في الثاني من سبتمبر/ أيلول الجاري، وقعت إثيوبيا والصندوق السعودي للتنمية مذكرة تفاهم بشأن مبادرة تعليق خدمة الديون بينهما. (أي إيقاف دفعها لفترة مؤقتة). وذكرت وكالة الأنباء الإثيوبية أن وزير المالية أحمد شيدي التقى سفير السعودية لدى إثيوبيا، فهد الحمداني، ووفدا من الصندوق السعودي للتنمية لتوقيع مذكرة التفاهم. وأضافت الوكالة أن الجانبين ناقشا تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين.
يأتي الدعم السعودي لإثيوبيا في خضم تجدد المعارك بين القوات الحكومية وقوات إقليم التيجراي، وأزمة اقتصادية تعاني منها أديس أبابا، نتيجة هذه الحرب. بالإضافة إلى توابع الحرب الروسية الأوكرانية على اقتصادها.
وقد أدى ذلك إلى انخفاض معدل نموها الاقتصادي إلى أقل من 2% -كأدنى مستوى خلال عقدين- وانخفاض سعر عُملتها، وارتفاع معدل التضخم، وخروج الاستثمارات الأجنبية. فيما تراجعت الصادرات (نحو 7.3 مليار دولار في عام واحد نتيجة غلق المنشآت الصناعية في تيجراي)، وتجمدت المساعدات الدولية، وسط مؤشرات عن احتمالية تخلفها عن سداد الديون.
انعكس ذلك على حجم الديون الذي بلغ في 2021 نحو 57% من الناتج القومي، مع عجز في الميزان التجاري يُقدر بأكثر من 11 مليار دولار. وفي يوليو/ تموز الماضي، قال تقرير لوكالة “رويترز” إن عدة دول من دائني إثيوبيا ناقشوا إعادة هيكلة ديونها.
لماذا تكتسب إثيوبيا أهمية؟
يشير الموقف السعودي إلى أهمية بالغة يُوليها لأديس أبابا ونظام رئيس الوزراء آبي أحمد. ذلك نظرا لحجم الاستثمارات السعودية في إثيوبيا، وقد قُدرت في عام 2015 بأنها أكثر من 5 مليارات دولار، ما جعلها آنذاك ثاني أكبر مستثمر.
وقد زاد التبادل التجاري بين إثيوبيا والسعودية بنحو 577 مليون دولار من 2015 إلى 2020. وبلغ حجم التجارة بين البلدين في الفترة من 2012 إلى 2018 حوالي 6.5 مليار دولار في عام 2019.
وفق دراسة لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية -في إبريل/ نيسان 2022- فإن هناك 305 مستثمرين سعوديين حصلوا على تراخيص استثمار خلال عقد واحد في 141 مشروعا في مجال الإنتاج الزراعي والحيواني و64 مشروعا في المجال الصناعي، بالإضافة إلى مشاريع أخرى.
أشارت الدراسة أيضًا إلى أهمية تعزيز تلك الاستثمارات في سياق الحرب الروسية الأوكرانية، وتأثيرها على الأمن الغذائي. وشددت على أهمية منطقة القرن الأفريقي، حيث تزخر بإمكانات زراعية كبرى مغرية. إذ أن 44% من مساحتها الزراعية غير مستغلة، إلى جانب الثروة الحيوانية والنفطية.
وتُظهر هذه الاتجاهات الأهمية المتزايدة لإثيوبيا في إطار السياسات الخليجية، سواء الجيوسياسية كأهمية منطقة القرن الأفريقي واستقرارها، أو الأهمية الاقتصادية والغذائية التي تسيطر فيها كل من السعودية والإمارات على النصيب الأكبر من الاستثمارات؛ لضمان أمنها الغذائي.
وتكتسب تلك المنطقة أهميتها الجيوسياسية البالغة للمملكة، في إطار حربها مع جماعة “الحوثي” في اليمن المجاور؛ وسعيا لمجابهة النفوذ الإيراني المتزايد بمنطقة القرن. فضلا عن النفوذ التركي والقطري خلال فترة توتر العلاقات. كما أنها بوابة على البحر الأحمر بما يمثله من أمنها البحري.
يقول المعهد الهولندي للعلاقات الدولية “كلينجينديل”، إن أنشطة دول الخليج في القرن الأفريقي كبيرة بالفعل، ونفوذ الخليج في هذه منطقة هو ظاهرة طويلة الأمد متجذرة بعمق في السياسة ضمن هذا الحيز الجغرافي.
“الفاعلون من كلا الشاطئين لديهم مصالح كبيرة منوطة باستمرار العلاقة. للقرن تاريخ طويل من العلاقات الثقافية والدينية والاقتصادية مع الجانب الآخر من البحر الأحمر. وبالتالي، لا يمكن فهم التطورات في القرن الأفريقي دون مراعاة التأثيرات الناشئة عن دول الخليج، حيث كان لهذه الدول وستستمر في لعب دور رئيسي في تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي المعاصر”.
ويشير المعهد، إلى أن عدد الاستثمارات السعودية من 2000 إلى 2017 في إثيوبيا تجاوز بشكل كبير تلك الخاصة بجيران المملكة الخليجيين. بالإضافة إلى أن معظم استثمارات الرياض في القرن الأفريقي موجودة في إثيوبيا.
لا وساطة رغم النفوذ
تجلى اهتمام السعودية باستقرار وأمن القرن الأفريقي في الجهود الدبلوماسية السابقة في المنطقة. ففي سبتمبر/ أيلول 2018، في جدة وفي ضيافة الملك سلمان بن عبد العزيز، وقعت إريتريا وإثيوبيا اتفاق سلام أنهى رسميا عقدين من العداء.
بعد ذلك بيوم واحد، التقى رئيسا إريتريا وجيبوتي أيضًا في المملكة لإجراء محادثات بشأن نزاعهما الحدودي. كما أطلقت السعودية، مجلس الدول العربية والأفريقية في يناير/ كانون الثاني 2020. ووقعت المبادرة 8 دول، من بينها السودان وجيبوتي وإريتريا ومصر. كان ذلك بهدف التصدي للتهريب والقرصنة عبر البحر الأحمر لدعم الاستقرار في المنطقة.
ورغم هذه النجاحات، فإنها لم تسع للمراكمة عليها في جهود للتوسط في نزاع سد النهضة.
ووفق هذا المشهد، يتضح أن البلدين الخليجيين -السعودية والإمارات- ليسا مستعدين للضغط على إثيوبيا فيما يتعلق بسد النهضة، الذي تراه القاهرة مهددا لأمنها المائي. بل أنهما قد يذهبان بعيدا في دعم آبي أحمد مثلما تبيّن بجلاء في الدعم الإماراتي المالي والعسكري لحربه على إقليم تيجراي، والذي ساعده -رفقة دعم دول أخرى- على قلب موازين المعركة.
وقد كانت أول رحلة لرئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، خارج أفريقيا إلى السعودية في مايو/ أيار 2018. وتسارعت وتيرة الاستثمارات السعودية في قطاعات التصنيع والسياحة والطاقة منذ تولي أحمد السلطة.
ويشير موقع “أفريكا إنتلجنس” الفرنسي إلى أن تأكيد الرياض على بناء علاقات مع أديس أبابا، مدفوعا بمصالحها في القطاع الزراعي الإثيوبي الذي تعتمد عليه اعتمادا كبيرا. وقال الموقع إنه على مدار العام الماضي، سعى رئيس الإمارات محمد بن زايد، بنشاط إلى الجمع بين مصر وإثيوبيا والسودان من خلال المفاوضات. بينما كان نظيره السعودي محمد بن سلمان من جانبه يعزز العلاقات مع أديس أبابا.
دعم مصر في أزمة السد “معنوي” فقط
وتأتي اتفاقية تعليق خدمة الديون بعد أسابيع من إعلان إثيوبيا اكتمال الملء الثالث لسد النهضة، بقرار منفرد. وبعد أقل من ثلاثة أشهر على تأكيد المملكة -خلال زيارة ولي العهد للقاهرة في يونيو/ حزيران- دعمها الكامل للأمن المائي المصري باعتباره “جزءا لا يتجزأ من الأمن المائي العربي”. وحثها إثيوبيا على عدم اتخاذ أي إجراءات أحادية بشأن ملء وتشغيل سد النهضة.
ومطلع الشهر الماضي، عُيّن سفير سعودي جديد بأديس أبابا. وتم إطلاعه على الإجراءات التي تتخذها حكومة إثيوبيا من أجل المفاوضات الثلاثية التي يقودها الاتحاد الأفريقي بشأن سد النهضة.
يوضح طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن “الدعم السعودي للموقف المصري من أزمة سد النهضة يبقى مع ذلك مجرد دعم دبلوماسي. “فالقاهرة بحاجة لمزيد من الضغط السعودي على إثيوبيا مثل إعلان تجميد أي استثمارات في إثيوبيا في الفترة المقبلة إذا استمرت أزمة سد النهضة”.
ولكن ما يأمله فهمي لم يتحقق. بل على النقيض ظهر أن الرياض، لا تنظر إلى السد مثلما تنظر إليه القاهرة. ففي عام 2018، أشارت تقارير عن حديث عن الربط الكهربائي بين السعودية وإثيوبيا، مع توليد السد للطاقة الكهرومائية. وكذلك سياق المنافسة “الودية” بين الإمارات والسعودية في منطقة القرن الإفريقي، الذي تسعى فيه المملكة للتفوق، بحسب المحلل السياسي الأمريكي أندرو كوريبكو.
وفي نهاية عام 2021، ساهمت السعودية بـ50 مليون دولار كدعم لقطاع تنمية المياه في إثيوبيا. سبقها في مايو/ أيار 2020، إعلان الحكومة الإثيوبية حصولها على قرضين من السعودية بقيمة 140 مليون دولار. ذلك لتمويل مشروعات للبنية التحتية والطاقة وتحديدا إنشاء طرق ومحطات للطاقة الشمسية وشبكات إمداد المياه.
وفي ذلك العام، بلغ عدد المستثمرين السعوديين 229 في مختلف القطاعات بإثيوبيا، تصدرهم محمد العمودي، الذي يحمل دماء إثيوبية سعودية مشتركة. واحتل مرتبة بين أغنى الأثرياء العرب بثروة تناهز 13 مليار دولار. وهو يُعتبر “ذراع المملكة الطولي” في إثيوبيا.
ووفقا لمجلة “فوربس” الاقتصادية، فإن العمودي يعمل لديه قرابة 40 ألف شخص. ويملك مجموعة من الشركات المتخصصة في الإنشاءات والزراعة والطاقة بالسعودية وإثيوبيا. وتتولى شركته “النجمة السعودية للتنمية الزراعية” زراعة آلاف الأفدنة وتصدير منتجتها إلى الشركات العالمية كشركتي “ستاربكس” و”ليبتون”. كما يملك في أديس أبابا فندقا يحمل اسم “أفريكان يونيون جراند أوتيل”.
كما أُعلن عن اتفاقية للتعاون التجاري والاقتصادي والأمني بين البلدين، كان من ثمارها إعلان صندوق التنمية السعودية عن خطة لتمويل نحو 305 مستثمرين سعوديين للاستثمار في “تطوير الإمكانيات الإثيوبية”.
إضعاف موقف القاهرة
رغم تحالفها الوثيق مع مصر، لعبت السعودية دورا رئيسيا في تشجيع ودعم إثيوبيا في مشروع سد النهضة. وكان ذلك “بهدف إضعاف الموقف السياسي المصري وإجبار القاهرة على تنفيذ أجندات سياسية”، وفق ما يذهب إليه “المعهد المصري للدراسات“.
يدلل على ذلك بالزيارة “الغامضة” التي أجراها مستشار الملك السعودي، أحمد الخطيب، إلى موقع سد النهضة في عام 2016. وكان يرافقه وفد اقتصادي وسياسي رفيع المستوى، قبل أن يلتقي رئيس وزراء إثيوبيا آنذاك هيلي مريم ديسالين.
وبينما لم تؤكد السعودية رسميا هذه الزيارة في حينها، نقلت وكالة أنباء الأناضول عن “مصدر إعلامي مطلع” القول إن مستشار العاهل السعودي بالديوان الملكي زار السد في إطار تواجده حاليا في العاصمة أديس أبابا للوقوف على إمكانية توليد الطاقة المتجددة. وقتها قال التلفزيون الإثيوبي إن ديسالين دعا السعودية إلى “دعم مشروع سد النهضة ماديا والاستثمار في إثيوبيا”.
عبد الله موسى الطاير، رئيس مركز الخليج للمستقبل ومقره لندن، قال إن انخراط السعودية بنشاط في حل نزاع سد النهضة سيعزز مكانتها كضامن أمني في البحر الأحمر. وعلى الرغم من أن الرياض أصبحت زعيمة التحالف الأمني في البحر الأحمر في يناير/ كانون الثاني 2020، بحسب تقرير سابق لموقع “المونيتور” الأمريكي، فإنها لعبت دورا ضئيلا في منع نشوب صراع بين مصر وإثيوبيا. وهو ما من شأنه زعزعة استقرار المنطقة بأكملها.
ويظن طلال الفيصل، رجل أعمال سعودي وأمير ثانوي في العائلة المالكة، إن السعودية لن تمارس دور الوساطة في نزاع سد النهضة ما لم تعتقد أنه سيكون ناجحا. ومع أن المملكة لعبت دورا محوريا في تسهيل اتفاقية السلام بين إثيوبيا وإريتريا لعام 2018 في جدة، يعتقد فيصل أن الرياض لن يُنظر إليها على أنها وسيط محايد في نزاع سد النهضة. إذ لا يمكنها أن تلعب دورا كبيرا كما فعلت بين إثيوبيا وإريتريا.
“ربما تحالفت السعودية مرارا مع مصر. لكنها لم تمارس ضغطًا قسريا على إثيوبيا لتعليق ملئها لسد النهضة”، يلفت الموقع الأمريكي. بينما قال تيشوم بوراجو، الصحفي الإثيوبي والمحلل السياسي، عن الدعم السعودي من خلال قناة جامعة الدول العربية، إن تصريحات الجامعة عن سد النهضة “غالبًا ما تُصاغ في القاهرة دون مدخلات متعددة الأطراف ولا تحمل أي وزن”.
ويشير بوراجو إلى أن العلاقات بين السعودية وإثيوبيا تعززت حتى بعد أن دعمت الرياض مصر في ملف النهضة. ودلل على ذلك بالاستشهاد بالمخصصات السعودية بملايين الدولارات للتخفيف من نقص العملة الصعبة في إثيوبيا (في العام الماضي).
ويعتبر إدريس آيات، المتخصص في العلاقات الخليجية الإفريقية، أن المملكة السعودية لم تستخدم مكانتها في الاقتصاد الإثيوبي للتأثير في سياسة إثيوبيا تجاه سد النهضة. فيما يرى الباحث في العلاقات الدولية، صامويل راماني، أن تقاعس المملكة في هذا الملف واضح.