دشن كل من رئيس الجمهورية (26 إبريل/نيسان الماضي)، ورئيس الحكومة (13 يونيو/حزيران الجاري) عمليتي حوار؛ الأول جرى توصيفه بـ”السياسي” ويدور -وفق إعلان السيسي- حول “أولويات العمل الوطني للمرحلة الحالية”. الثاني أطلق عليه “مجتمعي”، ومحله وثيقة “سياسة ملكية الدولة”.
الأول مدعو إليه “كافة التيارات السياسية الحزبية والشبابية” وفق ما أعلنه الرئيس في إفطار الأسرة المصرية، أما الثاني -وبرغم توصيفه بالمجتمعي- فالمدعو إليه “الخبراء”. الأول يجري التحضير له الآن ومتوقع البدء فيه الأسبوع الأول من يوليو/تموز القادم وفق ما أعلن، أما الثاني فقد بدأ بالفعل الاثنين 17 يونيو/حزيران، وفي حين أن الأول تشارك في التحضير له بعض قوي المعارضة، فإن الثاني استأثرت بترتيباته الحكومة منفردة.
الحوار الأول قد لا يتبين فيه للمصريين تأثيره المباشر أو غير المباشر على معيشتهم وأولويات اهتماماتهم، في حين أن الثاني سيكون له تداعيات سريعة على واقعهم الحالي ومستقبلهم.
قد تبدو هذه المقارنات -عزيزي القارئ- مماحكات شكلية أو لفظية، ولكنها وكما سيتضح لكم من قراءة المقال وتحليل “منهج النظر” الذي استندت إليه وثيقة “سياسة ملكية الدولة” أن الأمر يتجاوز ذلك بكثير، ليتضح من خلاله: كيفية النظر إلى المجتمع، وطبيعة السلطة فيه، وعلاقتهما -الدولة وفئات في المجتمع- بالمحيطين الإقليمي والدولي من حولهما، وكيف يؤثر منهج النظر هذا على طبيعة السياسة، ويعيد تعريف أمننا القومي.
أولا: “مولد” الحوار:
عادة ما يستخدم المصريون لفظ “المولد” للتعبير عن الاحتفاء الوقتي الذي سرعان ما ينفض، فهو احتفال وفرح وسرور لكنه سرعان ما ينتهي بعد الليلة الختامية التي تكون قمة الفرح، ولكن ميزة الموالد في مصر أنها تكاد تكون مكونا أساسيا من مكونات الثقافة الشعبية، فما أن ينقضي واحد حتى يجري الشروع في الاستعداد لآخر في عملية مستمرة طوال العام.
على ما يبدو أن هذا النهج -أقصد نهج مولد الحوار- قد صار أحد مكونات ممارسة السياسة في بر مصر، وبغض النظر عن رأي المتشككين في جديته، فإنه يثبت أن الطريقة التي أديرت بها البلاد والعباد -على مدار السنوات القليلة الماضية- تحتاج إلى تغيير جذري، وأننا يجب أن ندرك أن السياسة هي تعبير عن التعددية التي تأخذ شكل تدافع سلمي بين أصحاب المصلحة والفئات الاجتماعية في المجتمع، ولا تأخذ بأي حال شكل عالم خالٍ من المصالح المتضاربة أو الحلول المتعددة للمشاكل الملحة، أو عالم تكون فيه السياسات العامة الرئيسية -المحلية والدولية- مسألة تتعلق بالأسرار الإمبراطورية -أسرار الدولة، وليست محلا للجدل العام أو المداولات.
الإعلان عن الوثيقة والحوار حولها لمدة ثلاثة أشهر، تخلي عن هذا النهج، لكنه في نفس الوقت يعكس نهجا تاريخيا ظلت تتعامل به السلطة مع مجتمعها وتنظر من خلاله إليه، فالدولة المصرية على مدار القرنين الأخيرين كانت تحاول “تغيير المجتمع المصري دون إشراكه فعليًا”.
حاولت أن اشارك في الحوار من خلال تطبيق “شارك” الذي دشنه مركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء ودعا للمشاركة من خلاله، ولكن وجدته -على ما يبدو- مغلقا لصالح فئات بعينها، والغريب أن الجلسة الحوارية الأولى للحكومة قد خلت من ممثلي العمال والنقابات المهنية برغم أنهم الأكثر تأثرا بسياسة ملكية الدولة.
حافظت مؤسسات الدولة طوال تاريخ مصر المعاصر -بما في ذلك عصور الإصلاح الاجتماعي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي- على روابط مع شرائح محدودة فقط من المجتمع.
ملاحظة ثانية، وهي الفصل والتمايز بين السياسي والاقتصادي، فعلى ما يبدو فإن الحوار السياسي له مسار والاقتصادي -الذي هو في جوهره سياسي واجتماعي وثقافي كما مثلته الوثيقة- له مسار آخر. الأول من اختصاص الرئاسة، والثاني هو من مهام الحكومة.
أصبح الاقتصاد متمايزًا بشكل تدريجي عن السياسة منذ فترة مبارك واستمر ليكون سمة من سمات الخبرة المصرية، ففي الأول يجري التأسيس الراسخ لسيادة القانون والحماية المتساوية لحقوق الملكية، وفي الوثيقة: “ستسترشـد الدولـة المصريـة فيمـا يتعلـق بالأصـول المملوكـة للدولة التـي سـيتم الإبقـاء عليهـا “بالمبـادئ التوجيهيـة بشـأن حوكمـة الشـركات المملوكـة للدولـة” الصـادرة عـن منظمـة التعـاون الاقتصـادي والتنميـة، والتـي تمثـل مرجعيـة دوليـة للحكومـات تساعد على ضمان عمل الشركات المملوكة للدولة بطريقة فعالة، وشفافة، وقابلة للمساءلة” (ص: 20)، وهكذا جرى الاستناد في الوثيقة إلى الخبرات والممارسات والاتفاقات الدولية التي لا تمتد إلى المجال السياسي حيث الحديث عن خصوصية مفهومنا لحقوق الإنسان، وعدم مناسبة سياقنا للديموقراطية، والثقافة السياسية المحدودة للمصريين… إلخ.
وأخشى أن استطرد في هذا المجال فيمل القارئ، لكن الوثيقة تمتلئ بمفاهيم الشفافية والحوكمة والكفاءة والمساءلة والحياد التنافسي… إلخ، التي يكاد يخلو منها المجال السياسي.
وهنا مفارقة جديرة بالرصد وهي: أن صندوق مصر السيادي -الذي خصص له أحد أقسام الوثيقة الثمانية لمحوريته في إدارتها وتنفيذها- فإن الرقابة على تعاقداته وأنشطته تبدو على أقل تقدير غير مكتملة أو مضطربة، حين حصنت تعاقداته من الطعن عليها أمام القضاء إلا من أطراف العقد المباشرين فقط، كما لم ينص القانون على رقابة برلمانية على أعماله، وأكتفي بمسئوليته أمام أحد مكونات السلطة التنفيذية -أي رئاسة الجمهورية فقط.
ثانيا: أي قطاع خاص تتحدث عنه الوثيقة؟
وهو هنا حديث في السياسة قبل الاقتصاد.
واضح أن الوثيقة تخاطب الشركات الكبرى والحديثة، المحلية والدولية، ورأس المال الأجنبي خاصة العربي منه، لأن المطلوب هو بيع أصول بـ40 مليار دولار على مدار السنوات القليلة القادمة لدعم الموازنة العامة وليس تدويرها في استثمارات جديدة، وتحويل الودائع العربية لدى البنك المركزي البالغة 17 مليار دولار إلى استثمارات – كما أعلن السيد الرئيس.
أما وإنه حديث في السياسة لاعتبارات ثلاثة:
الأول: نظرة الدولة للمجتمع القائمة على التهميش والإقصاء هي هي نظرتها للقطاع الخاص، فطوال تاريخ مصر المعاصر، لم يكن أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة ومجموعات رواد الأعمال المحليين متمكنين سياسيًا أو اجتماعيًا بطريقة كان من الممكن أن ترفعهم لملء الدرجات الوسطى من اقتصاد القطاع الخاص- على حد قول عمرو عدلي -أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة- في كتابه بالغ الأهمية “الرأسمالية المشطورة”.
مشكلة مصر لم تكن أبدًا عدم القدرة على إنتاج نخب سياسية أو اقتصادية أو ثقافية في القمة يمكنها الاندماج والمنافسة عالميًا. بدلا من ذلك، كانت المشكلة تتعلق بكيفية ارتباط “القمة” بـ”القاع”، أي العلاقة بين الدولة والمجتمع التي بدت وكأنها تطورت بشكل مستقل، وفي بعض الأحيان، على حساب بعضها البعض.
اقرأ أيضًا: وثيقة ملكية الدولة.. هل عاد زمن الخصخصة من جديد؟
لن أناقش تداعيات ذلك على إخفاق وفشل بناء النظام الرأسمالي في مصر فقد استفاض فيه عدلي بالتفصيل في كتابه، ولكنها نظرة تقوم -في العقود الأخيرة- على بناء دولة فوق الفئات الاجتماعية ومستقلة ومتسامية عليها، وليست محتلة إلا بالفئات القوية ذات النفوذ والامتداد الإقليمي والدولي، وهو ما ينقلنا إلى النقطة التالية.
الثاني: من تداعيات تطبيق سياسات ملكية الدولة مزيد من اندماج الشريحة العليا من البيروقراطية المصرية -وخاصة من المؤسسات الراسخة في الحكم- في شبكات المصالح الدولية والإقليمية -خاصة في الخليج.
وهنا ثلاث نقاط:
1- أن شبكات الخليج باتت أكثر انفتاحا على الكيان الصهيوني بعد اتفاقات التطبيع، وأصبحت إسرائيل مكون قائد لنظام الأمن الإقليمي في المنطقة، وأكثر اندماجا في ترتيبات المال والاقتصاد فيها، فهل سيكون ذلك له تأثير على تعريف الأمن القومي منظورا إليه من الصالح المصري العام؟
2- بعض دول الخليج باتت تلعب في المجال الحيوي المصري باستقلال وفي تناقض مع التصور المصري للأمن القومي، وفي أحيان بما يهدد هذا التصور -كما يظهر في أثيوبيا وليبيا والسودان.
وهنا استطراد واجب وهو: أن المعيار الأول من معايير ستة لتحديد آلية تخارج/بقاء الدولة من القطاعات والأنشطة الاقتصادية هو: “تصنيـف السـلعة أو الخدمـة، ومـا إذا كانـت ذات علاقـة بالأمـن القومـي (بمـا فــي ذلـك السـلع المرتبطـة بالاحتياجـات اليومية للمواطن)”، وهو محدد هام ولكنه يتصف -من خلال الممارسة والخطاب على مدار السنوات الثماني الماضية- بالغموض والاتساع في نفس الوقت.
3- ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن دول الخليج -بحكم مصالحها المالية في مصر وخوفا من نظرية الدومينو، قد قادت الثورة المضادة ضد الانتفاضات العربية جميعا، بعبارة أخرى، فإن شبكات المصالح القديمة والتي يجري تعزيزها بسياسة ملكية الدولة وقفت وستقف ضد أي تغيير يستهدف تلبية تطلعات المصريين في العدالة والكرامة والحرية.
ولن أتحدث عن شعور قطاع من المصريين بالمهانة من عمليات البيع، فعلى ما يبدو فإن حديث “الكرامة الوطنية” لم يعد له محل في حقبة النيوليبرالية.
الثالث: كانت أصول الدولة المصرية ولاتزال تستخدم لتوزيع الامتيازات على ائتلاف الحكم أيا كانت مكوناته، وهنا يصبح السؤال: هل تخلي الدولة عن مزيد من أصولها بالبيع أو الشراكة من شأنه أن يجعل الموارد القابلة للتوزيع على مكونات ائتلاف الحكم شحيحة في المستقبل، أم سيكون هناك قدرة على توليد موارد جديدة تضمن استمرار الولاء لمن يحتل قمة النظام السياسي؟.
ثالثا: عقد اجتماعي جديد أم قديم مستمر؟
تبدأ الوثيقة في صفحتها الأولي بحديث عن مفهوم “العقد الاجتماعي” باعتبار أنها تعيد تحديد دور الدولة في الاقتصاد بما يؤثر على علاقتها بالمواطنين.
تناولت بالتفصيل في أول مقال لي على هذا الموقع تطور العقود الاجتماعية في المراحل التاريخية المختلفة لمصر الحديثة، ولكني أكتفي هنا بمناقشة طبيعة هذا العقد فيما بعد يناير 2011.
يلاحظ أن الفترة القصيرة 2011- 2013 التي شهدت محاولة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي ليكون أكثر شمولا وتمثيلا لفئات اجتماعية أوسع، تم تجاوزها سريعًا، بإعادة إنتاج العقد “الاجتماعي غير الاجتماعي” -وفق تعبير أميرة الحداد -أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، والذي استند إلى فئات ثلاث: المكون الأساسي لأجهزة الدولة، ونخبة مختارة من رجال أعمال سابقين وجدد، والمانحون الخليجيون بشبكات امتيازاتهم الدولية.
ارتكزت المقايضة التاريخية في 2013 على الحماية بالمعني الهوبزي -أي الأمن/الحفاظ على الدولة مقابل التنازل عن الحرية التي نادت بها يناير- بما يعنيه من استعادة هيمنة الدولة على مجمل المجال العام، تمهيدًا لمصادرته بعد ذلك.
لكن الأهم من وجهة نظري، أنه تمت استعادة سلطة الدولة متحررة من: 1- أي اعتبارات سياسية نتيجة تصحير السياسة والمجال العام، و2- أية اعتبارات اجتماعية تراعي الفئات الأكثر ضعفًا التي تصاعدت معاناتها مع تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي في مرحلته الأولي (2016-2019)، والذي تعد الوثيقة امتدادا له، ووصولا به إلى أعلى مراحله.
ويلاحظ في هذا الصدد بدء وتصاعد مقاومة المصريين لهذا العقد الاجتماعي في شكل سلبي -تعودوا عليه تاريخيًا- كما في عدم الإقبال على الاستحقاقات الانتخابية، أو أشكال ظاهرة كما برزت ابتداءً من المظاهرات المحدودة سبتمبر 2019، والتي تكررت في العام التالي، بما جعل الدولة تناور في الاستجابة دون تغيير حقيقي في جوهر وطبيعة العقد الاجتماعي غير الاجتماعي.
وهنا نقطة جديرة بالإشارة وهي: أن استطلاعات الرأي المختلفة تدل على تراجع خطاب الاستقرار والحرب على الإرهاب الذي أدى في مراحله الأولى لتجانس المجتمع وإخضاعه لسلطة الدولة، تراجع هذا الخطاب لصالح أولوية الأوضاع الاقتصادية التي تضغط على المواطن.
الخلاصة: أصبح موقف العقد الاجتماعي “غير الاجتماعي” في مصر الآن راسخًا بعمق مع احتمالات محدودة للتحول عنه، وتم بناء شبكات الامتياز السابقة، وإن كان لصالح فئات جديدة أقل عددًا ومغلقة على ذاتها، خاصة أن مشاريع البنية الأساسية العملاقة خلقت وظائف مؤقتة وليس عمالة منتجة تستند إلى النمو الاقتصادي القائم على التحول الهيكلي، وسرعان ما تأثرت هذه العمالة المؤقتة وغير الرسمية بأقل التطورات -كما جرى في ظل فترة كورونا، وكشفت عنه تداعيات الحرب الأوكرانية التي أعلنت -بحق- فشل ما أطلق عليه مشروع الإصلاح الاقتصادي الذي طبق ولايزال هناك إصرار على استكماله بغض النظر عن موقف المصريين منه.
إن تآكل الأيديولوجيا بتراجع خطاب محاربة الإرهاب وعدم الاستقرار، مع غياب بناء قواعد واضحة للمجال السياسي، وتحرر من الطبقات الاجتماعية، مع قلة في الموارد الخارجية المتاحة لتوزيعها… إلخ، كل هذا من شأنه أن يزيد القمع، ويخلق دولة بلا كوابح اجتماعية أو سياسية، يجري فيها منح وتخصيص الموارد لفئات محدودة، بما يعنيه من إفادة طرف واحد أو فئات محدودة والذي لا يمكن أن يحدث دون مصادرة موارد طرف آخر في نفس الوقت.