بالرغم من عراقة تاريخ منظمات المجتمع المدني في مصر، والتي يتم تأريخها منذ عام 1821 بالإسكندرية، مع تأسيس الجمعية اليونانية أولى الجمعيات في العالم العربي، إضافة إلى افتخار البعض بأن عدد منظمات المجتمع المدني في مصر، والذي يتجاوز 50 ألفا، هو العدد الأكبر داخل الدول العربية. إلا أن الاكتفاء بهذا الاحتفاء والإحساس بفخر الماضي، وبكثرة أعداد المنظمات في العصر الحالي، لا يغير من واقع ضعف الأدوار التي تلعبها منظمات المجتمع المدني في مصر.
فبادئ ذي بدء، من الطبيعي أن يكون لمصر السبق في المنطقة في تأسيس الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، كونها دولة ذات عمق حضاري يمتد لآلاف السنين، كما أنه من الطبيعي أيضا أن يكون لمصر العدد الأكبر للجمعيات والمنظمات حاليا مقارنة بالعالم العربي، إذ تحتل مصر المرتبة الأولى في الدول العربية من حيث الكثافة السكانية، إذ إن ربع العرب تقريبا مصريون. وبالتالي، فمن ناحية النسبة والتناسب، ربما كانت مصر تحظى بنسبة أقل من حيث عدد منظمات المجتمع المدني بالنسبة للسكان.
وفي حين يتراوح العدد الحقيقي لمنظمات المجتمع المدني في مصر بين 52 و58 ألف في عام 2021 وفقا لتقديرات من وزارة التضامن، وإصدارات منشورة بمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، إلا أنه لا توجد إحصائيات منشورة عن حجم مساهمة هذا القطاع في الناتج القومي الإجمالي، وذلك في الوقت الذي يتم تداول أن منظمات المجتمع المدني في العالم لو شكّلت كلها دولة واحدة، لتمتعت بخامس أكبر اقتصاد في العالم.
وحتى مع هذا الرقم الذي قد يبدو كبيرا، عند مقارنته بالعالم العربي، والذي تتمتع فيه مصر بالكثافة السكانية الأعلى، بفارق يزيد كثيرا عن ضعف سكان دولة الجزائر، والتي تحتل المرتبة الثانية. إلا أن واقع الأمر، أن قرابة نصف هذا العدد من المنظمات غير نشط أصلا، ناهيك عن العقبات والتحديات التي تطرأ عند الحديث عن ضم المنظمات الحالية، والتي تأسست في عصور وقوانين مختلفة، تحت مظلة تشريع واحد متكامل.
ومع أخذ هذه المستجدات في الاعتبار، فإن دولة مثل كينيا، والتي تشاركنا حوض النيل، ويبلغ عدد سكانها حوالي 53 مليون نسمة، أي أقل من نصف عدد سكان مصر، تتمتع بشبكة من المنظمات المحلية، والإقليمية، والدولية، والتي تعمل تحت إطار تشريعي واحد، تم تقنينها جميعا بشكل رسمي، ويبلغ عدد منظمات المجتمع المدني أعضاء تلك الشبكة أكثر من 12 ألف منظمة. وهو الأمر الذي لا يزال تحقيقه في مصر بعيد المنال للأسف.
وجدير بالذكر أننا اخترنا دولة إفريقية تشاركنا حوض النيل من أجل عقد مثل هذه المقارنة الإيضاحية، ولم نختر دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يصل عدد منظمات المجتمع المدني العاملة فيها إلى قرابة مليون ونصف منظمة.
الدولة تشرع وتنفذ والمجتمع المدني يبادر
في الوقت الذي تتميز فيه الملامح الرئيسية لمصطلح المجتمع المدني بالوضوح والتبسيط، إلا أن واقع الحال في مصر، والعديد من دول العالم العربي تتشابك فيها الخيوط ويتضح أن تصورات أدوار منظمات المجتمع المدني تختلف اختلافا كبيرا. إذ تظهر العديد من الحالات التي تكون منظمات المجتمع المدني ما هي إلا واجهة لبعض أجهزة الدولة، وأداة يتم تفريغها من معناها كونها تابعة بشكل رئيسي للدولة، بما يتنافى مع طبيعة دورها المفترض كونها تشكل حلقة وسط بين الدولة والمجتمع.
كما أنه عادة ما يكون دور منظمات المجتمع المدني حول العالم هو إطلاق مبادرات ومشاريع بهدف الضغط لتحسين وتطوير أوضاع، أو تعديل سياسات، تستجيب لها الأنظمة السياسية والحكومات سواء استجابة كاملة، أو التفاوض من أجل تطبيق جزئي أو حلول وسط تراعي اعتبارات مختلفة. فإن دور الدولة يكون هو إصدار التشريعات وتطبيق السياسات. إلا أن هذا المفهوم يشوبه العديد من التشويش في الواقع المصري المعاصر. إذ نجد أن رأس الدولة يقوم بإطلاق مبادرات، مثل اعتبار عام 2022 عام المجتمع المدني، وكذا مبادرة إشراك المجتمع المدني في أعمال التنمية تحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
ويبرز هنا تساؤل مشروع، إن كانت الدولة تبادر من ناحيتها، ولا تكتفي بالتركيز على أدوارها من سن تشريعات، وإعلان وتطبيق سياسات. ما الذي يتبقى من دور المجتمع المدني، بعد أن يتم سلبه أداته الرئيسية في المبادرة؟ وتأميم حقوقه في المشاركة الفعالة؟
وهنا يكمن مربط الفرس من أجل استعادة أو الوصول إلى أدوار أكثر تأثيرا وفاعلية لمنظمات المجتمع المدني في مصر. فقبل الدخول في العديد من التفاصيل، والتي لا تقل أهمية، مثل حوكمة المجتمع المدني، وآليات مكافحة الفساد داخله، وفرص لمزيد من التشبيك خصوصا بين المنظمات التي تهتم بنفس مجالات العمل، أو تعمل في مجالات متشابهة. فمن الضروري تحديد ما هي أدوار المجتمع المدني أولا، ثم رصد ماهية العوائق التي تقف في سبيل تفعيل تلك الأدوار ثانيا، ثم أخيرا، اقتراح توصيات وأفكار من أجل تغيير هذا الواقع.
مجتمع قوي ودولة قوية
تتكرر الإشارة في العديد من وسائل الإعلام، وكذا الخطابات الرسمية إلى أهمية أن يكون لدى مصر دولة قوية. وهو هدف لا غبار عليه، إلا أن وسيلة وطريقة تحقيقه لا تكون عن طريق قوة الدولة على المواطن وقمع ومصادرة حرياته، إنما قوتها في مواجهة أي أخطار طبيعية مثل آثار التغيرات المناخية، أو بشرية مثل الإرهاب وأي حروب محتملة في المنطقة قد تؤثر علينا.
إن قوة الدولة في مصر ينبغي أن تنبع من قوة المجتمع الحر، وتمكين المواطن، لا من غلبة وتسلط حزب، أو حاكم، أو جهاز أمني. وبالتالي، فإن علاقة الدولة بالمجتمع، في هذا السياق، تكون علاقة تمكين وتعاضد، وفي الحالات التي يختلف فيها الطرفان، يبرز دور المجتمع المدني للتوسط، وطرح حلول وسطى تحقق أغلب مطالب المجتمع، وكذا تلائم أيضا بعض اعتبارات الدولة ومقدراتها، وتحديد الأولويات فيما يمكن عمله الآن، وما يمكن تحقيق تقدم جزئي فيه، لإتمام عمله في المستقبل القريب.
ويمكن التوسع في التعرف على العلاقة بين الدولة والمجتمع في مصر من ناحية الاقتصاد السياسي، من خلال كتاب “النظام القوى والدولة الضعيفة“ للعلامة الراحل دكتور سامر سليمان، والذي شغل منصب أستاذ مساعد الاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية.
تغول سلطات الدولة على أدوار المجتمع المدني
وختاما، فإن التغيير الحقيقي الذي نتمناه بأن يصبح للمجتمع المدني في مصر أدوار أكثر فاعلية وتأثيرا، يتضمن تغييرا في تصوراتنا عن منظمات المجتمع المدني، وتمكينا أكبر لها لتعمل بشكل أكثر استقلالية وانفتاحا، إضافة إلى تذليل العوائق التي تقف في طريقها، وهي كثيرة جدا، ولكن يمكن على سبيل الاختصار، تحديد أبرز تلك العوائق فيما يلي:
أولا: بالنسبة للسلطة التشريعية، فبالرغم من إصدار القانون رقم 149 لسنة 2019، والذي كان يراد منه أن يكون التشريع الجامع، لتنخرط جميع منظمات المجتمع المدني تحته، إلا أن العديد من منظمات المجتمع المدني المستقلة أبدت تحفظاتها، واعتراضاتها، على مواد هذا القانون، منذ أن كان مسودة، ثم أبدت الدولة أخيرا، بعد صدوره بعض المرونة، بعد قيام الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، بإطلاق عام 2022 عاماً للمجتمع المدني، والإعلان عن تمديد المهلة أمام المنظمات للتسجيل ضمن القانون، وكذلك إدخال بعض التعديلات فيه.
وينبغي التعلم من هذا الدرس، بأن يتم الاستماع إلى أصوات واقتراحات منظمات المجتمع المدني، خصوصا، مع كون التشريع يتناول تنظيم أمورهم، كونهم صاحب المصلحة الأكبر ضمن هذا التشريع، إضافة إلى كونهم الطرف الوسيط بين المجتمع والدولة، في أغلب التشريعات الأخرى. كما أنه من الضروري حتى تنجح مصر في المواجهة الأمثل للأزمة الاقتصادية الحالية، وإحداث تغيير للأفضل، اعتماد سياسة الباب المفتوح في تسجيل وترخيص كافة المبادرات وطلبات تأسيس منظمات للمجتمع المدني. على أن يكون التأسيس بالإخطار، وليس بالخضوع لمسلسل البيروقراطية الطويل، ذو التعقيدات الكبيرة، والتي تجعل الكثيرين يصرفون النظر عن التسجيل الرسمي.
ثانيا: بالنسبة للسلطة القضائية، فهناك العديد من الأحكام، والتي تتضمن تأويلات وتصورات صادمة عن طبيعة عمل المجتمع المدني، فعلى سبيل المثال، أصدرت محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية الدائرة الأولى في البحيرة برئاسة المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجي، نائب رئيس مجلس الدولة حكما في مارس 2015 بخصوص قطعة أرض تم تمليكها لمواطن عن طريق تقنين وضع اليد مع الدولة منذ عام 2008، وبعد إصدار رئيس مركز ومدينة إدكو ترخيص بناء للمواطن في يونيو 2011 ليبني فيها، أرسل ائتلاف شباب الثورة فاكس لرئيس مدينة إدكو لسحب الترخيص فاستجاب له وأصدر قرارا بسحب الترخيص.
ولم يكتف القضاة في هذه الدائرة بالحكم على بطلان قرار سحب الترخيص، بل تضمنت ديباجة الحكم بأنه لا يجوز للحركات السياسية وائتلافات الشباب الثورية التدخل فى إدارة شؤون الدولة، وهي مقولة مثيرة للاندهاش، إذ إن غاية ما تم القيام به في هذه الحالة كان إرسال فاكس لمسؤول السلطة التنفيذية المختص بالأمر، فكيف يعد ذلك تدخلا في إدارة شؤون الدولة؟ ولنتخيل ما يمكن لحكم قضائي مثل هذا أن يفعله في بعض دول أمريكا اللاتينية، والتي تقوم فيها الحركات الاحتجاجية بالاعتصامات الجماعية والسيطرة على المباني الحكومية، وإدارتها بشكل متواز مع سلطة الدولة؟
وجدير بالذكر أن المستشار محمد خفاجي، كان هو نفسه رئيس الدائرة التي أصدرت الحكم الأخير بحق الأستاذة الجامعية في جامعة قناة السويس، والذي تضمن القول بأن “حرية الاعتقاد مكفولة طالما ظلت حبيسة فى النفس” وهي المقولة التي أثارت موجات من الاعتراض والسخرية.
ثالثا: بالنسبة للسلطة التنفيذية، فعليها ألا تتغول على أدوار المجتمع المدني، وتلتزم بأدوارها في التنفيذ وإشراك المجتمع المدني في عمليات صنع السياسات بدءا من الاقتراح، وصولا إلى التقييم والمراقبة بعد التنفيذ. كما عليها تذليل العقبات الحالية في تسجيل الجمعيات والمنظمات.