قطع 2500 من أشجار الصعيد، إزالة 396 فدان بمدينة نصر، واقتلاع 300 شجرة بحدائق المنتزه في الإسكندرية»، أرقام وإحصائيات لنواب بالبرلمان وخبراء في الشأن البيئي، تتزامن مع قرب انطلاق مؤتمر الأطراف (COP27) للمناخ في شرم الشيخ نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ليصفوا الأمر بـ”الطريق المفروش بالأشجار المقطوعة”.

اقرأ أيضا.. حركة المناخ تحشد لإثارة الملف الحقوقي في مصر.. ماذا ينتظر مؤتمر شرم الشيخ؟

وعلى مدار الفترة الماضية، لم يتوقف الجدل الدائر على مواقع التواصل الاجتماعي، حول صور ومقاطع فيديو يتم تداولها لإزالة الأشجار والمساحات الخضراء بعدد من المناطق والمحافظات المصرية. آخرها ما أثير حول الحديقة الدولية بمدينة نصر بالقاهرة، والتي استوجبت بيانا رسميا لنفي الإزالات والتأكيد على أن ما يجري هو مجرد تطوير.

استهداف الحدائق

إزالة أشجار في حي المقطم بالقاهرة”إزالة أشجار معمرة، ونخل تاريخي، ونباتات تعود لعصر الخديوي إسماعيل” نموذج لما جرى بحق حديقة الطفل في المنصورة، كحلقة في سلسلة من وقائع استهداف الحدائق والمساحات الخضراء، تماما كما جرى في حديقة الأسماك بالزمالك والمريلاند بمصر الجديدة في القاهرة، وهدم حدائق “صباح الخير وعروس النيل” بالمنصورة.

شكاوى مرة مليئة بالحزن الممزوج بالاستياء تحدث بها مواطنون في منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، ومداخلات هاتفية تلفزيونية، حيال مشاهد تدافع الماكينات العملاقة التي تزيل الأشجار من جذورها. حيث فوجئوا بين ليلة وضحاها بتحول مساحات كاملة من اللون الأخضر الزاهي إلى الأصفر الصادم، فالمناطق التي عرفوها جيدا كمتنفس للأكسجين النقي، باتت مساحات وكتل خرسانية باسم “التطوير”.

جاءت أحد أوضح التوصيفات التي تم إطلاقها على ماجرى في بعض المناطق من إزالة الأشجار والحدائق، هو ما أطلقه النائب البرلماني أحمد بلال في طلب إحاطة رسمي لوزير التنمية المحلية ضد محافظ الغربية. حيث قال النائب: “التدمير وليس التطوير”. هو ما حدث نتيجة إزالة الحدائق من شارع البحر في المحلة الكبرى، بهدف نهب المال العام وليس التطوير، الشارع الذي كان متنفسا للمحلاوية تم تدميره عمدا. بحسب بلال.

نقص المساحات الخضراء

بحسب البيانات الواردة في المؤشر العالمي الذي يقيس جودة الهواء في 6475 مدينة حول العالم، فإن القاهرة جاءت ضمن الدول الأعلى في معدلات التلوث. حيث احتلت المركز الـ 27 من بين 117 دولة على مؤشر تلوث الهواء خلال 2021.

وتم الربط بين تلك الإحصائية، وبين ما يمتلكه الفرد المصري من نصيب في المساحات الخضراء، وهو ماجاء في بيان رسمي صادر عن عضوة البرلمان الدكتورة ندى ثابت، التي ذكرت، أن نصيب الفرد من المساحات الخضراء في القاهرة يقدر بـ 5.1 مترا مربعا، وهو من أقل المعدلات بين مدن العالم، حيث يبلغ متوسط المعدل العالمي 81 مترا مربعا للفرد.

أما بالنسبة لإجمالي عدد السكان في عموم مصر، أظهرت أحدث بيانات الجهاز المركزي للإحصاء في العام 2019 أن المساحات الخضراء الموجودة بالفعل في مصر أقل من 10% من المساحات الواجب توافرها لعدد السكان. كما أن تقريرا أصدرته منظمة الصحة العالمية عام 2016، كشف أن تراجع المساحات الخضراء في مصر أدى إلى تخطي نسب التلوث فيها المؤشرات الدولية بمعدل 7 أضعاف، نتيجة لكثرة المخلفات وعوادم المصانع والسيارات وغيرها من ملوثات البيئة في غياب الأشجار والنباتات.

وأعلنت النائبة أنه من وقتٍ إلى آخر يقوم مسئولو الأحياء بقطع الأشجار، والتي طالت مواقع عديدة في مختلف المحافظات مثل قطع أكثر من 300 شجرة في حدائق المنتزه بالإسكندرية.

“اتحضر للأخضر” بالحرب عليه

إزالة أشجار في مصر الجديدة

“نرى قطع صريح للأشجار، دون خطط للتطوير أو التجميل” هكذا قال شكري أسمر الناشط في مجال الحفاظ على البيئة، ورئيس مؤسسة تراث مصر الجديدة، الذي أضاف أن هناك مجموعة من المفارقات غير المفهومة. ما بين إطلاق مبادرات اتحضر للأخضر واستضافة قمة عالمية للمناخ، وما بين الحركة الموسعة لإزالات للأشجار التي تتم بين الحين والآخر في العديد من المناطق والأحياء والمحافظات. قائلا لـ”مصر 360″: “نشعر أن الأمر أشبه بحرب متعمدة ضد كل ماهو أخضر، رغم عظم فائدة تلك المساحات الخضراء”.

وأوضح أن الأشجار والمساحات المزروعة والخضراء لايمكن التعامل باعتبارها “رفاهية“، وإنما هي صلب الحفاظ على الحياة بشكل أساسي ومباشر وليس للرفاهية. وتعاملات المواطنين اليومية تحتاج إلى الأشجار تماما كما تحتاج إلى الطرق والكباري والمشروعات التجارية. وأن أرقام مريرة تظهر فقدان منطقة كمصر الجديدة 396 فدان من المساحات الخضراء، في الفترة الزمنية ما بين أغسطس 2019 لـ فبراير 2020.

وأشار بأن هناك أشجار تاريخية يجب الحفاظ عليها، ولا يمكن تعويضها بأي شكل بعد قطعها، وأن فوائد الأشجار تتضاعف في أوقات التغيرات المناخية الحادة. وأن الانتباه يجب أن يتضاعف لعدم المضي قدما في قطع مزيد من الأشجار. وأن يكون هناك مبادرات في المقابل لزرع أشجار بأضعاف الأعداد التي تم قطعها.

أعرب شكري أسمر عن تعجبه الشديد، من غياب الإشراك الحقيقي للمواطنين وأصحاب الأماكن السكنية أو السكان القدامى في الأحياء العريقة بالقاهرة والمحافظات. في مسألة تغيير معالم تلك الشوارع والمحاور وإزالة المساحات الخضراء منها، الحوار المجتمعي “مبتور”، على حد وصف شكري أسمر، الذي أكد على أن هناك من بين السكان من هم خبراء في علوم الاجتماع والهندسة والزراعة، رأيهم مهم على المستوى المجتمعي والاستشاري أيضا.

واختتم بأن المؤسسات الوسيطة بين المواطن والدولة عليها دور في هذا الشأن، لجان كالبيئة والثقافة والإعلام في المجالس النيابية، وهناك لجنة باسم التماسك المجتمعي في الحوار الوطني، كلها منابر عليها أن تنقل نبض الناس واعتراضاتهم التي تملأ ساحات مواقع التواصل الاجتماعي ضد عمليات قطع الأشجار

الحكومة: لا خطة بديلة للأشجار المقطوعة

مشروع تبطين الترع

“لا توجد خطة لتقليل الأشجار حفاظا على المياه في ظل الشح المائي الذي تعاني منه البلاد. لكن هناك أسباب قد تعود إلى إزالة مسطحات خضراء بسبب مشروعات قومية، كتبطين الترع، الذي يعوق الشجر وجذوره، عملية التدبيش”.

“كما إنه لا توجد خطة لزراعة شجر آخر بديل لما يتم إزالته، والأمر متروك لإدارات الري في المحافظات والمناطق كل على حدة”. هكذا صرح المهندس محمد غانم، المتحدث الرسمي لوزارة الري والموارد المائية، لصحيفة الأهرام في مايو/آيار الماضي.

تحركات برلمانية

“على مدار الفترة الماضية، لم تتوقف جولاتي الميدانية، لمحاولة فرملة مساعي إزالة الأشجار”.. بتلك العبارة افتتحت النائبة البرلمانية سميرة الجزار حديثها لـ”مصر 360″. حيث أكدت عضو الهيئة البرلمانية لحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، أنها نشطت الفترة الأخيرة في مجال التصدي لقطع الأشجار في حدائق الميريلاند بمصر الجديدة. كما أنها حركت عديد من الأدوات البرلمانية والأسئلة والبيانات العاجلة، في هذا الشأن على وجه الخصوص. وطالبت بمجموعة من التوصيات التي رأت أنها ضرورية وشديدة الصلة بتحسين أحوال المواطنين، من خلال تحسين البيئة التي يعيشون فيها.

وتابعت النائبة البرلمانية بقولها: سبق واعتبرت قطع الأشجار بأنه “جريمة” في حق المصريين، وذلك في سؤال برلماني رفعته إلى رئيس مجلس الوزراء، ووزراء التنمية المحلية و البيئة، وأنها كانت تبادر بالنزول في جولات ميدانية للوقوف على ماكان يوصف بـ”أعمال التطوير” للحدائق، والتي كان يتم خلالها إزالة للمسطحات الخضراء، وأنها طالبت على مدار الفترة الماضية، بمجموعة من التوصيات التي أكدت أنها ستظل تدافع عنها تحت قبة البرلمان.

“12 توصية عاجلة مطلوبة في التعامل مع مسألة قطع الأشجار”، هكذا أكدت النائبة سميرة الجزار، التي قالت إنه لا يجب النظر لمسألة القطع والإزالات باستخفاف، لا يتناسب على الأقل مع توجه الدولة المعلن نحو التحضر للأخضر ورعاية مؤتمر عالمي للبيئة والمناخ، حيث طالبت أولا بإلزام وزارة الزراعة ودواوين المحافظات بوقف قطع الأشجار نهائيا مهما كانت المبررات إلا بعد تشكيل لجنة مختصة توصي بالقطع من عدمه.

أشجار المريلاند بعد إزالتها

وتعود أهمية تلك اللجنة، إلى أن مصر –بحسب النائبة- هي من البلدان التي تملك كنوزا من الأشجار والنباتات شديدة الندرة، والتي تعود إلى مايقارب الـ 150 عاما. ففي محيط الزمالك، هناك أشجار الفيكس دائمة الخضرة وكثيفة الظلال، وأيضا “أشجار المطرية” التي تعتبر امتدادا للعصر القبطي، وأشجار قصر محمد علي باشا، والتي يعود تاريخ زراعتها إلى العام 1901، بخلاف نوعيات نادرة تضمها حديقة الأسماك.

وواصلت: “يجب الشروع فورا في منع التعدي على جميع المسطحات الخضراء، مع إلزام الأحياء بالحفاظ على الغطاء النباتي، والوضع في الاعتبار أنه لا يجوز تطوير أي حديقة أو منشأة إلا بعد الرجوع لمؤسسة المجتمع المدني”، تماشيا مع توجيهات رئاسية اعتبرت أن العام 2022 يخص المجتمع المدني، والتوصية التالية لها تتعلق بعدم جواز بيع الأشجار المقطوعة ونواتج التقليم نهائيا، والعمل على توريدها لمصانع الأسمدة الخاصة بالدولة فقط، لمنع المساعي الربحية التي قد تؤدي لقطع الأشجار.

واشترطت النائبة بعدها حفاظا على الأشجار، أن يكون هناك إشراف من مهندسين زراعيين على عمليات التقليم، تجنبا للتقليم الجائر مع مراعاة أوقات التقليم العلمية والموسمية، وتفعيل القانون الذي يجرم قطع الأشجار وتطبيقه بكل حزم، والعمل على زيادة أعداد الأشجار، وتحديدا تلك التي تحجب أشعة الشمس وتقليل درجات الحرارة وزيادة نسب الأكسجين لتحسين البيئة. واعتماد شبكات الري الحديثة للأشجار، مع وضع سياج حول الأشجار يمنع الاعتداء على المسطحات الخضراء، بخلاف خطوة تكميلية متمثلة في إقامة أعداد من النوافير التي لها أثر بيئي في تنقية الهواء مع الأشجار. وأخيرا تدشين حملة للتوعية بمدى أهمية الأشجار والمسطحات الخضراء وأثرها الإيجابي وكون القطع جريمة يعاقب عليها القانون.

تصعيد قضائي

جولة قضائية انتصر فيها المحامي المتخصص في قضايا البيئة أحمد الصعيدي، حينما حصل في نوفمبر الماضي على حكم فى الشق العاجل بالدعوى بإحالتها لمكتب خبراء شمال القاهرة لتحديد المساحات الخضراء التي تمت إزالتها ودراسة ما إذا تمت مراعاة الاشتراطات البيئية قبل تنفيذ المشروعات التي تطلبت الإزالة، وتحديد الأضرار البيئية المترتبة، وهو ماجاء على إثر دعوى رفعها أمام القضاء الإداري في إبريل 2020.

التصعيد القضائي استهدف الطعن على القرار السلبي بامتناع المسئولين المختصين عن إصدار قرار بوقف قطع الأشجار وإزالة الحدائق العامة إلا بعد إجراء دراسة لتقييم الأثر البيئي الناجم، حيث ذكر الصعيدي في دعواه أنه في منطقة واحدة ربما يصل عدد ماتم إزالته من أشجار 2500 شجرة، كما حدث في عدد من المحافظات بالصعيد، ومناطق مصر الجديدة وجسر السويس ومدينة نصر والعجوزة والحلمية بالقاهرة، وهو ما أكد أنه يؤدي مباشرة إلى: “التدهور بيئي نتيجة نقص نسبة الأكسجين وتزايد انبعاثات السيارات”.

مصانع الحياة

وصف الدكتور مجدي علام، مستشار برنامج المناخ العالمي وأمين اتحاد خبراء البيئة العرب، المضي قدما في قطع الأشجار بأنه “جنون” وليس مجرد خطأ، موضحا لـ “مصر 360″، أنه حينما تقدم عمدا على أن تخنق نفسك بنفسك، فحينها يكون الأمر جنون وليس خطأ عابر، وأن قطع الأشجار التي تشكل رئة الأرض هو مسألة لا يمكن التهاون بشأنها.

وأضاف: “لايمكن النظر إلى الشجر على اعتبار أنه خشب أو مواد قابلة للبيع والتجارة والاستفادة منها، أو الاستفادة من إزالتها تجاريا، وإنما هي مصانع أكسجين كاملة، فيجب أن نتخيل لو أننا بصدد مصانع عملاقة لا تنتج السلع أو الأشياء الاستهلاكية العادية، وإنما وظيفتها الكبرى تتمثل في أنها تنتج لنا الأكسجين الذي نحتاجه لكي نتنفس، والوظيفة الأخرى امتصاص التلوث من الهواء وتحويله إلى نشا، عبر امتصاص ثاني أكسيد الكربون”.

في ظل الثورة العمرانية والإنشائية التي تقوم بها الجهات التنفيذية بالدولة، فإن تجنب الآثار المباشرة لنواتج تلك الإصلاحات والإنشاءات يتطلب زيادة المساحات الخضراء، لأن غيابها يرتبط بحسب دراسات طبية في دورية جمعية القلب الأمريكية، بزيادة حالات الوفاة نتيجة أمراض القلب، وزيادة حالات الأزمات القلبية والجلطات الدماغية، نتيجة انتشار الغبار الأسمنتي وتراجع المساحات الخضراء.

واستطرد: لو أننا أمام مصانع عملاقة للأكسجين تقوم بكل تلك الوظائف المقدسة، بخلاف أنها توفر الظل للمواطنين، ولاتعارض بأي شكل مخططات التطوير والتعمير، فهل يمكن حينها أن نستغنى عنها بسهولة، الإجابة على ذلك بالنفي القاطع، ولا أقول إن شجرة واحدة يتسبب قطعها في أثر بيئي سلبي، وإنما ورقة واحدة خضراء يتم فقدها تحرمنا من الهواء النقي.

“استغرب من ينظرون إلى مسألة التشجير على أنها لغرض التزيين، كيف لايدركون أن التكوين الذي سمح بالحياة على سطح الأرض كان 40% منه غطاء أخضر في هيئة غابات” يسرد “علام”، الذي أضاف أن الأمر يتعلق دون أي مواربة بمعادلة الحياة والموت، وعلينا أن ننظر إلى ما نطلقه من مبادرات “اتحضر للأخضر”، وقمة المناخ المرتقبة، وأن يكون هناك اتساق بين ذلك وبين مايتم تنفيذه على أرض الواقع.

ويبرز هنا نماذج عالمية لدول اهتمت بالمساحات الخضراء ورفضت هدم حدائق هامة فيها حفاظا على حقوق المواطنين في مساحة خضراء للتنفس، وهي مدناً عالمية تواجه أزمات مرورية مزمنة، لكنها لم تلجأ للتجريف أو الإزالات، ونذكر منها نيويورك التي تتوسطها جزيرة مانهاتن، ولم تمنع مشروعات ناطحات السحاب والعمارات المرتفعة، وجود حديقة كالسنترال بارك الضخمة والعريقة، وهو الأمر ذاته الذي تكرر مع مدن أوروبا، من أمثال لندن وباريس وأمستردام وروما، التي تحوي رئات خضراء للتنفس، دون المساس بها بأي شكل.