روح بريئة وصفحة ناصعة البياض وقلب مقبل على الحياة يتلقى كل الحروف التي تُكتب داخله دون إدراك لمعانيها، إنها مرحلة الطفولة التي تعد أخطر مراحل الحياة وأصعبها، فهي مرحلة تكوين الشخصية، ورسم تفاصيلها وتحديد ماهيتها مستقبلًا.
وفى عالمنا الحديث، صارت الطفولة ضمن معادلات وتحديات عدة، سياسية واجتماعية واقتصادية، تغزل دون رحمة ملامح تلك الفترة الحرجة، وتنتج أجيال مشوهة لا هوية لها ولا هدف.
داخل الفضاء الإلكتروني وبحكم الضغوط التي يعيشها آلاف الأسر، وجد الآباء والامهات ضالتهم، في التعامل مع أبنائهم، عبر موقع “يوتيوب” وذلك إما للتخلص من مسئولياتهم وشغلهم بمتابعة هذا الموقع، في الوقت الذي يتفرغ الآباء والأمهات لمهامهم، أو لاستثمار الأبناء من خلال عمل فيديوهات ذات محتوى مختلف لتحقيق أرباح مادية سريعة
وخلال الأيام الماضية، شهدت وسائل التواصل الاجتماعي، صرخات وشكاوى وتحذيرات من العديد من الأسر، من قناة على يوتيوب، تهدد الأطفال، بسبب فتاة تدعى “شفا” تقوم بتقدم فيديوهات غير ملائمة عبر قناة تحمل نفس اسمها، ورغم تلك الشكاوى إلا أن الفتاة لاتزال تقدم الفيديوهات بصورة يومية مستحوذة على أكبر نسب مشاهدة على اليوتيوب.
حقيقة الطفلة شفا
شفا هي طفلة صغيرة تبلغ من العمر 9 سنوات، من أصل كويتي، ولكنها تعيش مع والدتها وأختيها بدولة الإمارات، ومع وصولها سن الخامسة، بدأت والدة شفا في استغلال بلاغة الطفلة في الحديث، وقدرتها على التمثيل، في عمل فيديوهات على اليوتيوب، عبر قناة تحمل اسم الفتاة الصغيرة، موجهة للأطفال الصغار.
حققت قناة شفا نجاحًا كبيرًا واستطاعت الوصول إلى نسبة مشاهدات عالية، وصلت في اليوم الواحد إلى 30 مليون مشاهدة، وما يقارب مليار مشاهدة شهرية، فيما تخطى عدد المشتركين فيها حاجة نحو 20 مليون شخص، وهو رقم جعلها تتصدر القنوات العربية على اليوتيوب، وتحتل المركز الأول على الموقع الأشهر، فيما حقق للطفلة الصغيرة أرباحًا شهرية تبدأ من 200 ألف دولار.
مع بداية عام 2020، تعرضت قناة شفا إلى هجوم كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، وظهرت العديد من الفيديوهات التي تحذر من المحتوى الذي تقدمه الفتاة الصغيرة، كونه بدأ في التأثير سلبًا على الأطفال المتابعين لها، والذين بدأوا في تقليد الفيديوهات التي تقدمها “شفا” ما عرض عدد منهم لمخاطر عدة.
طبيعة الفيديوهات على القناة المثيرة
اعتمدت قناة الطفلة “شفا” على تقديم فيديوهات قصيرة لمشاهد تمثيلية تحوي يوميات الفتاة الصغيرة في منزلها، ولكن بصورة أثارت العديد من الانتقادات الحادة، خاصة أن بعض الفيديوهات لا تتناسب والأطفال.
من أكثر الفيديوهات التي أثارت الجدل حول الفتاة الصغيرة، فيديو زواجها، والذي أثار جدلًا كبيرًا، حيث ظهرت الفتاة وهي تطلب من والدتها أن تزوجها رغم سنها الصغير، وخضعت الأم لإلحاح الطفلة، ووافقت وهي تبكي لأن طفلتها صغيرة ومصرة على الزواج.
ظهرت الفتاة “شفا” وهي ترتدى زي العروسة، وتضع المكياج على وجهها، باستخدام أدوات خاصة، ثم ظهرت الفتاة مع لعبة خشبية على شكل عريس يرتدى بدلة على اعتبار أنه الزوج، بعدها ظهرت الفتاة بعد الإنجاب وهي تمارس مهام دورها كزوجة وأم، وسط تحكمات من الزوج “اللعبة” جعلتها ناقمة على الحياة الزوجية، فيما انتهى الفيديو بأن الفتاة كانت تحلم.
فيديو أخر أثار الجدل، وهو ظهور الفتاة مع أختها الكبرى حيث قامتا بعمل “مقالب” في بعضهما البعض، احتوت وضع محتويات مؤذية على الطعام، ووضع ألوان على فرشاة الأسنان، وقص شعر بعضهن أثناء النوم، وغيرها من المقالب التي قدمتها الفتيات، والتي قام عدد كبير من الأطفال بتقليدها.
أيضًا قدمت “شفا” فيديوهات تحدى مع والدتها من خلال القيام ببعض الأمور التي تسبب مشكلات صحية مثل تحدى تناول “الكاتشاب” والفلفل الحار، بخلاف فيديوهات توضح مقلب تقوم به الأم، وهو صبغ شعر الفتاة وهى نائمة بألوان ضارة، وأخر يقدم الفتاة وهى تضع مساحيق التجميل بما لا يتناسب مع مرحلتها العمرية، بخلاف تحويلها لمنزلها كانه مطعم لبيع المأكولات غير الصحية، وتناولها للطعام بصورة كبيرة، وتعاملها مع والدتها بطريقة غير ملائمة، خاصة في التعبير عن غضبها، وأيضًا ظهورها وسط أشباح في منزلها وغياب تلك الأشباح فور وصول والدتها.
شكاوى الأهالي من الطفلة
على مواقع التواصل الاجتماعي كانت شكاوى الأهالي من الطفلة “شفا” بسبب تكرار أبناءهم لمحتوى الفيديوهات التي تقدمها تلك الفتاة، محذرين من مخاطر عدة كادت تقضى على أبنائهم.
تقول سولا أحمد، أن طفلها يبلغ من العمر عامين، ويتابع تلك الفتاة ويرفض غلقها، وأكثر شيء ظهر عليه بعد متابعتها هو العياط الكثير تقليدًا للفناة التي تظهر دائما، في حالة تشنج وبكاء
فيما قالت نوار عيسى، أن الفتاة تظهر بفيديوهات غير لائقة أو مناسبة للأطفال، حيث تظهر وهي حافية القدمين في الشارع، وتأكل بيدها وثيابها متسخة، وأنها تمتلك أكثر من قناة، ولا يمكن إلغاء الفيديوهات حتى مع خاصية الحظر.
بينما قالت سجى نصار، أنها تفاجئت بطفلها الذي يبلغ من العمر 3 أعوام، وهو يضع الكورة الصغيرة في أنفه، وعندما حذرته جعلها تشاهد شفا وهي تفعل نفس الشيء، وبينما تابعت فيديوهات الفتاة الصغيرة اكتشفت أنها تقوم بعمل فيديوهات غير ملائمة لسنها مثل قيامها بدور عروسة ووضعها لمساحيق التجميل، بخلاف ظهورها في فيديو وهي تجمع الحلويات وعندما تنهرها والدتها تبكي كثيرا وتصرخ حتى تخضع الأم لرغباتها وهو ما بدا الأطفال في عمله للحصول على ما يردون، محذرة من تلك الفتاة وأنها أثرت في الآلاف من متابعيها.
فيما أكدت أسماء محمد أنها منعت فيديوهات شفا من الظهور على جهاز طفلتها، بعدما لاحظت استخدامها مساحيق التجميل بصورة كبيرة، ورفضها المكوث في المنزل، خوفًا من ظهور أشباح “شفا” لديهم، مشيرة إلى أن الفتاة باتت تمثل خطرًا، خاصة وأنها تنفذ أغلب الفيديوهات داخل منزلها، ما يجعلها أكثر مصداقية لدى الأطفال الذين لا يعوون شيء.
حنان الحج، اضطرت إلى حذف موقع يوتيوب من الجهاز الخاص بها، خوفًا على طفلها الذي يبلغ من العمر عامان وثلاثة أشهر، وتجنبًا لظهور تلك الفيديوهات أمامه، وأكدت أنها متعجبة من مشاركة والدة شفا للفتاة في تلك الفيديوهات الكارثية التي تضر بالأطفال، وكيف لها السماح لطفلتها بارتداء فستان عرس أو تمثيل دور الزوجة.
وقالت هناء السيد، أنها تفاجئت بأن الفتاة أخذت حيز كبير لدى أبنائها، بل والعديد من الأطفال، فلا يوجد طفل لا يعرف شفا أو حاول تقليد محتوى الفيديوهات الذي تقوم بتقديمه، مشيرة إلى أنها حاولت منع فيديوهات القناة ولكن الحظر لم يفيد لأنها لاتزال تظهر في ترشيحات يوتيوب ما جعلها تمنع أبنائها من استخدام الكمبيوتر أو تشغيل اليوتيوب.
تهديدات شفا على الأطفال
شفا الفتاة الصغيرة التي تحقق لأسرتها أكثر من 3 ملايين دولار أرباحًا سنوية، باتت تمثل تهديدًا مباشرًا على سلوكيات الأطفال، عبر الفيديوهات التي تقدمها، بدءًا من تقليد الأطفال لمحتوى الفيديوهات، ما يعرضهم للخطر، مرورًا بانتهاجهم طريقة الطفلة في اللجوء للسلوكيات الخاطئة للحصول على ما يريدون
قالت الدكتورة رحاب العوضى، أستاذ علم النفس السلوكى، أن الأزمة الكبرى الذي يعاني منها المجتمع العربي حاليًا، هو غياب الرقابة على المحتويات التي يتابعها الأطفال على الإنترنت، ما يعرضهم لتجارب تؤثر على سلوكياتهم وتكوين شخصيتهم
أضافت “العوضى، أن بناء الطفل بات أخر اهتمامات الأسر، التي تبحث عن جنى الأموال، إما بالانشغال عن أبنائهم، أو استغلال الأطفال للحصول على المال، وهو ما نراه في هذه الفيديوهات التي يستغل فيها الأطفال أسوء استغلال لجنى الدولارات، مشيرة على أن الطفل من عمر 4 إلى 10 سنوات، يكون في مرحلة الإعداد لتكوين شخصيته، وهو ما يتم عبر ما يتلاقاه من رسائل ومحتويات وأسس تربية، لذلك فنحن نرى الآن أطفالًا يتسمون بالعدوان والعنف والكراهية وحب النفس، وكل ذلك بسبب ما يراه في فترة طفولته من مؤثرات، وسط غياب الرقابة من الأهل وعدم متابعتهم لأبنائهم، واستغلال التكنولوجيا الحديثة في الهروب منهم وتركهم فريسة لها، ما يعرضهم أحيانا للخطر نتيجة تقليد الفيديوهات التي تصل لمحاولات قتل الطفل لنفسه كما شاهد أو استخدام أدوات قد تسبب أضرار له.
تتابع ” العوضي” المشكلات التي يعانى من الأطفال بسبب الفيديوهات التي يتابعوها أو الأعمال الفنية التي يرونها ليل نهار والتي لا تحمل أي رسائل للطفل وتقتصر على العلاقات الخاصة والإدمان والبلطجة، تتسبب في تكوين شخصية غير سوية، يصعب بعد ذلك حل أزماتها النفسية لأنها تشكلت معها منذ الطفولة، بجانب الطفل الذي يتم استغلاله في تقديم الفيديوهات مثل الطفلة “شفا”، والذي ثبت فعليًا أنه يتحول لشخصية أشبه بالمسخ، فهو يصاب بالغرور منذ الصغر، وعندما يكبر يعاني الإهمال لغياب الشهرة، واذا استمرت الشهرة تخلق منه إنسان أناني لا يرى سوى نفسه، ويرى أنه مميز دائما عن غيره.
علاج المشكلة
أكدت “العوضى” أن علاج تلك المشكلة، يكون بالأهل، من خلال التركيز في تربية أبنائهم، ومتابعة ما يشاهدون، وربطهم بالدين والأخلاقيات، وإعادة الشكل الأسرى وعلاقات الآباء بالأجداد، ما يجعل الطفل ينشأ في جو مناسب يساعد على تكوين شخصيته بصورة سليمة
تضيف “العوضي” ان المؤسسات المعنية بشئون الطفل عليها دور أيضًأ، في توفير المحتوى الذي يقدم الرسائل الهادفة للأطفال، ويجذبهم بعيدًا عن المحتويات الهادفة للربح، ولنا أن نتساءل لماذا لا نجد محتوى واحد يقدم حاليا للأطفال، ففي مصر كان أخر الاعمال المقدمة للطفل مسلسل “بكار” ثم اتجه الأطفال للأعمال الخليجية، التي لاتزال تتمسك بشيء من الاهتمام فيما يخص أعمال الأطفال، حتى ان اللغة الخليجية اقتحمت العديد من المنازل عبر تلك الاعمال، مؤكدة على ضرورة التعامل مع الطفل على أنه كائن ذكي وليس العكس.
وحذرت العوضي من أن استمرار الوضع هكذا سوف ينتج أجيالًا هشة ومريضة بالعديد من الأمراض النفسية التي يقف العلم عاجزًا أمامها كونها ارتبطت بمرحلة الطفولة.