الإنسان مرغم دائمًا على أن تكون إحدى عينيه متجهة نحو الماضي، وربما يكون بالفعل كلامًا صادقًا أن الحاضر ما هو إلا تراكمات الماضي القريب أو البعيد، وقد يكون سلوكنا اليومي ما هو إلا انعكاس راهن لماض عشناه، جميعها مقولات تبدو للوهلة الأولى بسيطة، ولكنها في واقع الأمر معقدة، وملتبسة، فهذا “الماضي” الذي تتحدث عنه، وتورده ضمن مفرداتها، ليس واحدًا، بل كثر، ولا ينتمي لاتجاه واحد، بل متعدد الاتجاهات، وعندما يتعلق الأمر بالمعرفة، والتراث الفكري، فعلينا أن نسأل: “أي ماض علينا أن ننظر إليه، ونتمعن في معطياته؟!”.
وربما يطرح البعض الآن بعض النماذج التي انتشرت في بعض المجتمعات العربية في مراحل ضعف وتدهور، فآثرت الانكباب على ذاتها، ورفضت الآخر، بل وناصبته العداء، ورفضت العقل، بل واعتبرته خروجًا عن الدين.
ولكن هناك أيضًا في تراثنا العربي الإسلامي رجال وجماعات وفرق، أعلّت من شأن عقل الإنسان، وقدمت فكرًا فلسفيًا أصيلًا، ظهر من نبت المجتمع العربي الإسلامي، وعبر عن أزماته، وقضاياه، ومشكلاته، واختفى بفعل عوامل التراجع التي أصابته، ومن بين هذا التراث العقلاني، وربما يأتي في مقدمته: “المعتزلة”، وهم جماعة فلسفية، وفرقة من فرق علم الكلام، التي أثرت الفكر العربي الإسلامي برؤى، وأفكار فلسفية مهمة، وبرجال فكر كان لهم أثرًا كبيرًا في تاريخنا الممتد.
لقد كان العرب في الجزيرة العربية أهل شفاهة، ولم يكونوا يمتلكون حضارة ذات بنيان، ومع البعثة المحمدية، أصبح “القرآن” بوصفه نصًا مقدسًا ومحوريًا، على المستوى الذهني والسلوكي، ومركزًا لكافة العلاقات البينية على المستوى الفردي والجماعي، بل وعلى مستوى فهم علاقتهم بالآخر، وفي رؤيتهم للعالم بصفة عامة.
ومع اختلاطهم بحضارات، وثقافات أخرى متنوعة، ومختلفة، من ناحية، ومع اشتداد الخلافات فيما بينهم، واحتدام الصراع السياسي، والاجتماعي، الذي اتخذ صبغة دينية (وهو أمر مقبول ومفهوم في حينها)، من ناحية أخرى، كان لابد أن تظهر أفكار، ورؤى نظرية تعبر عن هذا المشهد، وتشتبك معه، وهو ما حدث في البداية من خلال “علماء الكلام”، الذين توزعوا، فرقا، وجماعات، واتخذوا في حينها مواقفًا فكرية، مثلما انحازوا لرجال، ولقرارات سياسية، وهنا يظهر من بين هؤلاء “فرقة المعتزلة”، والتي كان لها صولات، وجولات، مناظرات، ومقولات، وكتابات، أثرت الفكر العربي، والحضارة العربية الإسلامية. وعندما نلقي الضوء على هذه الفرقة (المعتزلة)، فنحن في واقع الأمر نتتبع خطى سير العقل العربي الإسلامي، ونتفحص مرحلة مهمة، من تاريخه، تزامنت مع انبثاق، وازدهار الحضارة العربية الإسلامية.
من هم المعتزلة؟
يذهب المستشرق الإيطالي “كارلو نللينو” إلى أن المعتزلة قد استعاروا هذه “التسمية” ممن وقفوا موقفهم السياسي الشهير في “اعتزال” الفتنة الكبرى، وهو رأي أورده (النوبختي) في معرض حديثه: “لما قتل عثمان افترق الناس 3 فرق…. وفرقة اعتزلت مع سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، فسموا المعتزلة، وصاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد” ويؤكد هذا ما ذكره “السبكي” من أنه وقع على كتب للمعتزلة تصنف “عبدالله بن مسعود” المعلوم اعتزاله القتال بين “علي” و”معاوية” كأحد روادهم.
بينما يرى الأغلبية من الباحثين أن رأس المعتزلة هو “واصل بن عطاء” (المولود في العام 80هـ، والمتوفى في العام131هـ)، وكان ممن يحضر مجلس “الحسن البصري” في زمن فتنة الأزارقة، فثارت تلك المسألة التي شغلت الأذهان في ذلك العصر، وهي مسألة “مرتكب الكبيرة”، ودخل أحدهم على “الحسن البصري” في حلقته في مسجد البصرة، وبين له مذهب الخوارج في الكبيرة، ومذهب المرجئة، وطلب منه بيان الحكم في ذلك، ففكر الحسن، وقبل أن يطرح إجابته، قال واصل بن عطاء: “أنا أقول أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن بإطلاق، ولا كافر بإطلاق، بل هو في منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر، فطرده الحسن”، و”اعتزل” واصل في ناحية من المسجد يقرر ما أجاب به على أصحابه.
بينما يسمون أنفسهم (المعتزلة) أهل العدل والتوحيد، ويعنون بالعدل: القول بأن الإنسان موجد أفعاله، تنزيها لله تعالى أن يضاف إليه شر، ويعنون به قياس أحكام الله على ما يقتضيه “العقل” وتقره “الحكمة”، ومن ثم نفوا أمورا، وأوجبوا أخرى، فنفوا أن يكون الله خالقا لأفعال عباده، وقالوا: إن العباد هم الخالقون لأفعال أنفسهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، بينما يعنون بالتوحيد: نفي الصفات القديمة، وقولهم بأن “الصفات هي عين الذات”، فالله تعالى “ليس كمثله شيء”. وهم يفضلون أن يدعوا بهذا الاسم، فعلاوة على المعنى الحسن الذي يتضمنه، فإنه مشتق من أهم قاعدتين من قواعد الاعتزال، واللتين كانت تدور حولهما أكثر تعاليمهم، وهما: العدل، التوحيد.
العقل عند المعتزلة:
ذهب المعتزلة إلى أن “العقل” هو الأصل الذي يبني المرء عليه حياته، ويهتدي بهديه، ويرون أن العقل هو عبارة عن جملة من العلوم مخصوصة، متى حصلت في “المكلف/الفرد” صح منه النظر، والإستدلال، والقيام بأداء ما كلف به، فالعقل هو العلم، وهو مكون من مجموعة من العلوم، والمعارف الأساسية، والضرورية، التي إن اجتمعت في عقل “المكلف” بمجموعها، تكون بمثابة ملكة يستطيع بها الإنسان الحكم على الأمور بمجملها خيرها وشرها، وغير ذلك من تصاريف الحياة. ومن هنا ركـز “المعتزلـة” جهودهـم للارتقـاء بالعقل إلى مستوى البرهان في مسائـل العقيدة، فكل مسألة من مسائلهم يعرضونها على العقـل، فمـا قبله أقـروه، وما لم يقبله رفضـوه.
كما يؤكدون علو العقل عن الحواس، وهو رأي شديد القرب من رؤية الفيلسوف الألماني: “إيمانويل كانت” حيث يرون: لسنا نسلم أن الحواس أقوى، لأن بالعقل نميز ما يدرك بالحواس، ولذلك لا تتميز للبهائم المدركات حسب تميزها للعقلاء، ولا نسلم أن العقل أضعف، بل نقول فيه أنه المعتمد في المعارف، حيث جعل المعتزلة – من خلال نظرتهم – العقل في موضع الحكم على إدراكات الحواس للأشياء، بحيث يقوم بدور المصحح، والمصوب لأخطاء الحواس، يقول “القاضي عبد الجبار” وهو أحد كبارهم: “إن العقل هو المعيار على الحواس، وهو الأصل فيما يوثق به، وخطأ الحواس لا يمنع من الثقة بما يعلم بالعقل من المدركات”. وهذا التقدير لقيمة العقل جعلهم يلجأون إلى تأويل النص القرآني، وفي تفسير الآيات القرآنية، وخاصة المتعلقة بالعالم، وخلقه، وبصفات الله، وهو ما يعنى: أن غاية منهج التأويل العقلي في بحثهم عن خلق العالم، وصفات االله، ووحدانيته غاية هامة، تتعلق بقدرة العقل على الوصول منفرد لحكمة الله، وحرية الفرد (المكلف)، في إطار من الإيمان العقائدي، ومن خلال الاستدلال العقلي. و(العقل) يسبق (النقل) في الوصول إلى هذه الرؤى، وكل عاقل (على حد قول القاضي عبدالجبار) يعلم بكمال عقله قبح كثير من الآلام، كالظلم الصريح وغيره، وحسن كثير منها، كذم المستحق للذم، وما يجرى مجراه. ووصف الفعل بالحسن والقبح -عند المعتزلة – إما لذاته، أو لصفة، أو لوجوه واعتبارات أخرى، والعقل يدرك حسن او قبح بعضها بضرورة العقل كحسن انقاذ الغرقى والهلكى، وشكر المنعم، ومعرفة حسن الصدق، وقبح الكفر، ومنها ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الذى فيه ضرر، وقبح الكذب الذى فيه نفع، ومنها ما يدرك بــ”السمع” كحسن الصلاة، وسائر العبادات
الحسن والقبح ذاتيان:
كـان مـن آثـار اعتمادهم على العقل أنهم كانوا يحكمون بحسن الأشياء أو قبحها (في أعلبها) على العقل، لا على الشرع، بل إنهم قالـوا: “المعارف كلها معقولة بالعقل، واجبة بنظر العقل، وشكر النعم واجب قبل ورود السمـع، أي قبل مجيء (النقل/النص)، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأشياء، والحاكم بالحسن والقبح هو العقل، والفعل حسن أو قبيح إما لذاته، وإما لصفة من صفاته لازمة له، وإما لوجوه واعتبارات أخرى، والشرع كاشف ومبين لتلك الصفات فقط، فالتحسين والتقبيح من مدارك العقول على الجملة، بمعنى أن العقول تدرك حسن الأشياء وقبحها، وأفعال العباد قبل ورود الشرع تتصف بالحسن والقبح، لأن العقل يحكم بحسنها وقبحها، على اعتبار أن الأفعال لها صفات ذاتية يدركها العقل، فيحكم بحسن الفعل أو قبحه، واذا أدرك العقل الحسن فى فعل من الأفعال، أدرك حكم الله فيه بالأمر، وكذالك اذا ادرك العقل قبح فعل من الأفعال، أدرك حكم الله فيه بالنهى، بمعنى أن المرء يثاب ويعاقب على الأفعال قبل ورود الشرع، يقول أحد كبارهم: الحُسنَ والقُبحَ أَمرانِ عقليَّانِ يُدرِكُهُمَا العقلُ بمَدارِكِهِ الخَّاصَّةِ مُستَقلَّاً عنِ الشَّارعِ.
ويقول القاضى عبد الجبار: كل هذه القبائح تنقسم حسب طبيعتها ففيها ما يكفى فى معرفة قبحه أن يعلم الوجه الذي منه قبح، فيبعد حصول العلم بهذه الأوجه إلا مع العلم بالقبح، وهذا على نحو: الظلم، والجهل، والعبث والمفسدة وغير ذلك، فإنا لا نعلم في شئ من هذه الأفعال الوجوه التى ذكرناها الا وقد علمنا معها القبح.
والمنحى الثاني: أن نعلم وجه القبح ولكنا لا نعلم إلا بتأمل زائد، وهذا مثل الكذب، لأنه إذا حصل فيه نفع، ودفع لضرر، فقد عرفناه كذبا، ولكنا لا نعرفه قبيحا، ووجه قبحه هو كونه كذبا، فنحتاج إلى ضرب من النظر بأن نقول: ليس الذى قبحه لأجله الكذب الخالى من منفعة، ودفع مضرة، إلا كونه كذبا، فإما تعريه من نفع، ودفع ضرر، فقد يوجد فى الصدق كما يوجد فى الكذب، والفرق بينهما معلوم فى القبح والحسن، إنما يفبح لكونه كذبا، فيجب فى كل كذب أن يقبح، فأما القبائح المعروفة شرعا فطريق جميعها الاستدلال، لأنه لا مدخل للضرورة فى شئ منها. وفى بعض الأحيان قد يكون هناك أمر قبيح والعقل لا يدرك قبحه، فلا يحكم عليه بالقبح، أو يدركه حسناً، وهنا تأتى “الرسالة” لبيان قبحه، ونصب الأدلة التى لو أدركها العقل لأدركه قبيحا، حتى ولو لم يكن شرع.
ربما نتفق مع المعتزلة حول بعض المقولات، أو نختلف، وربما نقبل بعض المواقف الفكرية أو السياسية، أو نرفضها، ولكن ما ينبغي التمسك به، والسير على خطاه، هو إيمانهم المطلق بحرية الفرد (وهي عدل من الخالق)، وقدرة العقل على الوصول للحكمة، واستخدامهم المنهج العقلي النقدي القادر على التفرقة بين الملتبس من أمور الدنيا والدين، ومن ثم عدم تسليم أمورنا لجماعة من الناس، يدعوننا إلى التوقف عن استخدام عقولنا، والتسليم بمقولاتهم، زعما منهم أنها من الدين، بينما الدين منها براء.