“انتقل للسماء أبونا الحبيب الغالي القمص رويس عزيز كاهن كنيسة مارجرجس بأبو قرقاص ليلحق بأخيه الذي تنيح يوم الثلاثاء القمص كيرلس عزيز الكاهن بإيبارشية ميلانو. هنيئا لكم بالفردوس بعد خدمتكم الجليلة وتحملكم تجربة المرض لسنوات عديدة”. هكذا ودع الأقباط الكاهن السابق رويس عزيز. وقد تم تجريده من رتبته الكهنوتية العام قبل الماضي. ذلك إثر اتهام بالاعتداء الجنسي على إحدى الفتيات من أقباط أمريكا، وتدعى سالي زخاري، إبان انتدابه للخدمة بكنائس فيرجينيا.
اقرأ أيضًا: مكاري يونان.. خلافات الطوائف المسيحية تستيقظ برحيل الكاهن الجماهيري
من هو القمص رويس عزيز؟
قرار الشلح الذي وقعه الأنبا مكاريوس أسقف عام المنيا وأبوقرقاص في يوليو 2020 واعتمده البابا تواضروس الثاني لم تعترف به الصفحة الرسمية للمركز الثقافي القبطي. إذ نعت يوسف عزيز خليل باسمه الكهنوتي القمص رويس. كذلك، فإن إيبراشية أبو قرقاص التي كان يخدم فيها الكاهن السابق دعت إلى صلاة الثالث على روحه في كنائسها. وقد أكدت على رتبته الكنسية. الأمر الذي استفز الضحية سالي زخاري. فعادت مرة أخرى للكشف عن ملابسات الاعتداء عليها قبل سنوات.
وقد اتهمت زخاري الكنيسة بـ”التراخي” في عقاب الجاني، وبتعظيمه بعد وفاته. ذلك بغض النظر عن رأي الضحايا. قالت زخاري: إن الكاهن المشلوح كان يقيم في منزل أسرتها في أمريكا، حين أقنع أهلها بضرورة ممارستها سر الاعتراف على يديه. كانت في الحادية عشر من عمرها، حين اعتدى عليها جسديًا في أحد الغرف في منزل العائلة، على حد قولها. بينما ظلت سنوات تحاول التوصل إلى حل مع الكنيسة يقضي بإبعاد الكاهن عن الخدمة. إلا أنها فوجئت بترقيته قمصًا. ذلك قبل إيقافه شفويًا وعودته مرة أخرى. استمر الرجل في رتبته حتى نشرت ما جرى على مواقع التواصل الاجتماعي فتم شلحه نهائيًا. ذلك بعد سنوات من مطالبتها بهذا الحق.
متلازمة الكاهن الفرعون.. لذلك احتفى الأقباط بوفاة رويس عزيز رغم شلحه
ما جرى بعد وفاة الكاهن المشلوح يعيد إلى الأذهان أحداث مشابهة وقعت عقب تنفيذ حكم الإعدام على وائل سعد تواضروس المدان بقتل الأنبا ابيفانيوس. وقد تم أيضًا شلحه من رهبانيته وإعادته إلى اسمه العلماني، إثر ارتكابه مخالفات رهبانية سبقت الجريمة. بينما احتفى الكثير من الأقباط به ولقبوه بالشهيد. ودون أن يتسبب القرار الكنسي أو الاتهام الجنائي في زعزعة مكانته الدينية.
وهو الأمر الذي يقره مارك فليبس الباحث في اللاهوت الأرثوذكسي. يقول: يغرق الوجدان القبطي فيما يُمكن تسميته بمتلازمة: “الكاهن-الفرعون”. وهي المتلازمة الحاضرة والموروثة منذ أيام الكاهن الوثني القديم الذي كان يخدم الفرعون الإله ويمنحه الألوهية فى ذات الوقت. حيث ينفخ الكاهن في جسد الفرعون ليتأله، فيعبده كإله ويُعبِّد له كحاكم. ولما غاب الفرعون المصري وقام فرعون آخر (أشورى ويوناني وروماني وعربي وأمازيغي ومملوكي وتركي) حدث أن اختبأ الفرعون الإله فى عباءة الكاهن. أصبح الكاهن هو الفرعون وخادم الفرعون في آن. هو الحاكم باسم الإله، كونه خادم الإله! فتتحقق فيه الألوهة ويكتمل فيه الثالوث كله أي الفرعون والكاهن والإله.
يعود مارك بالتاريخ، فيشرح طبيعة دور الكاهن في العقلية القبطية. يقول: الكاهن تخلى عن ردائه الكتاني ناصع البياض ولبس السواد. بدا بعمامة لونها لون الرداء بعد أن كان حليق الرأس، واتشّح بالصليب، وعمَّد وقدَّس وضرب بخوره أمام مذبح المسيح. ولكنه لم يتخل يومًا عن جوهره، وطالب بالسيادة على مصر منذ أيام الانشقاق بين كنائس العالم، ونادى بالقومية، ونظًر لها وحارب من أجلها، ومات فيها! واستبدل الـ “كنيسة” بالـ”أمة” واستبد بها وطوى الاثنتين فى عبائته مرة أخرى.
لا يرى مارك فليبس فكرة الاحتفاء بموت الكاهن وإن أخطأ وعوقب وحرم بعيدًا عن دوره الألوهي في الخيال القبطي، فهو الذي يُقدِّس الأسرار، وعلى يديه يحل الروح القدس ويتحول أي جسد المسيح، وبصلواته تُشفى الأجساد وتحبل العذارى ويُرزق العاطلون، بل وفيه تقوم ذات الأمة والكنيسة كلها!
يوضح مارك طبيعة دور الكاهن تلك، فيشير: وإن كان الكاهن مسيحيًا يُسلَّم لقب أب، كونه راع، ومتصوف، وقديس، ومحب للمسيح، إلا أن اللقب يأخذ أبعادًا أخرى على المستوى القبطي، فالكاهن هو الرجل الخارق، الذي يمثِّل الدين كله وفيه تتجسد الذات الجماعية وتقوم، فكل مساس به هو مساس بذات الجماعة (الدينية-القومية) ويُعد تعدي عليها. لذلك لا تكتسب الطغمة الكهنوتية سُلطة “فرعونية” فقط كونها مالكة سلطان الحل والربط. ولكن أيضًا سلطة إلهية. فالظاهرة الكهنوتية في العقلية القبطية تجعل صاحبها يتقدس ويتأله (على نحو غير مسيحي بالطبع) كونها المُعبِّرة عن الجماعة ومجسدة لها وحائزة ملكية تمثيل كل فرد فيها.
اقرأ أيضًا: مزارات بلا قديسين.. عودة بناء الأضرحة للأساقفة والكهنة يثير الجدل
لماذا يدافع الأقباط عن الكهنة والرهبان رغم إدانتهم كنسيًا؟
يشرح مارك الأسباب التي جعلت كثير من الأقباط يدافعون بضراوة عن كهنة مخطئين: لا تقبل النرجسية القبطية أبدًا أن يُخطَّأ الكاهن أو أن يُلام. ناهيك عن إدانته في جريمة قتل أو تحرُّش. لأن تلك الإدانة هي عار للجماعة التي تختبىء تحت عبائته، وطعن في كل فرد يُجسِّده.
وأوضح: لذلك لم تقبل الذات القبطية أن يكون أشعياء الراهب هو القاتل لأبيه ورئيس ديره، والرفض هو التعبير عن ذلك الجرح الغائر الذى أصاب النرجسية القبطية فى مقتل فور إعلان أن القاتل راهبًا، فهو ليس شريرًا بالطبع. فكونه راهبًا يتعرض لحروب روحية أعظم مما يحتمله المسيحى العادي. وهذا إن كان حدث، فهو للخير، وقد حدث من أجل خيره وتوبته ورجوعه إلى الله.
حتى إنهم قالوا إن الأنبا ابيفانيوس نفسه سيستقبله فى الملكوت بالأحضان و يقدمه للمسيح. ووفقا لهؤلاء فكلاهما قديس، القاتل والمقتول، والقاتل شهيد مظلوم قدَّم حياته لسبب مجهول لا نستطيع أن نستنتجه لا بالخبر ولا بالعقل السليم.