لا أظن أن أحدا لا يزال يجادل في أثر وأهمية مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، بصفة خاصة في عكس توجهات الرأي العام في مصر، كما هو الحال في غيرها من بلاد العالم اليوم. في أقرب إحصاء لعدد الحسابات المصرية بأنواعها المختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، تخطى مجموعها 35 مليون حسابا. إذا ما حاولنا تقدير عدد الأشخاص الذين يستخدمون الموقع لنشر وإعادة نشر محتوى نصي أو صور فوتوغرافية أو فيديو أو غيرها، فلن يقل عددهم بأي حال عن 25 مليون مستخدم، بعد استبعاد الحسابات المكررة لنفس الشخص، وصفحات الجهات المختلفة والمجموعات إلخ. في المحصلة، موقع فيسبوك يستضيف بالتأكيد أكبر تجمع للمصريين، وأهم منصة يمكن من خلالها للمصريين التعبير عن آرائهم، بقدر ما من الحرية، ليس كبيرا، ولكنه في كثير من الأحيان كاف كمؤشر لمواقفهم وتوجهاتهم.

عندما أشار الرئيس عبد الفتاح السيسي في حديث له مؤخرا إلى نيته تحمل المسؤولية عن قرار قريب برفع سعر رغيف الخبز المدعم، كان ذلك بالطبع موضع الاهتمام الأول للمصريين على موقع فيسبوك طوال الأيام الماضية. وبخلاف القضايا العديدة التي شغلت وتشغل مستخدمي الموقع من المصريين، فقد كانت قضية الخبز المدعم استثنائية في جانب ربما لم يغب كثيرا عن أذهان من اهتموا بالتعليق عليها، فأشار كثيرون منهم إليه وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة. على وجه التحديد وجد كثيرون من واجبهم أن يذكروا من يقرأون تعليقاتهم بأن القضية لا تخصهم، لأن أغلبهم إن لم يكونوا جميعا ليسوا من مستهلكي الخبز المدعم، الذي يباع حتى اليوم بسعر خمسة قروش للرغيف الواحد، وهي فئة من العملة المصرية لم يعد لها وجود أصلا.

 

مصر تنتج من 250 إلى 270 مليون رغيف في اليوم
مصر تنتج من 250 إلى 270 مليون رغيف في اليوم

مستهلكو الخبز المدعم في مصر هم أكثر فئات السكان فقرا على الإطلاق، وهم فقراء إلى حد أنهم أيضا بلا أدنى شك الأقل تمثيلا من بين فئات المجتمع المصري على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. فبقدر ما قد يبدو هذا غريبا بالنسبة لك، ثمة في مصر، وفي بلدان أخرى من العالم أيضا، من هم أفقر من أن يمتلكوا هاتفا ذكيا، بما في ذلك الهواتف الصينية غير الأصلية، التي تباع بمئات لا بآلاف الجنيهات. هؤلاء ليسوا فقط بعيدين عن الفراغ العام الافتراضي الذي يمثله فيسبوك، بل هم في الحقيقة بعيدون أيضا عن أعين أغلب رواد هذا الفراغ حتى في حياتهم اليومية، ومن ثم فكثيرون منهم لا يعرفون الكثير عنهم، أو عن مدى فقرهم. في الواقع مفهوم الفقر السائد لدى كثيرين من الطبقة المتوسطة العليا في مصر، يقتصر على ما يعرفونه من خلال نماذج المحتكين بهم بصفة يومية: المساعدة المنزلية، بواب العمارة، فتى توصيل الطلبات، عامل السوبر ماركت، إلخ. وهؤلاء في معظمهم يملكون هواتف ذكية، وهم يستخدمون تطبيق واتساب للتواصل إضافة إلى أن من المعتاد أن يكون لبعضهم حساب على فيسبوك. ولكن الحقيقة أن هؤلاء، برغم التدني الشديد لدخولهم والفجوة الهائلة التي تفصلها عن متوسط دخول أبناء الطبقة المتوسطة العليا، ليسوا الأكثر فقرا في مصر.

يعيش الأكثر فقرا في مصر في غالبيتهم العظمى في الريف، وتوجد أكبر تجمعاتهم في قرى المحافظات الأكثر فقرا في مصر؛ سوهاج والمنيا وغيرها في الصعيد. إن كنت من سكان القاهرة أو الإسكندرية، فنادرا ما ستلتقي بأحد هؤلاء الذين لا يعيشون فقط تحت خط الفقر، ولكنهم يعيشون تحت خط الجوع أو على مقربة شديدة منه. وخط الجوع إن لم تكن تعلم يمثله الحد الأدنى من الدخل الكافي للحصول على غذاء بقدر حاجة جسد الإنسان العادي، بعبارة أخرى، إنه ما يكفي تغطية كلفة طعام يقيك من الإصابة بأمراض سوء التغذية. بالنسبة لهؤلاء، يمثل رغيف الخبز المدعم، ذو القروش الخمسة، المكون الرئيسي، وفي أحيان كثيرة المكون الوحيد، لوجباتهم الغذائية. وهو بالطبع لا يساعد بأي حال على وقايتهم من أمراض سوء التغذية، فالخبز في النهاية فقير في المكونات المطلوبة لذلك، ولكنه فقط يحفظ عليهم حياتهم، فالخبز الفقير في المكونات الغذائية التي تحفظ الصحة وتسهم في إعادة بناء خلايا الجسم (البروتينات والفيتامينات)، هو غني بالمكونات ذات السعرات الحرارية العالية التي يستخدمها الجسم لتوليد الطاقة التي تحفظ حرارة الجسم وتمد العضلات بالقدرة على العمل. الخبز ببساطة هو نموذج الغذاء الذي يساعد الناس على البقاء على قيد الحياة والاستمرار في العمل.

مصر تنتج 8.1 مليار رغيف خبز مدعم شهريًا،
مصر تنتج 8.1 مليار رغيف خبز مدعم شهريًا،

بالنسبة لهؤلاء الذين يعيشون بالكاد فوق خط الجوع، يسمح لهم السعر المتدني لرغيف الخبز المدعم بأن يضيفوا إليه بعض (الغموس): الفول المدمس، الخضروات المطبوخة، إلخ. يمثل هؤلاء قطاعا ضخما من سكان مصر، وهم من سيتأثر أكثر من غيره برفع سعر الخبز المدعم، فبعض تقديرات الخبراء تقول أن رفع سعر رغيف الخبز من خمسة إلى عشرة قروش يمكن أن يهبط بـ 5% من سكان مصر كلها إلى ما تحت خط الجوع. هؤلاء أكثر من خمسة ملايين مصري، حوالي مليون أسرة مصرية، يحكم عليهم قرار واحد بأن ينضموا إلى ملايين سبقوهم إلى العيش دون ما يكفي من طعام ليبقوا فقط أصحاء دون أمراض يسببها فقرهم بشكل مباشر.

هؤلاء جميعا ليس لأصواتهم وجود على شبكات التواصل الاجتماعي، فهم لا يملكون إمكانية الوصول إليها أصلا، وأغلبهم من بين الأميين الذين لا يجيدون القراءة والكتابة ولا زالت نسبتهم تبلغ حوالي 40% من سكان مصر. ومن ثم فمن تتح لهم المشاركة في إبداء رأيهم في قضية رغيف الخبز من خلال المنصات التي تعكس توجهات الرأي العام في مصر، وتهتم المؤسسات الرسمية للدولة برصدها والاستجابة أحيانا لها، لا يملك أي منهم خبرة مباشرة بما يتحدثون عنه. لذلك يمكنك أن ترى كثيرا من الآراء المبنية على معلومات وهمية أو منتزعة من سياقها مثل الادعاء المتكرر بأن الخبز المدعوم ينتهي الحال بمعظمه إلى أن يستخدم كعلف للدواجن والماشية. مثل هذا التصور الساذج يفترض أن من يعيشون على الخبز وحده لديهم فائض منه يبيعونه لمن يجمعه لاستخدامه كعلف، أو أنهم هم أنفسهم يربون دواجن يستخدمون الخبز كعلف لها. ثمة من يفعل ذلك، وتلك من صور القصور في منظومة توزيع الخبز المدعم، ولكن غالبية من يشترون هذا الخبز، يشترونه لاستهلاكه كطعام يحفظ عليهم حياتهم.

مصر تتصدر دول العالم في استيراد القمح
مصر تتصدر دول العالم في استيراد القمح

لا تقتصر الآراء المطروحة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها فيسبوك، على من يؤيدون قرار رفع سعر رغيف الخبز المدعم، بناء على الأثر الاقتصادي على عجز الموازنة أو على أساس تصورات سطحية حول إساءة استخدام الخبز المدعم لأغراض ربحية. ثمة أيضا من يستخدمون حجة أن غالبية من يتوجهون إليه بخطابهم على فيسبوك لا يستهلكون هذا الخبز بل يعتمدون على فئات من الخبز تبدأ أسعارها من خمسين قرش، وجنيه واحد، وتصل إلى جنيهن للرغيف الواحد، ليطالبوا معارضي رفع سعر الرغيف المدعم، بالامتناع عن التدخل فيما ليس من شأنهم. في اعتقادي هذا المنطق هو الأسوأ على الإطلاق، من حيث كونه مضللا في الأساس، وكونه غير أخلاقي أو إنساني إلى حد بعيد. جانب التضليل في هذه الحجة واضح في إغفاله حقيقة أن الآثار الاجتماعية الناشئة عن المزيد من إفقار من هم بالفعل الأكثر فقرا بالمجتمع، لا يمكن بأي حال ألا تمتد إلى غيرهم من الفئات. لا يعني أنك لن تتأثر بشكل مباشر برفع سعر سلعة لست من مستهلكيها أن آثار ذلك لن تصل إليه بشكل غير مباشر. ازدياد نسب الفقر وحدته بأي مجتمع تنعكس بشكل مباشر في صورة تصاعد للعنف فيه بكل صوره، وتنعكس بلا شك في تزايد نسب الجريمة بأنواعها. ثمة مصلحة مباشرة للجميع باختلاف طبقاتهم في الحفاظ على حد أدنى من الحياة القابلة للاحتمال للأكثر فقرا بالمجتمع، وهذا دون حتى الحاجة إلى تناول الأمر من جانب أخلاقي أو إنساني.

تامر موافي: عندما يحول الفقر المدقع بين فئة من فئات المجتمع وبين أن يكون لها أي صوت مسموع من خلال الفراغ العام الوحيد الذي لا يزال متاحا للمواطنين العاديين، يصبح من واجب من يمكنهم الوصول إلى تلك المنصة أن يدافعوا عن حقوق المغيبين عنها.

ولكنني في الحقيقة أرفض أيضا إغفال الجانب الأخلاقي والإنساني، في هذه القضية وفي غيرها. وليس هذا مجال لشعارات مثالية جوفاء بأي حال، ولكنه بالعكس مجال للحديث العملي عن العدالة والحقوق. يغفل كثيرون حقيقة أن الوطن كوجود مادي، كأرض لها موارد مختلفة هو ملك لجميع مواطنيه على السواء، وأن الدولة ككيان أحد وظائفه إدارة هذه الموارد، هي أيضا مملوكة لجميع مواطنيها على السواء. إيرادات الموازنة العامة جميعها، تقوم الدولة بتحصيلها بموجب سلطة يشارك في منحها للدولة جميع المواطنين بالتساوي، ومن ثم فلهم نصيب متساو فيها. الضرائب التي تحصلها الدولة وتبلغ اليوم أكثر من 70% من إيرادات الموازنة العامة، تكمن شرعيتها في تفويض المواطنين للدولة بتحصيلها، بمبرر هو أن من يدفعها يرد إلى الدولة والمجتمع جزءًا من دخله أو أرباحه مقابل الخدمات العامة، ومقابل السماح له باستغلال موارد المجتمع للحصول على العمل، وتحقيق الأرباح. بدون تلك الشرعية، تصبح الضرائب إتاوة تنتزع قسرا، ويصبح تصرف الدولة في مصادر الدخل السيادية الأخرى (قناة السويس، البترول، الغاز، إلخ)، نوع من أنواع الاختلاس. في المحصلة، مهما بلغ فقر أي مواطن مصري فهو في النهاية يملك نصيبه من موارد هذا الوطن ودولته، وله الحق في أن يصل إليه جزء من نصيبه هذا في صورة ضمان لحد أدنى من الحياة الكريمة، ولهذا أولوية على كافة أوجه الإنفاق الأخرى في الموازنة العامة. عندما يستكثر بعضنا على شركائه في هذا الوطن، ليس فقط حقهم في حياة كريمة، بل حقهم في حفظ حياتهم ذاتها، فتلك خيانة لمفهوم المجتمع والوطن، لأنه في الحقيقة يرفض أساس هذين المفهومين.

عندما يحول الفقر المدقع بين فئة من فئات المجتمع وبين أن يكون لها أي صوت مسموع من خلال الفراغ العام الوحيد الذي لا يزال متاحا للمواطنين العاديين، يصبح من واجب من يمكنهم الوصول إلى تلك المنصة أن يدافعوا عن حقوق المغيبين عنها. في حالة قضية مثل سعر رغيف الخبز المدعم، لا يمكن الاحتجاج بأن المعنيين بالأمر قد يكون لهم رأي آخر. ليس ثمة ما هو أكثر استخفافا بالعقول من الزعم بأن أي شخص سيكون راضيا باقتطاع نسبة من دخله، خاصة عندما يكون هذا الدخل أقرب إلى العدم في الأصل. لا يحتاج الأمر إلى كثير من الذكاء لإدراك أن لا أحد يرغب في أن ينزلق عبر خط الجوع ليفقد القدرة على إطعام نفسه وأبنائه بما يكفي لحمايتهم من أمراض تهدم صحتهم وتعرقل نمو أجسادهم وقدراتهم العقلية. في الواقع أي وطن هذا الذي يرتضي لنسبة من مواطنيه بمصير كهذا على أي حال؟

نحن نعيش في ظل تضييق غير مسبوق على حرية التعبير، وليست مواقع التواصل الاجتماعي استثناء على ذلك، ولكن في حدود القليل المتاح تمنح هذه المواقع مساحة لتعبير عدد أكبر من الأفراد العاديين عن آرائهم في القضايا العامة، وفي أحيان متكررة يمكن لتوجه الرأي العام كما تعكسه أن يؤثر في قرار بعض مؤسسات الدولة. ولكننا لا ينبغي أن نخدع أنفسنا بحيث نغفل أن مواقع التواصل الاجتماعي تظل انعكاسا للمجتمع من جوانب شتى منها أن اللامساواة التي تحكمه من حيث تفاوت ما يتوافر لأفراد المجتمع من رؤوس أموال اقتصادية وثقافية واجتماعية ورمزية، تنعكس بدورها على حجم تمثيل الفئات المختلفة من المجتمع في الفضاء العام الافتراضي، وكذلك على مدى تأثير أصوات هذه الفئات. وإن كان بإمكاننا أن نحلم بأن يكون للفضاء الافتراضي إمكانيات التطور مع الوقت ليكون متاحا لفئات أكثر وليكون أكثر عدالة في توزيع التأثير بين الفئات المختلفة، فما يمكننا فعله في المدى القريب هو أن استغلال ما تتيحه الظروف القائمة للبعض بأن يستخدموا أصواتهم للقضايا العادلة حتى وإن لم تكن تمسهم بشكل مباشر. في نهاية المطاف، بعضنا لا يزال يدرك أن الوطن مركب واحد لا يمكنه أن يظل طافيا إن ترك من هم في قاعه يغرقون.