تأثرت أوضاع المصريين بشكل لافت في أعقاب تحرير سعر صرف العملة في الفترة الماضية، بعد موجة غلاء تصاعدية تسببت في ارتفاع أسعار السلع الغذائية الضرورية، لدرجة أدت إلى خلو موائد الأسر المصرية من البروتين الحيواني “الدسم”.
وحسب دراسة حديثة صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة، والإحصاء فإن 74% من الأسر المصرية انخفض استهلاكها للسلع الغذائية، ونحو 90% انخفض استهلاكها من اللحوم، والطيور، والأسماك.
اقرأ أيضا.. أمن المصريين الغذائي.. أرقام اقتصادية واجتماعية صعبة
ويخشى خبراء من تعرض البلاد لموجة أمراض سوء التغذية، كتكلفة غير مباشرة للوضع الاقتصادي الراهن، بسبب تراجع القدرة الشرائية نظير انخفاض قيمة الجنيه، وزيادة مطردة للأسعار لم يتم السيطرة عليها بعد.
وارتفع معدل التضخم السنوي بمصر ليبلغ نحو 24.4% في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسط ارتفاع أسعار الغذاء بنسبة 37.9% وذلك بحسب البيانات الرسمية.
أزمة غير مسبوقة
وتوقع الخبير الاقتصادي عبد المطلب عبد الحميد المزيد من الآثار السيئة للأزمة الاقتصادية الراهنة، ما لم تتدخل الحكومة لضبط الأسواق، ومراجعة السياسات الاقتصادية، لافتًا إلى أن مصر تمر بمرحلة صعبة للغاية، والمصريون الآن يشترون السلع بأسعار خيالية، تتضاعف مع انخفاض قيمة الجنيه.
وللمرة الأولى، تجاوزت أسعار الدواجن حاجز الـ70 جنيهًا، في حين وصلت اللحوم إلى 220 جنيهًا للكيلو، رغم الإجراءات الحكومية المتواصلة لكبح جماح الأسعار، وفتح منافذ “أهلًا رمضان” بالمحافظات لبيع السلع الغذائية بأسعار مدعمة.
فاتورة “ارتفاع أسعار اللحوم والدواجن”
لكن د.ملك صالح خبيرة التغذية، ورئيس المعهد القومي للتغذية سابقًا، رأت أن أغلب أمراض المصريين، والأطفال بصفة خاصة ناتجة عن سوء التغذية، لافتة إلى أن نقص الغذاء الصحي يسبب السمنة، والنحافة، والتقزم، وغيرها.
وفي ظل الأوضاع الحالية، ومع ارتفاع أسعار “اللحوم، والدواجن، وغيرها”، وسعي الأسر المصرية إلى استبدال أنواع البروتين بـ”الاعتماد” على النشويات “الأرز، والمكرونة، وغيرها” لمواجهة الجوع، فإن هذه الأكلات رغم تضمنها سعرات حرارية، غير أنها فقيرة جدًا في العناصر المغذية لصحة جسم الإنسان.
خبيرة التغذية التي ترى حاجة المواطن إلى “البروتينات” أضافت لـ”مصر360″ أن ارتفاع أسعار اللحوم، والدواجن بالشكل الحالي يدفع إلى ضرورة تبني دراسات معهد التغذية المعنية باستخدام البقوليات كبديل آمن، وتوفيرها للمواطنين، مع مراعاة توافر الخضروات بأسعار مقبولة حتى لا يحرم المصريين مستقبلًا من “طبق السلطة”.
وحذرت من التهاون في “توفير الغذاء الصحي” للمواطنين، مشيرة إلى أن نقص الغذاء يسبب أمراضًا تحمل الدولة أموالًا طائلة لعلاج المرضى.
ومؤخرًا كشفت دراسة حديثة أن نقص البروتين يدفع الأشخاص إلى الإفراط في تناول الدهون، والكربوهيدرات لتعويض هذا النقص، مما يتسبب في الإصابة بالسمنة، وزيادة الوزن. وما يصاحب ذلك من أضرار على الصحة.
وأوضحت الدراسة التي أجريت في “مركز تشارلز بيركنز لعلوم الصحة التابع لجامعة سيدني الأسترالية” أن جسم الانسان يفضل البروتين عن باقي المكونات الغذائية، ولكن نظرا لأن معظم الوجبات الحديثة تتكون من مأكولات مصنعة تقل فيها نسب البروتينات، يتجه الناس تلقائيا إلى الافراط في الأغذية المشبعة بالدهون والطاقة من أجل تعويض احتياجاتهم من البروتين.
خطة حكومية ومبادرات
وتسعى الحكومة المصرية حاليًا لإطلاق خطة تنفيذية للإستراتيجية الوطنية للغذاء، والتغذية (2022-2023)، في إطار التزام الدولة بتحقيق الأمن الغذائي، وتحسين الصحة العامة للمواطنين.
ووفق ما أعلنه وزير الصحة خالد عبد الغفار في “نوفمبر الماضي” فإن الدولة تهدف إلى تمتع المواطنين بأنظمة غذائية صحية، آمنة، ومستدامة بحلول عام 2030، وبأسعار معقولة مع نظام رعاية صحية متكامل، وعالي الجودة.
وعرج وزير الصحة على تأثر الأمن الغذائي بجائحة “فيروس كورونا”، باعتبارها قللت من إمكانية حصول البشر على غذاء صحي، ونظام غذائي متوازن، لافتًا إلى تأثر إنتاج السلع عالية القيمة، والقابلة للتلف، مما ضاعف عدد الأشخاص الذين يعانون من أزمات غذاء على مستوى العالم.
وتوقع وزير الصحة زيادة أعداد الأطفال الذين قد يعانون من “التقزم” بمعدل يتراوح ما بين 5 إلى 7 مليون طفل، بجانب احتمالية تعرض ما بين 570 ألف إلى 2,8 مليون طفل للهزال في البلدان منخفضة، ومتوسطة الدخل بحلول عام 2030.
وعلى صعيد متصل، قالت “نعيمة القصير” ممثلة منظمة الصحة العالمية في مصر: إن الإحصائيات تشير إلى أن الأمراض غير السارية “المزمنة” وراء مجمل الوفيات في مصر بنسبة 84%، مؤكدة أن النساء، الرضع، الأطفال، والمراهقين هم أكثر الفئات المعرضة لخطر سوء التغذية.
تساؤل “الاحتياطي النقدي”
لكن الخبير الاقتصادي د.عبد المطلب عبد الحميد الذي أعرب عن أمله في مضاعفة الجهد الحكومي حيال الأزمة الاقتصادية الراهنة، والتي ستؤدي بدورها إلى أزمة غذاء، ومرض، بحسب خبراء الصحة، رأى أن الحكومة مقصرة في مواجهة الموقف، ولديها حالة لامبالاة –على حد تعبيره-، متسائلًا:” لماذا لا يتم استخدام الاحتياطي النقدي لمواجهة أعباء المرحلة الحالية، في الوقت الذي تستعين به كل دول العالم لدى انخفاض عملتها؟”.
وأبدى استياءه من الاتكاء على “جائحة كورونا، والأزمة الروسية-الأوكرانية” كسببين لأزمة السلع الغذائية، وارتفاع الأسعار، لافتًا إلى أنهما، ورغم الأثر الموجود فعلًا، لا يتحملان وحدهما تراجع الوضع الاقتصادي في مصر.
غير ذلك، رفض الخبير الاقتصادي اللجوء إلى حلول مسكنة لـ”الأزمة”، فالأمر بالنسبة له يتطلب حلولًا تؤمن “الأمن الغذائي” للمصريين، باعتباره أمن قومي، وعلى الحكومة أن تعلم ذلك بوضوح، وتسعى لأجل تحقيقه.
وقال: إن الأسرة المصرية تتحمل ما لا طاقة لها به، لكن عمقها التاريخي يسمح لها بمحاولات تدبيرية تقوم بها السيدات المصريات لمواجهة الأزمة الراهنة، ولديهن على مدار تاريخ الأزمات في مصر تدابير ابتكارية.
وكشف استطلاع رأي أعده مركز المعلومات ودعم القرار “فى يونيو الماضي تحت عنوان “كيف تواجه الأسر المصرية أزمة ارتفاع الأسعار”عن اضطرار نحو 46% من المصريين لاستبدال بعض السلع التى اعتادوا عليها، في مقابل 55% خفضوا استهلاكهم من بعض السلع الغذائية، و38,4% لم يقللوا استهلاكهم.
وفي استبيان غير حكومي، أشارت النتائج إلى أن 64% من المشاركين من النساء والرجال لا تغطّي رواتبهم احتياجات أسرهم الأساسية؛ من مأكل، ومشرب، وتعليم، وعلاج، وسكن. فيما يؤكد الباقون أنهم يتمكَّنون من تغطية النفقات الأساسية بالاعتماد على مشاركة الطرف الثاني (الزوجة/الزوج) في الإنفاق على احتياجات الأسرة من خلال العمل، كما أشارت النتائج أيضًا إلى أن 46% من المشاركين يعملون لساعات إضافية أو في وظائف أخرى، والبعض الآخر يلجأ إلى الاستدانة.
وفي الوضع الراهن، وبعد أن قفزت أسعار اللحوم، والدواجن بشكل غير مسبوق، تخلت معظم الأسر المصرية عن سبل الترفيه، وأطعمة بعينها، لأجل الوفاء بمتطلبات التعليم، والعلاج.
الأزمة عالمية ولم يتوقعها أحد
يأتي ذلك في الوقت الذي يرى الخبير الاقتصادي د.وليد جاب الله أن أزمة أسعار الغذاء الراهنة لا تنفصل عن نظيراتها في دول العالم، لافتًا أن الأسباب تتعلق بالحرب الأوكرانية-الروسية، ومشكلات الطاقة، والتضخم العالمي، وسحب الفيدرالي الأمريكي “البنك المركزي الأمريكي” الدولار من دول العالم برفعه التدريجي لأسعار الفائدة، ورفع قيمته لمستويات تاريخية، بما يعكس انخفاض قوة البلدان الشرائية.
ويضيف لـ”مصر360″ أن الاتجاه العالمي لشراء الغذاء خفض قدرة البلدان على شراء السلع الأخرى ما تسبب في خسائر مرعبة لشركات التكنولوجيا، وفقدان كثير من الموظفين لوظائفهم.
واستطرد قائلًا:”هناك فارق بين أن معدل الغذاء أقل من معدل نمو السكان في العالم، وبين ظرف راهن يتعلق بصراعات “جيو سياسية” عمقت من جراح الاقتصاد، وهو ما لم يتوقعه أحد”.
وارتفع معدل التضخم بنهاية ديسمبر الماضي إلى 21,9%، حسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، مقارنة بنحو 19.2% خلال شهر نوفمبر الماضي، ونحو 6.5% للشهر نفسه من العام السابق.
وبلغ الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين لإجمالي الجمهورية نحو 143.6 نقطة لشهر ديسمبر 2022، مسجلاً ارتفاعاً بنسبة 2,1% عن نوفمبر 2022.
وأرجع “الجهاز المركزي للتعبئة العامة، والإحصاء” ارتفاع معدل التضخم إلى زيادة أسعار مجموعة الفاكهة بنسبة 6,7%، ومجموعة الألبان، والجبن، والبيض بنسبة 6.4%، ومجموعة الحبوب والخبز بنسبة 5%، ومجموعة الأسماك والمأكولات البحرية بنسبة 3.1%، ، ومجموعة اللحوم والدواجن بنسبة 2.8%، ومجموعة السكر والأغذية السكرية بنسبة 2.5%.
لا بديل عن اللحوم..ولكن!
وإلى ذلك، ومع إقرار خبيرة التغذية د.صفاء الفايد- أستاذ علوم الأطعمة بجامعة عين شمس بأن أزمة ارتفاع أسعار اجتاجت العالم أجمع، غير أنها ترى أن الحل في تبني ثقافة الأوروبيين، وأردفت قائلة:”إنهم يشترون اللحم بالجرام، والفاكهة بالعدد”.
وتضيف: على المصريين الآن أن يثبتوا جدارتهم، ويبهروا الجميع، مطالبة بوقف إهدار الطعام، واستخدام كميات على قدر عدد الأسرة.
وحسب خبراء التغذية فإن “البروتين” هو العنصر الغذائي الأساسي لتكوين هرمونات الجسم، والأنسجة العضلية، والعصبية، و خلايا الدم، ويحتاج إليها جسم الإنسان يوميًا إذ لا يقوم بتخزينها.
وتعتبر اللحوم الحمراء، والبيضاء، والأسماك بالإضافة إلى اللبن، والجبن، والبيض المصدر الأساسي للبروتينات.
ويبلغ متوسط احتياج الفرد البالغ من “البروتين” يوميا في الأحوال العادية ما يعادل “جرامًا واحدًا” لكل كيلو جرام من وزن الجسم، ويزيد هذا الاحتياج قليلًا خلال مرحلة النمو، أو بذل المجهود العضلي، أو الحمل، والرضاعة.
من جانبها تقول د.ليندا جاد الحق –خبيرة التغذية: إن “البروتين” مصطلح فضفاض، فهي تعني “لحوم حمراء، بيض، ألبان، ودجاج”، إلى جانب البروتين النباتي، لافتة إلى أن الأسرة المصرية الآن تسعى لبدائل اللحوم في ظل ارتفاع الأسعار، والبديل الأمثل هو “كبدة الفراخ”.
وتضيف في تصريح لـ”مصر360″ أن الأسرة المصرية بإمكانها أن تتناول “اللحوم” مرة واحدة أسبوعيًا، مشيرة إلى أن الأمر لا يحتاج إلا لتوعية غذائية، وفقط.
وعكس ما ترمي إليه نقاشات مواقع التواصل الاجتماعي، وغير المختصين، فإن الأزمة ليست في “البروتين” على إطلاقها، وإنما في عنصر “الحديد” –حسب رؤية خبيرة التغذية-، وهو لا يتوفر إلا اللحوم الحمراء، والكبدة، ولا بديل له.
ورغم ذلك، فإن الفرد يحتاج أسبوعيًا إلى قطعتين من اللحم، وصدرين دجاج، وتشير خبيرة التغذية إلى أن القضية ليست في كثرة أكل اللحوم.
أطفالنا معرضون لـ”كوارث صحية”..والحل؟
كما أن الوجبة المدرسية لا تستطيع أن تفي بمتطلبات غذائية للأطفال، لأن مكوناتها لن تعوض “الحديد” –حسب قولها- فإن سوء التغذية قد يسفر عن عدة أمراض لدى الأطفال أبرزها “الأنيميا”، والتقزم.
وباستمرار نقص التغذية، وتراجع قدرة الأسرة المصرية على الوفاء بمتطلبات الغذاء الصحي، سيظهر أثر “سوء التغذية” في غضون 3 أشهر، وأعراضه –حسب قول خبير التغذية- تظهر في معاناة الأطفال من الخمول، والنمو السلبي، وانعدام التركيز.
وتستطرد قائلة:” إشكالية السيدات المصريات أنهن لا يعرفن البدائل الصحية، والحلول المتاحة الآن هي “كبدة الدجاج، والتونة، والسردين”، حتى تنضبط أسعار اللحوم، والدواجن”.
من جانبه رسم د.عبد الغفار طه –استشاري طب الأطفال- خريطة الأمراض المتوقعة من سوء تغذية الأطفال، لافتًا إلى أن “الأنيميا” هي المرض الأخطر الذي يعاني منه نحو 40% من الأطفال في مصر، نتيجة سوء التغذية. وتوقع تنامي نسب انتشار الأنيميا اذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه.
يأتي ذلك في الوقت الذي يظهر عرض “نقص الوزن”، وتأخر النمو، كمسببات لتأخر الذكاء، والخمول-وهما على حد قوله- ينتجان عن نقص البروتين، بمحاذاة مرض “الكواشيوركور” أحد أمراض سوء التغذية التي تؤدي إلى أعراض مختلفة، وعادة ما يصاب الأشخاص بهذا المرض في البلدان التي يوجد بها نقص التغذية.
ويضيف لـ”مصر360″ أن نقص البروتين قد يؤدي أيضًا إلى “ضعف المناعة”، وتعرض الطفل للالتهابات البكتيرية، والفيروسية، بجانب التأثير السلبي على الجلد، وظهور تقرحات.
ويشير استشاري طب الأطفال إلى أن نقص تناول الأطعمة الغنية بـ”الكالسيوم” يسبب “لين العظام”، وهو أحد أبرز الأمراض المنتشرة في مصر، بجانب “التقزم”، وعدم زيادة الطول بشكل طبيعي.
ويسبب “سوء التغذية” أيضًا تساقط الشعر، وضعف العينين، وتراجع التركيز، والخمول الدراسي، والبدني حسب تأكيده.
بجانب الحلول الغذائية طرح الخبير الاقتصادي د.عبد المطلب عبد الحميد حلولًا اقتصادية لمجاراة الأزمة الراهنة، والتغلب عليها، وتقليل تكلفة أثرها الصحي مستقبلًا، داعيًا إلى ضرورة زيادة المساحة المزروعة من القمح.
ولفت إلى أن الحكومة بوسعها أن تراجع السياسات الاقتصادية الراهنة، بسعي جاد لضبط الأسعار، وزيادة المعروض من الغذاء، وضرب الاحتكار، ودعم السلع، وتوفيرها بأسعار مقبولة، ومواجهة حادة مع السوق السوداء.