قد يتبادر إلى أذهان القارئ العزيز بأن هذا المقال المنقسم إلى جزأين سيكون محور حديثه هو شركة الحديد والصلب المصرية بحلوان التي اتخذ قرار تصفيتها في العام الماضي، وهي القضية التي تحدث عنها الكثيرين من داعمي ذلك القرار أو الرافضين له، ولكل منهم حججه التي عددها في مناسبات مختلفة، إذًا فهذه المساحة ليست مخصصة لتلك النقطة على وجه التحديد، بل نتناول فيها هذا القطاع برمته، ومكانه على الخريطة الصناعية المصرية.
عودتنا دروس الحياة العديدة بأن الأزمات والكوارث تمنحنا أحيانًا فرص قد تكون بذات القدر الذي تعطينا إياه من المآسي والخسائر، ففي أربعينيات القرن الماضي بعد ما خرج العالم بأكمله منهكًا من الحرب العالمية الثانية، مثلت أكوام الخردة الكبيرة التي ملأت الصحراء الغربية في مصر فرصة ذهبية لبدأ نشاط صناعة الحديد والصلب عام 1947 بمصانع ثلاثة للصلب (الدلتا، الأهلية، النحاس) كانت تستغل أكوام الخردة وتصهرها عبر الأفران ثم تصبها في قوالب تمهيدًا لتحويلها إلى الحديد المسلح، وتطورت مع الزمن تكنولوجيا تلك الصناعة عبر إنشاء شركة الحديد والصلب المصرية بحلوان في نهاية الخمسينيات، كأول مصنع “متكامل” يستخدم تكنولوجيا الأفران العالية لصهر “خامات الحديد” المستخرجة من أسوان بدلًا من الخردة، وصبها يدويًا لتحويلها إلى كافة منتجات الصلب النهائية، مما جعل الشركة عام 1972 تتحول إلى مجمع كامل للصلب بطاقة إنتاجية مليون طن سنويًا، وبمرور السنوات تأسست شركة أخرى بمدينة الدخيلة بالإسكندرية في الثمانينيات، تعتمد على تكنولوجيا جديدة لإنتاج الصلب.
التطور المستمر في تكنولوجيا صناعة الحديد والصلب من ناحية، والاحتياج المتزايد لهذه الصناعة، والانفتاح الاقتصادي أدى لتزايد اقتحام القطاع الخاص لصناعة الصلب تحديدًا عبر تكنولوجيات متنوعة، وكثير منها يختزل إنتاجه في مراحل إنتاجية محددة، أدت تلك التطورات مع مرور السنوات لارتفاع كبير في حجم الإنتاج المحلي من كافة منتجات الحديد والصلب.
تنقسم أنواع مصانع الحديد والصلب إلى 3 أنواع، الأول هي المصانع المتكاملة التي تنتج الحديد من الخامات الاستراتيجية للحديد، ووصولًا إلى المنتج النهائي، ويصل حجم إنتاج المصانع المتكاملة سنويًا ما يقترب من 8 مليون طن حديد تسليح سنويًا.
أما النوع الثاني في المصانع نصف المتكاملة، وهي تقوم بإعادة تدوير الخردة أو صهر “الحديد الإسفنجي” سواءً من الإنتاج المحلي أو استيراده ثم الوصول إلى المنتجات النهائية، وتتخطى الطاقة الإنتاجية لتلك المصانع أكثر من مليوني طن حديد مسلح سنويًا، أما النوع الثالث فهي “مصانع الدرفلة”، وهي تبدأ من مرحلة الـ “بيليت”، وهي المرحلة الإنتاجية الرابعة والأخيرة ثم تصل إلى إنتاج الحديد والصلب في الشكل النهائي، ويبلغ عدد تلك المصانع أكثر من 22 مصنعا، بطاقة إنتاجية تصل لحوالي 5 ملايين طن سنويًا.
بحسب بيانات نشرة الإنتاج الصناعي السنوي التي أصدرها جهاز التعبئة العامة والإحصاء سابقًا، فإن صناعة الحديد والصلب ساهمت بحوالي 1.53٪ من قيمة الناتج الإجمالي المحلي عام 2018/2019 بقيمة 88 مليار جنيه، ويعمل بها بحسب بيانات تلك الفترة حوالي 30 ألف عامل من العمالة المباشرة، وحوالي 5 أضعاف هذا الرقم من العمالة غير المباشرة في الأنشطة المرتبطة بتلك الصناعة، وتعكس أرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD ذلك التطور، حيث ارتفع حجم إنتاج مصر من الصلب الخام من 2.8 مليون طن عام 2000م إلى حوالي 7.8 مليون طن عام 2018.
صناعة الحديد والصلب ساهمت إيجابًا في تعديل الميزان التجاري المصري، ففي العام 2016 كانت واردات مصر من الصلب تتخطى 9.2 مليون طن، بينما في عام 2019 انخفضت الواردات إلى أقل من 600 ألف طن، كذلك ارتفعت صادرات الصلب في ذات الفترة من 800 ألف طن عام 2016 إلى 1.2 مليون طن عام 2019.
وهو ما يعكس وفرة تحققت في الميزان التجاري بالإيجاب بعدة مليارات من الدولارات توفرها لنا الصناعة المحلية للحديد والصلب، وبالتالي فإن الاهتمام بهذه الصناعة أمر بالغ الأهمية لتشغيل هذا الكم من العمالة وتحقيق التوازن في الميزان التجاري عبر تنمية فرص الصادرات، لاسيما مع احتلال الإنتاج المصري من صناعة الحديد والصلب لمكانة كبيرة جدًا إفريقيًا بحوالي 30٪ من إجمالي إنتاج إفريقيا من الحديد، واحتلالها المكانة الأولى عربيًا على مستوى الإنتاج.
رغم كل تلك الإمكانيات الكبيرة لصناعة الحديد والصلب داخل مصر، إلا أنها تواجه العديد من التحديات التي تحتاج لتدخلات إصلاحية واضحة في هذا القطاع، خاصة وأنه في أوقات الاستقرار الاقتصادي يمكن لأي دولة أن تعتمد على الاستيراد في إشباع حاجات سوقها المحلي، خاصة لو كانت فاتورة الاستيراد أقل كلفة من الإنتاج المحلي.
وهو ما اعتمدت عليه عدد من دول الجوار العربية مثل المملكة العربية السعودية في السابق وغيرها من الدول ذات الملاءة المالية الكبيرة، لكن تقلبات حركة التجارة الدولية وتصاعد حالة عدم اليقين بفضل ما سببته جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وأزمات سلاسل الإمداد والحرب التجارية بين أمريكا والصين لابد أن تدفع الحكومات بالتفكير نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي وإصلاح الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد وضبط الميزان التجاري وتوطين الصناعة.
قامت المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة بزيادة كبيرة في استثماراتها في قطاع الحديد والصلب، ذلك التوجه عبر عنه بوضوح وزير الصناعة السعودي حينما أعلن في سبتمبر الماضي عزم بلاده على بناء 3 مصانع جديدة للحديد والصلب باستثمارات تتخطى 9 مليار دولار من أجل تلبية احتياجات السوق المحلية وتقليل الاعتماد على الاستيراد، علمًا بأن المملكة العربية السعودية تستحوذ على قرابة الـ 30٪ من صادرات منتجات الحديد والصلب المصرية.
في ذات السياق، أعلنت شركة قطر ستيل أثناء زيارة أمير دولة قطر إلى الجزائر في مطلع نوفمبر الحالي، ضخ استثمارات جديدة في مصنعها للحديد والصلب بالجزائر لرفع القدرة الإنتاجية لتصل إلى 4 ملايين طن بدلًا من 2 مليون طن، وبشكل عام فإن القدرات الإنتاجية من الحديد والصلب داخل الإمارات وعمان والسعودية والجزائر قد ارتفعت بشكل كبير خلال العقد الماضي.
صحيح، لا تزال مصر في مقدمة الإنتاج العربي والإفريقي، لكن الاتجاه الإقليمي نحو الاكتفاء الذاتي والإنتاج المحلي يتطلب منا الإسراع في مواجهة تحديات تطوير هذه الصناعة المحلية وإدارة جيدة للمخاطر التي تواجهها، بالإضافة للتخطيط الجيد لتجارتنا الخارجية.
صناعة الحديد والصلب الوطنية عانت كثيرًا من التطبيق الخاطئ لمفهوم حماية الصناعة لمدة عقود، أُهمل تطويرها لسنوات وسنوات، فلم ترتفع إنتاجيتها ولم يتم تحديث تكنولوجيا الإنتاج، فضلًا عن احتكار التصنيع لعدة سنوات على القطاع العام ما جعل هناك صعوبات حقيقية في المنافسة عند بدأ تحرير الأسواق.
لكن لدينا إمكانات جيدة للتطوير، خاصة مع تعطش السوق المحلي لعودة تراخيص البناء ونشاط قطاع التشييد العقاري من جديد، واستمرار المشروعات القومية في البنية التحتية والتي ترفع الاحتياج للحديد المسلح ومنتجات الصلب المختلفة، بالإضافة لوجود فرص خارجية تخلقها الحرب الروسية الأوكرانية رغم كل الدمار الذي تحققه، بفضل وجود فجوة قد تساهم في خلق فرص للدول النامية الباحثة عن التوسعات في البنية التحتية، تمامًا كما حدثت الطفرة في بداية القرن الجاري.
في المقال القادم نتحدث بشكل أكثر تحديدًا عن التحديات المحلية الرئيسية لهذه الصناعة وفرص العلاج الممكنة.