إعادة إنتاج للإرهاب الفكري والمصادرة وليس مواجهته” -وفق رأيه.
واعتبر “عمرو” التفسيرات الرسمية “مخالفة للشرع” لأنها في الغالب تكون موجّهة. بينما الفقه والتفسير “اجتهاد فكري من أخطأ فله أجر ومن أصاب فله أجران. وقال إن كل من يقدم تفسيرا لكتاب الله “يظل في خانة محاولة للاقتراب من مُراد رب العالمين”.
تفسير يلائم المتغيرات
وأكمل: علينا أن نتعامل مع الواقع بعقل منفتح. فقد نحتاج إلى دراسة مراد الشرع في بعض القضايا وفقا للظروف الاجتماعية. ولا بد من وضع تفسير يلائم هذه القضايا والمتغيرات التي تطرأ على المجتمع. وقال: “لا نحتاج إلى أن تتبنى الدولة فكرة التجديد. بقدر ما نحتاج إلى دعم الدولة للمؤسسات الدينية لإخراج منتجات عصرية تلائم الظروف الراهنة. كالمشروع الذي بدأه الدكتور مصطفي محمود أو الإمام محمد عبده ولم يسلموا من النقد لتقديمهما رؤية مغايرة للموروث”.
وذكر أن جمود بعض فقهائنا في التعامل مع التجديد أدى للتطرف الفكري في تاريخنا الإسلامي. فهناك من يتناول التراث من منظور التبديد أو من منظور التحديث الغربي. وهناك من يتعامل بمنظور نقدي وتصحيحي لإعادة بناء قواعد الفقه.
وأشار إلى وجود العديد من القضايا التي تحتاج إلى وضع تفسيرات أخرى لها مثل قضايا المرأة والزكاة والأوقاف. والتي نتجت عن التعامل مع المجتمعات العصرية. فالمجتمع المصري –حسب رأيه- بطبيعته حضري منذ القدم ويختلف عن المجتمع البدوي الذي أنزل فيه القرآن. فالقضايا تختلف حسب الحالة الجغرافية وبالتالي التفسير والفقه يختلفان مع القضايا من مكان إلى آخر.
تجديد الخطاب الديني وفرض الوصاية
وقال النائب محمد سليم -وكيل اللجنة الدينية بـ”الشيوخ”- إن المقترح الذي طالب خلاله بتفسير عصري للقرآن يعبر عن وسطية الإسلام. حيث إن الموضوع الآن قيد الدراسة وسيكون في حيز التنفيذ بعد الموافقة رسميًا عليه.
ويرى “الهلالي” أنه حتى الآن لم يتم اتخاذ أي خطوات في مسألة تجديد الخطاب الديني. فلا بد من التفريق بين الفكر والدين. فالفكر منتج بشري متغير أما الدين نص لا تغيير فيه. وهناك فرق بين الفقه والشريعة. فالحكم الفقهي هو اجتهاد من الفقيه المجتهد في مسألة لا نص فيها. وقد يصيب المجتهد أو يخطئ. أما الحكم الشرعي فهو قطعي الدلالة وليس فيه اجتهاد –حسب قوله.
وقال “الهلالي” لــ”مصر 360″ إن خطابنا الديني يفتقر إلى الصدق والأمانة ويفرض الوصاية في تناول العلوم الدينية وطرحها. وتابع: “نصوص الكتاب أو السنة والحكم الفقهي يكون بفهم الكتاب والسنة وما استنبطه العلماء منهما. وليس من حق مؤسسة احتكار الحقيقة أو الذهاب إلى أن رأيها هو الصواب الأوحد. لأن ذلك يخالف مراد الله من نزول الشرائع”.
وقال عمرو عبد المنعم -الباحث في الشؤون الدينية- إن دار الإفتاء المصرية خطت خطوات جادة لتجديد الخطاب الديني يجب دعمها. حيث عملت على قضية التجديد انطلاقا نحو عام 2022 فأنشأت مركزا للسلام العالمي. وذلك للتعامل مع قضايا التطرف. فيما تُصدر تقارير جيدة في هذا الشأن. بالإضافة إلى اشتباكها مع قضايا التجديد ودمجها والتعامل معها بحرفية وفق آليات الواقع”.
فلسفة جديدة في فهم القرآن
وقالت الدكتورة آمنة نصير: “نحتاج إلى فلسفة جديدة في فهم آيات القرآن تتماشى مع العصر لتأويل آيات القتال والجهاد. دون المساس بالنص القرآني كما جاء. وأوضحت أن كل آية لها ظروف. وفي المجمل جاء النص لمواجهة العداء الذي واجهه الإسلام في بدايات ظهوره وهذا شيء طبيعي. صراع السابق مع اللاحق. أما الآن فقد رسخ الإسلام وأصبح هناك أكثر من مليار ونصف المليار مسلم في العالم. من هنا ومع مستجدات العصر لا بد أن نفهم الظروف التي نزل فيها القرآن. والظرف الذي نحن فيها الآن. والرد على الحرب الفكرية التي تشن ضده بسبب الجمود الفقهي.
موقف الأزهر من التجديد
بدا موقف الأزهر متشددا من قضية التجديد الديني. وهو ما عبر عنه شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب خلال مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي العام الماضي. فقد اختلف شيخ الأزهر مع رؤية رئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد عثمان الخشت في”تجديد التراث الإسلامي”. حيث ذهب “الخشت” إلى “عدم جدوى ترميم البناء القديم. بل تأسيس بناء جديد بمفاهيم حديثة لتحقيق عصر ديني جديد”. فيما رد شيخ الأزهر على أهمية التراث الذي “خلق أمّة كاملة” وسمح للمسلمين “بالوصول إلى الأندلس والصين”. مضيفاً أن “الفتنة الحالية سياسية وليست تراثية”.
شيخ الأزهر أعلن في إحدى تغريداته على موقع “تويتر” موقفا أكثر اعتدالا في قضية التراث والتجديد. وقال: “الدعوة لتقديس التراث الفقهي ومساواته في ذلك بالشريعة تؤدي إلى جمود الفقه الإسلامي المعاصر. نتيجة تمسك البعض بالتقيُّد -الحرفي- بما ورد من فتاوى أو أحكام فقهية قديمة كانت تمثل تجديدا ومواكبة لقضاياها في عصرها”.
وتسود المؤسسة الدينية الرسمية –الأزهر- حالة من الغموض من قضية تجديد الخطاب الديني. وهو ما ظهر في عدم تعليقها على مشروع التفسير اعصري للقرآن الذي طرحه مجلس الشيوخ مؤخرا.
وعن موقف الأزهر من قضية التجديد قال عمرو عبد المنعم: “الأزهر منشغل عن هذه القضايا بالصراعات الداخلية. فهناك غموض في موقف الأزهر من قضية تجديد الخطاب الديني. حيث يسير الأزهر منفردا في تناول أو الرد على بعض القضايا بعيدا عن رؤية الدولة ومؤسساتها”.
وردّ “عمرو” ذلك إلى تأثير “الهيراركية الوظيفية” أي الهيمنة الاجتماعية للمنصب. ما سمح لبعض المؤسسات –كالأوقاف والإفتاء- بالقفز على دور الأزهر. وأكد أن رأي الأزهر “استشاري وليس ملزما فقهيا”.
وأوضح: “حال الانتهاء من التفسير العصري واعترض الأزهر عليه وفقا للمادة 7 من الدستور فإن التفسير سيتم إقراره. وذلك لأن الأزهر رفض سابقا قانون الإفتاء لكن تم إقراره”.
الإبراهيمية أطروحة مشبوهة
كان الدكتور أحمد الطيب -شيخ الأزهر- أعلن سابقا رفض المؤسسة الدينية رسميًا مشروع دمج “الديانات” في دين واحد -الدين الإبراهيمي. وأثار هذا الرفض حالة جدل محليًا وعربيًا.
واختلف الكتاب والمفكرون حول دوافع الأزهر في هذا الرفض. فرأى البعض أن أهميته دينية في دفاعه عن الإسلام. فيما رأى آخرون أهمية سياسية تكمن في رفض مشروع التطبيع مع إسرائيل.
و”الإبراهيمية” في أساسها مشروع “إسرائيلي-أمريكي”. يهدف في حقيقته إلى فرض التطبيع الذي هرولت نحوه دول عربية مؤخرا. خاصة بعد إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عنه في أكتوبر 2020.
وقال الباحث في الشؤون الإسلامية عمرو عبد المنعم إن “الإبراهيمية” أطروحة مشبوهة تم استخدامها ظاهريا لترسيخ فكرة السلام العالمي. بينما تهدف أساسا إلى إرساء قواعد التطبيع مع إسرائيل وتهميش القضية الأساسية وهي “الحق في الأرض”. وذهب إلى أن مصر “لن تطبع على الإطلاق”. وأن هناك حالة من الرفض الشعبي والقوى والكيانات النقابية لفكرة التطبيع.