كان يسابق الزمن متشبثا بالأمل، أجرى كل التحاليل الطبية والأشعة على نفقته الخاصة ليبدأ العلاج من المرض الخبيث في أسرع وقت. يحاول وقف الخلايا السرطانية التي تكتسح رئتيه. اطمئن “روماني جرجس” إلى أن الأمور تسير في سياقها الطبيعي عندما استلم قرار العلاج على نفقة الدولة بعد 15 يوما فقط. وطبقا لبروتوكول العلاج بدأ في إعداد نفسه لتلقي العلاج الكيميائي قبلها بأسبوعين بتناول مجموعة كبيرة من الفيتامينات والأدوية الممهدة.
اقرأ أيضا.. ضحايا الألم والعلاج المجاني.. حكايات من “معهد الأورام”
“روماني” ذهب في الموعد المحدد يوم 4 سبتمبر/أيلول الجاري طبقا لجدول ومواعيد الجلسات ليتلقى أول جرعة من العلاج بالمعهد القومي للأورام. لكنه لم يعرف أن مفاجأة غير سارة في انتظاره. فجرعات الكيماوي غير متوفرة، كما أن الحقنة المقررة له استفاد بها مريض آخر وبالتالي عليه الانتظار لحين توفير جرعة جديدة في أقرب وقت ممكن.
لم يتمالك “روماني” نفسه وكأن حجرا أسقط فوق رأسه: “أنا أخذت العلاج والحقنة التمهيدية ومليت جسمي فيتامينات. إزاي علاجي يروح لمريض تاني ودا ميعادي أنا، الدكاترة قالولي إني هبدأ النهاردة. إزاي استنى لحد ما تدهور حالتي تاني لحد توفير بديل”.
إنكار ثم اعتراف
“روماني” ليس الوحيد الذي يواجه أزمة النقص في الأدوية خاصة أدوية الأورام، لاسيما في الفترة بعد أزمة الدولار وحرب روسيا وأوكرانيا، والنقص الكبير في الأدوية خاصة أدوية وعلاجات السرطان بأنواعه.
النقص الحاد في أدوية السرطان بالمعهد القومي للأورام ومستشفيات وزارة الصحة، اقتربت من شهرها الثاني. الأزمة عصفت بآلاف المرضى، من الذين توقفت جلساتهم بشكل مفاجئ. كما أنهم يعجزون عن توفير بديل علاجي على نفقتهم الخاصة، رغم ارتفاغ ثمن أدوية السرطان بشكل كبير.
الدكتور محمد عبدالمعطي، مدير المعهد القومي للأورام، نفى في البداية وجود أي نقص في أصناف الأدوية في المعهد. يأتي هذا رغم توقف العشرات من جلسات العلاج لمرضى الأورام خاصة الرئة والثدي ومطالبة المعهد المرضى بتجديد قرارات العلاج على نفقة الدولة وإعادة إجراء التحاليل لقضاء مدة طوية.
لكن في النهاية اعترف عبدالمعطي لـ”مصر 360″: “اللي معاه قرارات منتهية هنمشيها وهيستكمل علاجه. والنواقص بنعالجها بالبدائل الأخرى”. مؤكدا وجود بدائل متنوعة للأدوية. لكنه رفض توضيح ما هي هذه البدائل.
أسباب الأزمة
مصادر مطلعة في وزارة الصحة قالت لـ”مصر 360″، إن نقص إمدادات المستشفيات والمعاهد الطبية بأدوية الأورام سببها نقص الدولار اللازم لمناقصات شراء الأدوية المستوردة ومنها أدوية السرطان. الأمر وبحسب المصادر دفع المسئولين بالوزارة لعقد اجتماع طارئ مع هيئة الدواء قبل أسبوعين لبحث أزمة النواقص. وكان على رأس تلك الأدوية علاجات السكر والضغط والقلب والأورام.
وبحسب مصدر في شركة ابن سينا للأدوية، استغلت شركات توزيع الأدوية الأزمة في رفع الأسعار وبيع الكميات المتوافرة لديها إلى المراكز الطبية المتخصصة لعلاج الأورام والمستشفيات الخاصة. بينما أجلت النظر في طلبات وزارة الصحة لحين توريد الأدوية الجديدة.
أطباء وعاملون في معهد الأورام أكدوا أن المعهد خاطب الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي للإسراع في إنهاء الإجراءات وإرسال الكميات المطلوبة من الأدوية. لكن المصادر أكدت أيضا أنهم لم يتلقوا ردا حاسم حول موعد التسليم أو حتى معرفة أسباب التأخير، سوى أن الأزمة ستنتهي في أقرب وقت.
الأزمة بحسب متعاملين في سوق الأدوية، أدت إلى وصول سعر عقار”الألميتا” اللازم لعلاج أورام الرئة إلى أكثر من 20 ألف جنيه، بعد أن كان سعره 7 آلاف جنيه. كما ارتفع سعر حقن الإيثانول اللازمة لعلاج سرطان الكبد إلى 7000 جنيه، و”زولادكس” اللازم لعلاج سرطان البروستاتة والرحم إلى 5000 جنيه.
انفراجة محدودة
مصادر شركة ابن سينا للأدوية، قالت إنه في 27 سبتمبر/آيلول الجاري وفرت وزارة الصحة 50 جرعة من أدوية الأورام وأرسلتها إلى معهد الأورام. وبعد الاستغاثة تم رفع الكمية إلى 200 جرعة لحين توفير الكميات اللازمة في وقت عاجل.
الدكتور علي عبدالله مدير معهد الدراسات الدوائية، أوضح أن أزمة نقص الأدوية المعالجة للسرطان عامة لكنها خانقة في وزارة الصحة. كما أرجع الأسباب إلى اعتماد مصر في الأدوية الجينية والبيولوجية والسرطان على الاستيراد فقط، حيث تحتاج لتكنولوجيا عالية في التصنيع غير موجودة في المصانع المصرية. الأمر الذي يجعل تلك الأدوية أكثر عرضة للتأثر بأزمة الدولار ونقص الإمدادات العالمية نتيجة الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
وفق “علي” يجب على الدولة ترتيب أولوياتها في توفير الدواء بوضع خطة وتحديد النواقص أو ما يعرف بـ”جس نبض السوق” لتوفير الكميات المطلوبة طبقا للأعداد والحالات المتوقعة. بالإضافة إلى ضرورة توفير احتياطي آمن لمدة كافية وفق خطط علاجية بنسب المرض. كما أشار إلى ضرورة وجود مرونة في تحريك الأسعار عند عقد المناقصات بما يضمن سعر مرضى للمستورد والشركات والمستورد.
وأوضح “علي” لـ”مصر 360″: “الوكيل في الأغلب واحد، ما تتعاقد معه الحكومة والقطاع الخاص. لكن القطاع الخاص لديه طرق أخرى للحصول على الأدوية كنافذة للتهريب، أو تجار الشنطة. لكن الحكومة ليس لديها هذه الطرق، وهذا أحد أسباب الأزمة.
وبحسب الدكتور محمد عز العرب مستشار المركز المصري للحق في الدواء، فإن الدولة تعتمد في استيراد “الأدوية الحيوية” التي تمس قطاع عريض من المصريين على المناقصات الشهرية. لكنه أوضح أن تلك الطريقة تجعلها عرضة للتأثر أكثر بالأزمات مثل نقص العملة أو الأزمات العالمية في الدواء.
وقال عز لــ”مصر 360″: “لابد من رفع المخزون الاستراتيجي من الأدوية المهمة مثل أدوية السرطان، وعدم الاعتماد فقط على الاستيراد. بالإضافة إلى رفع الاحتياطي الدوائي منها على الأقل لمدد تتراوح من 3 إلى 6 أشهر لتفادي هذه الأزمات المتكررة”.
تأثير تأخر العلاج على المريض
ووفق استشاري أورام الكبد بالمعهد القومي للكبد محمد عز، فإن تأخر جرعات العلاج يؤثر سلبا على صحة المريض خاصة في العلاجات الموجهة. كما أن عدم انتظام تلقي العلاج يحدث تدهورا سريعا في الحالة الصحية للمريض ويؤدي لعدم استجابته فيما بعد للعلاج.
كما أضاف، أن تأخر تلقي العلاج الكيماوي ومدى استجابة الحالة للشفاء يتوقف على مدة انقطاع العلاج خلال خضوع المريض للكورس العلاجي. بحسب دكتور علاء الحداد أستاذ علاج الأورام في مستشفى “57357”.
علاء قال لـ”مصر 360″: “التأخير في الحصول على الجرعة العلاجية، يؤثر في نتيجة العلاج وتطور الحالة بشكل عام. إذ إن تأخر معود الجرعة يوم أو اثنين لا يحدث تأثيرا كبيرا، لكن لو امتدت التأخير إلى أسبوعين أو ثلاثة وبشكل متكرر يحدث ذلك تأثيرا سلبيا يؤدي لتطور المرض”.
نقص الإمدادات
لم تعصف أزمة أدوية السرطان بـ”روماني” فقط لكنها أضرت بآلاف المرضى الذين بدأو بالفعل في تلقي العلاج، وأصبح انقطاعهم عنه أكثر سوءا من المرض نفسه. “صفاء محمد” إحدى هذه الحالات. السيدة الأربعينية أصيبت بورم في الثدي وأجرت جراحة استئصال وتتلقى جلسات علاج إشعاعي. لكنها منذ أغسطس/آب الماضي، لم تحصل على جرعتها من الدواء.
تروى “صفاء”: “جلستي توقفت منذ منتصف شهر أغسطس/أب الماضي بسبب عدم توافر حقن ما قبل جلسة الإشعاع. أخدت ثلاث جلسات من خمسة، وفاضل 2، وبقالي 6 أسابيع بروح اسأل على ميعاد الجلسة الجاية يقولولي لسة مش عارفين”.
في تصريح للدكتور عوض تاج الدين مستشار رئيس الجمهورية لشئون الصحة، قال إن سبب أزمة نقص الأدوية، الحروب والأوبئة التي ضربت العالم مؤخرا. كما قال في تصريحه إن هناك توجيها رئاسيا بعمل مخازن لتأمين المخزون الاستراتيجي للدولة من الأدوية بسبب الأزمة العالمية من الأوبئة والحروب. إذ إنها أثرت على نقص التوصيل وأحدثت خللا في التوريد لحفظ المستلزمات الاحتياطات متوفرة من مخزون المواد الخام والأدوية في أماكن استراتجية مجهزة بسلسلة توريد في المحافظات تكون مرتبة بمخازن الرئيسية.