في أوائل الستينيات من القرن الماضي، تجاوزت تكلفة السياسات العامة للمرة الأولى بشكل كبير الموارد المالية المتاحة للدولة، وسرعان ما أدت إلى المرحلة الأولى من تقليص النفقات المالية. منذ ذلك الحين، وجدت الحكومات المصرية المتعاقبة أنه من الصعب أو المستحيل التوفيق بين الإيرادات والنفقات. تولد عن ذلك معضلتان: معدل نمو -وإن كان إيجابيا- إلا إنه غير كاف لمواجهة تحديات الدولة، والعجز عن تلبية توقعات القوى الاجتماعية التي شكلت العمود الفقري للنظام الجمهوري بعد 1952.
وبرغم هذه الحقيقة، إلا إنه كان هناك إيمان بقدرة الدولة على توجيه التغيير الاجتماعي والاقتصادي بعيد المدى، وقد تم تأكيد هذا الدور وإعادة فرضه باستمرار من خلال الخطاب القومي والوطني وطبعته الحالية شعار “تحيا مصر”. تُرجمت هذه الميول الأيديولوجية الغامضة إلى دور اقتصادي مباشر للدولة، ولقد سمح الدور القوي للدولة في الاقتصاد بتثبيت نمط جديد من علاقات القوة في المجتمع الذي امتد إلى ما هو أبعد من الأمور الاقتصادية، هذا النمط خلاصته هيمنة الدولة على المجتمع واحتكار أجهزتها لتمثيل فئاته.
أدت فجوة الموارد والنفقات إلى إعادة توزيع الأدوار التي كانت تقوم بها الدولة -وإن لم يتم الاعتراف بهذا الدور كما سنوضح لاحقا، ليقوم بها المجتمع في مناح عديدة، وإن اتخذ ذلك صفة العشوائية -وفق منطق الدولة.
ففجوة السكن استطاع الأهالي أن يملؤوها بالبناء في المدن الجديدة التي دشنتها الدولة من أواخر السبعينات، والعشوائيات بالمدن القديمة، والتوسع على الأرض الزراعية بالريف.
ومشكلة التعليم -الذي لا تتوفر للدولة الموارد للحفاظ على جودته- ملأته الدروس الخصوصية لتعويض هذا الفرق، بالإضافة إلى التعليم الخاص الذي لم يستوعب غير 10٪ من الطلاب، كما شهدنا حركة توسع في الريف للمعاهد الأزهرية التي لبت طلب قطاع محافظ اجتماعيا ودينيا على هذا النوع من التعليم.
ووجد المصريون حلا لمشكلة البطالة -التي لم تستطع الدولة أن تعالجها لا بالتعيين في جهازها البيروقراطي ولا بالقطاع الخاص الكبير الذي رعاه مبارك- في مسارين: الأول، في القطاع غير الرسمي الذي يشارك بـ50% في المائة من الناتج المحلي الإجمالي -وفق تقديرات البنك الدولي.
كان صعود الاقتصاد غير الرسمي في مصر من منتصف الثمانينيات وحتى الآن أبرز ما يميز مجتمع البلاد. غيّر الاقتصاد غير الرسمي هيكل الطبقات المتوسطة والعليا، التي كانت حتى أوائل الثمانينيات تعتبر وظيفة الدولة هي المسار النهائي للحراك الاجتماعي.
أما المسار الثاني لحل مشكلة البطالة فكان الهجرة إلى النفط من سبعينيات القرن الماضي حتى الآن، بالإضافة إلى ما نشهده الآن من هجرة إلى دول الشمال المتقدم. استطاعت هذه الهجرة أن تنمو باضطراد لتمثل المورد الأول للنقد الأجنبي بما يفوق الثلاثين مليار دولار سنويا.
وبدلا من أن تعترف الدولة والمجتمع على السواء بهذه الحقيقة ويعيدا تنظيم صفوفهما، ظلا حبيسا التصور/الإدراك المتبادل، فالدولة تتخيل نفسها قادرة على أن تلبي احتياجات مواطنيها لأنها متسامية وفوقهم جميعا، بالإضافة إلى الإيمان بالقدرة على مواجهة تحديات الواقع وتطورات المستقبل.
والمواطنون يتوقعون منها أن تلبي احتياجاتهم وزيادة، لكن الموارد متآكلة وغير كافية بشكل متصاعد، ونتيجة فجوة الدور والطلب والتوقع فإن الناس “اتصرفوا” وكل واحد “مشى حاله لغاية ما تفرج” أي يأتي الفرج للدولة ومن الدولة، والذي لن يأتي أبدًا لأن الدول لم تعد تفعل هذا، كما أن الموارد لم تعد تكفي.
المعضلة أن الدولة لا تريد أن تتحرر من هذه النظرة، والمجتمع لايزال ينتظر الفرج من الدولة، ولأنها لا تريد أن تتحرر منها لا يكون أمامها غير التحكم والسيطرة خوفا من التداعيات السياسية التي جسدتها لحظتان مهمتان: الأولى، انتفاضة الخبز 77، وثورة يناير 2011.
في هاتين اللحظتين كانت الدولة التي أنشأها الضباط الأحرار لأول مرة في مواجهة مباشرة مع القاعدة الاجتماعية التي تصورت أنها احتكرت تمثيلها، بل وتحركت في 52 لتعبر عن مصالحها من خلال الدولة.
هاتان اللحظتان مهمتان في بيان كيف تستجيب الدولة لهكذا تحد، في الأولى ناورت حين تراجعت عن القرارات الاقتصادية التي نزلت بالناس إلى الشوارع، وبالتدريج تخلت عن سياسات الانفتاح السياسي التي واكبت الاقتصاد حتى كانت ذروة الاستجابة زج جميع المعارضين في السجون –سبتمبر/أيلول 1981، لينتهي المشهد بمقتل السادات أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام.
أدرك مبارك 1981-2011 الذي عاين بنفسه مقتل السادات -لحظة الصدام بين دولة يوليو وبين مجتمعها الذي سعت لاحتكار تمثيله لعقود، وأدرك بعمق حدود أدوار الدولة الهشة وما الذي يمكن أن تقوم به لمواطنيها، فكانت الاستجابة مختلفة، وإن ظلت مناورة حبيسة الإدراك والتصور الذي دشنته دولة يوليو.
سعى مبارك لانسحاب غير منظم من الهوامش التي كانت تحتلها الدولة مع استمرار سيطرته على المركز السياسي والاقتصادي للدولة المصرية، ومن هنا شهدنا تصاعدا مضطردا من قوى وشبكات عديدة -يأتي الإسلاميون في مقدمتها- ليملؤوا الفراغ أو الهوامش التي تركتها الدولة بعمل خيري ومستوصفات ومدارس ومبادرات في قطاع الأعمال وشركات مقاولات واستصلاح أراضي… إلخ
وفي 2011 وبعد مناورة استمرت ثلاث سنوات (انتهت في 2013) مع التحالف الاجتماعي الذي كان الأساس لحراك المصريين على أسس وطنية، سعت الدولة لاسترداد المبادرة من المجتمع، ولكنها في هذه المرة أدركت أهمية عدم الاكتفاء بالسيطرة على المركز فقط، ولذا سعت للهيمنة على الهوامش التي تركها مبارك للمجتمع، فمن هذه الهوامش بالإضافة للتناقضات بين بعض فواعل المركز (بين أجهزة الدولة ذاتها، وبين رجال الأعمال وبعض أجهزة الدولة) خرجت ثورة يناير.
وهنا يصبح السؤال مشروعا: هل بعد هذه السنين الثماني نجحت صيغة السيطرة على المركز والهامش؟ أم يحسن التفكير في استجابة مختلفة عن تلك التي قامت عليها دولة يوليو 1952 وجمهوريتها الجديدة التي جوهرها الأساسي هو: انسحاب غير منظم من كثير من الأدوار التي قامت بها الدولة للمصريين، ولكن الدولة المنسحبة تقوم بتقييد فاعلية المجتمع بما يولد استجابات عشوائية غير منظمة بغرض التفلت من هذه القيود؟ والجديد أن الفراغ المتولد من انسحاب الدولة ستملؤه بالتدريج شبكات مصالح ذات امتدادات إقليمية -مركزها الخليج أساسا- ودولية، وهنا تصبح المعضلة مركبة: دولة منسحبة ومقيدة بشبكات الامتياز التي لن تستطيع مواجهتها لامتدادها الخارجي، ومجتمع انهكته السيطرة والتحكم.
لنأخذ موضوع التصالح على مخالفات المباني مثالا، وهو نموذج يصلح للتعبير عن فكرتنا. فيه سعت الدولة للتدخل بتنظيم استجابة غير منظمة من قطاعات من المجتمع لحل مشكلة السكن التي تخلت عنها الدولة لسنوات طويلة، وهو تدخل محمود لكنه كان فوقيا وخلا من مشاركة أصحاب المصلحة تماما، ولم تكن الدولة مهيئة له بأي شكل، فتدخلها بالتنظيم تعطل لمدة عامين كاملين ولم يتم حتى الآن، وتطلب منها تعديلات تشريعية عديدة، وأدت مقاومة المجتمع إلى تراجع في بعض الإجراءات القمعية التي أرادت أن تتخذها.
هذا مثال من أمثلة عديدة يمكن أن نسوقها للتدليل على تآكل قدرة الدولة -حتى لو أرادت- أن تمارس دور التحكم والسيطرة، أو تلعب دور المنظم المتلبس بالهيمنة بعد أن تخلت عن أدوارها التقليدية التي يتوقعها منها المواطن حتى الآن.
نقطة البداية في إعادة صياغة دور الدولة هو أن تكون محلا للتنافس والمساومة بين فئات عديدة في المجتمع، وألا تحتكر نخبتها وأجهزتها -التي يطلق عليها سيادية- تمثيل الفئات العديدة، ويتواكب مع ذلك إعادة توزيع تدريجي -لصالح المجتمع -وليس شبكات المحسوبية- للأدوار التي كانت تقوم بها الدولة، وقد يستغرب البعض ما أقول، ولكن الدولة في فترة مبارك كانت على استعداد لمشاركة بعض التزاماتها الاجتماعية والاقتصادية السابقة مع نخب متعددة من رجال أعمال وإسلاميين وكنيسة وقيادات تقليدية، صحيح أن هذه المشاركة عانت من عدد من المشكلات لكن العمل على التخلص منها في المستقبل مما يمكن أن يساعد الدولة على أن تلعب دور المنظم لصالح تقوية المجتمع.
عانت هذه المشاركة من:
١- سيطرة الزبائنية والمحسوبية عليها، ولم تتسم بالشفافية.
٢- عانت من التسييس حين استخدمها الإسلاميون -وخاصة الإخوان- لزيادة تمثيلهم السياسي.
٣- خلقت مجالا عاما دينيا لا مدنيا، نتيجة ما أطلقت عليه “فائض التدين” في المجتمع المصري.
٤- وتلبست بلبوس طائفي، ليس من جهة تمثيل الكنيسة لشعبها فقط، ولكن انغلاق كل مؤسسة من مؤسسات الدولة على مصالحها الذاتية فقط.
وأخيرا، فإن وجود مؤسسات دولة قوية سمح بحفاظ الدولة على بعض أدوارها بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي ونخبته ومن يشغل موقع القيادة فيه، وهو ما نفتقده الآن.