شكّلت 30 يونيو التي أطاحت بحكم الإخوان المسلمين، لحظة فارقة في طبيعة علاقة الكنيسة بالدولة، باعتبارها دشّنت لتغيرات جذرية في مآلات تلك العلاقة انتقلت من سياسة “العصا والجزرة” إلى المواطنة الكاملة.
تحددت آليات هذا الانتقال، بالتحولات التي شهدها الملف القبطي في الأعوام اللاحقة. من بينها إقرار قانون بناء الكنائس ونتائجه الإيجابية في عدد الكنائس التي شهدتها البلاد، والترخيص لعدد كبير من الكنائس، وزيادة التمثيل البرلماني للأقباط. فضلاً عن علاقة شديدة الودية بين الرئيس عبدالفتاح السيسي والكنيسة بما تضمنتها من زيارات متواصلة. وهي العادة التي لم تكن موجودة في أدبيات الرئيسين حسني مبارك وأنور السادات.
تأسيس للعلاقة
اختارت الكنيسة موقفًا داعمًا لـ”30 يونيو”، وهنا كان عليها أن تتحمل تبعات هذا الموقف، باعتبارها كانت مرمى لأهداف العمليات الإرهابية. لكن البابا تواضروس علّق على حرق الكنائس بعد فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في أغسطس 2013، بقوله: “وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن”.
كان هذا التصريح إذانًا بأن علاقة أخرى بدأت تتشكل بين الدولة والكنيسة، رصيدها الأساسي المواطنة والحقوق. لذلك لم يسقط أول عيد ميلاد من ذهن السيسي وهو رئيس عام 2015، حين زار الكاتدرائية. وقتها سمع كلمات ترحيب مفرطة من أسقف طنطا الأنبا بولا، الذي وصف السيسي بـ”المُخَلِّص”.
أسست تلك الزيارة وما لحقتها من مواقف رسمية تجاه الكنيسة، لمرحلة متماهية في المواطنة. منحت الدولة إزاءها الأقباط حقوقًا حرموا منها طوال السنوات السابقة، وفي المقابل قدّمت الكنيسة أوراق اعتمادها المُؤسَّسة على موقف داعم للدولة.
نهاية “عصر العصا والجرزة”
البداية كانت، حين كانت الشوارع تكتظ بالمتظاهرين في 3 يونيو، كان البابا تواضروس الثاني قد استقر في مقر له قرب صحراء كنج مريوط بالإسكندرية بعيدًا عن قلق العاصمة، حتى جاءه اتصال هاتفي في اليوم الثالث لإقامته تلك يدعوه فيه من كان على الهاتف للمشاركة في اجتماع خارطة الطريق. فما كان منه إلا أن تحرك من موقعه نحو مطار برج العرب؛ مستقلاً طائرة حربية نقلته إلى حيث اجتماع خارطة الطريق الذي شارك فيه البابا إلى جوار شيخ الأزهر والقوى السياسية، وهي اللحظة التي تغيرت فيه علاقة الكنيسة والدولة بشكل جذري.
جاء البابا تواضروس إلى سدة كرسي مارمرقس بعد عصر يمكن تسميته “عصر العصا والجرزة”. فقد كان مبارك يتذكر الكنيسة في مواسمه الانتخابية. بينما تحاول الكنيسة حصد مكاسب بسيطة عبر تصريح ببناء كنيسة هنا أو توسيع أخرى هناك. تلك أقصى طموحات البطريرك الراحل الذي عاش تحت براثن مرسوم الخط الهمايوني العثماني فيطلب بموجبه تصريحًا رئاسيًا إذا رغب في بناء كنيسة أو حتى تغيير حمامها.
شارك البابا تواضروس في خارطة طريق 30 يونيو، وهو الأمر الذى دفع الأقباط إلى واجهة الاستهداف. فقد عاشت كنائسها تحت مرمى نيران الإرهاب بعد أحداث فض رابعة، فاحترقت ما يزيد عن 100 كنيسة في حوالي سبع محافظات، تكفل الجيش بإعادة ترميمهم جميعًا. بالإضافة إلى استهداف الأقباط المستمر وتفجير كنائسهم طوال السنوات العاصفة التي تلت 2013.
“مؤسسة للدبلوماسية الشعبية”
كل تلك الأحداث التي عاشتها الكنيسة وطدت علاقتها بالدولة، فقد شكلت الكنيسة “مؤسسة للدبلوماسية الشعبية” بعد 30 يونيو. وصارت الكاتدرائية محطة أساسية في زيارات الرؤساء الأجانب والشخصيات الدولية لمصر.
يؤكد البابا لكل ضيف أن البلاد تشهد عهدا جديدا، وأن ما جرى كان رغبة شعبية، يعقد مقارنات بين الماضي والحاضر. كما يمد عصا رعايته فيسافر إلى الخارج ليلعب الدور نفسه فيقول “كنائسنا سفارات لمصر في المهجر”.
وخلال مشاركته في فعاليات الدورة الـ21 لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ظهرت صورة ضخمة للبابا تواضروس بجوار صورة للسيسي في لافتات رفعها مسيحيون جاءوا للترحيب بالرئيس المصري، أمام مقر إقامته في نيويورك، قبل أن يتكرر المشهد ذاته، أمام مقر الأمم المتحدة.
قانون بناء وترميم الكنائس
في المقابل، لا تؤخر الدولة للكنيسة طلبًا، وتحصل الأخيرة على حقوق تأخرت ربما 100 عام. أبرزها قانون بناء الكنائس الذي صدر عام 2016 ليضمن للأقباط بناء كنائس جديدة. ويحل أزمة الكنائس غير المرخصة التي زاد عددها عن ستة آلاف كنيسة بنيت بتفاهمات مع الأمن، على حد تعبير الأنبا بيمن أسقف قوص ونقادة.
في 30 أغسطس 2016، أقر مجلس النواب المصري (البرلمان) بشكل نهائي قانون بناء وترميم الكنائس. وعلى خلاف ما كان معمولا في السابق، استبعد القانون شرط موافقة الجهات الأمنية على طلبات بناء الكنائس في البلاد. ووضع حدًا زمنيًا للبت في الطلب لا يزيد على 4 أشهر.
ومنذ إنشاء لجنة مختصة بمراجعة طلبات التقنين، وافقت الدولة على تقنين 1882 كنيسة ومبنى، مقسمة على 1077 كنيسة و805 مبانٍ، حتى أبريل الماضي. وبناء وترميم الكنائس من بين أسباب حوادث عنف طائفي وقعت في مصر عبر السنوات. لكنها لم تلحق ضررا كبيرا بالوئام السائد بوجه عام بين أتباع الديانتين.
التمثيل النيابي
لذلك، شكلت 30 يونيو حالة من التناغم السياسي بين الطرفين البابا تواضروس من ناحية والرئيس السيسي من ناحية أخرى. هذا التناغم الذي جرى ترجمته إلى مكاسب حصدتها الكنيسة. ربما أبرزها زيادة التمثيل النيابي للأقباط بشكل لم يعهده البرلمان المصري بفوز 31 نائبًا ونائبة، 28 نجحوا فى نظام القائمة و3 نواب على المقاعد الفردية في الدورة الأخيرة.
وكانت نسبة تمثيل المسيحيين في عهد مبارك أقل من 2%. فقد بلغ عدد الأقباط في برلمان 2000 ستة أقباط من أصل 454 عضوا بمجلس الشعب. وفي عام 2005 دخل المجلس سبعة أقباط من بينهم واحد بالانتخاب.
وفى أغسطس 2018 جرى تعيين، للمرة الأولى، قبطيين فى منصب المحافظ. وهما الدكتورة منال ميخائيل محافظاً لدمياط، والدكتور كمال شاروبيم محافظاً للدقهلية.
رأى البابا تواضروس أنّ سياسة عداء الدولة نهجًا ليس صحيًا، من ناحية المواطنة، أو من ناحية الحصول على الحقوق المفتقدة، حيث ينجح البطريرك الصيدلي في مداواة جراح سنوات خلت على طريقته الخاصة غير عابئ بالمقارنات التي يعقدها الأقباط بينه وبين سلفه البابا شنودة.
أما الرئيس السيسي فيرى في الأقباط حليفًا سياسيًا يبني معهم حلفًا اجتماعيًا، فقد شكلوا منذ اللحظة الأولى قوة أساسية جاءت به إلى الحكم وظلوا رقمًا أساسيًا في معادلة انتخابه وإعادة انتخابه، فكانت 30 يونيو “ثورة” في علاقة الدولة والكنيسة.