شهد السودان مؤخرًا، مواجهات قبلية عنيفة، خلفت مئات القتلى والجرحى وآلاف النازحين، في منطقتي النيل الأزرق وكسلا، اللتين أصبحتا مسرحًا للعنف، وصورة مصغرة لحرب أهلية تهدد النسيج الاجتماعي. خاصة وأن هذه الأحداث ليست الأولى. فقد شهد يوليو/تموز من العام الماضي (2021) اضطرابات ذات طابع قبلي. وشملت حينها منطقتي (رورو) بمقاطعة التضامن، (وطرفة) بمقاطعة الروصيرص. وكانت نتيجة لاحتكاكات بين الرعاة والمزراعين، على إثر الأحداث الأخيرة وجهت الحركة الشعبية -في بيان- الاتهام إلى جهات- لم تسمها- ترتبط بالنظام البائد، تحاول ضرب النسيج الاجتماعي بالنيل الأزرق.
عادت أحداث العنف في الأسبوع الثاني من يوليو/تموز الجاري، وشملت أعمال حرق ونهب واشتباكات مسلحة بين أفراد من قبائل الهوسا والبرتي وبعض المكونات القبلية الأخرى. وأفادت وكالة أنباء السودان “سونا” أن الحكومة شكلت لجنة لتقصي الحقائق حول الجرائم التي ارتكبت.
كما شهدت عدة مناطق احتجاجات لقبيلة الهوسا، حيث أقام الآلاف منهم المتاريس وأغلقوا الطرقات وهاجموا منشآت حكومية فى ولاية النيل الأزرق وكسلا. وفي منطقة الشواك بولاية القضارف، أغلق قرابة 500 فرد طريق رابط بين الخرطوم وكسلا. ثم انتقلت تحركات الهوسا إلى العاصمة، حيث تظاهر المئات في الخرطوم (19 يوليو/تموز )، بعد أن دعا أفراد من القبيلة لتسيير موكب للتظاهر تحت مسمى “مليونية نصرة الهوسا بإقليم النيل”. وأعلنت اللجنة العليا لقبائل الهوسا خلال مؤتمر صحفي وصول الضحايا لـ 400 قتيل ومفقود.
للاطلاع على الملف كاملًا.. اضغط هنا
تأتي أهمية قراءة الأحداث الأخيرة في ظل توقعات أن تتسع الأزمة من جانب، وأن تنتقل إلى بعض أقاليم السودان من جانب آخر، وخاصة الأطراف التي تتسم بالتنوع العرقي والثقافي، وتعاني في ذات الوقت من التهميش ونقص التنمية.
هذا الوضع يخلق حالة من الصراع والتنافس على موارد العيش ومن بينها، حيازة وملكية الأراضي والسيادة عليها، وما يرتبط بها من تحقيق نفوذ اجتماعي وسياسي. وهو ما حاول الباحث عصام شعبان تفسيره والوقوف على أسبابه واستنتاج مآلاته، في ورقة سياسات جديدة، نشرها مركز التنمية والدعم والإعلام (دام) بعنوان “مرتكزات وأسباب العنف القبلي.. حالة النيل الأزرق”.
ما هي قبائل الهوسا؟
واحدة من أكبر قبائل أفريقيا -تذهب بعض التقديرات أن عدد أفرادها في السودان ثلاثة ملايين نسمة- وهم مسلمون يعتمدون على الزراعة فى كسلا وسنار والنيل الأزرق ودارفور والقضارف، التي تنتشر فيها وعلى ضفاف نهر عطبرة والرهد والقالبات والدمازين والرصيرص وامتداد سنار. وقد انتشرت في أعالي النيل في ملكال وبحر الغزال. ويعمل أهلها بالتجارة والزراعة والصيد.
أزمة إقليم النيل الأزرق.. التهميش والحرب
يتسم إقليم النيل الأزرق تقليديا بحالة من التعايش السلمي بين مكوناته السكانية، وقد ظلت حالات العنف القبلي فيه محدودة.
واقتصاديًا، يعاني الإقليم التهميش ونقص التنمية رغم ثرواته الطبيعية، وما تمتاز به الولاية من “الموارد المتعددة سواء كانت زراعية أوغابية أو حيوانية أومعدنية، ولكن رغم ذلك، تعاني الولاية من تدني مستوى التنمية، وتصنف ضمن الولايات الأقل نموا مقارنة بالولايات الأخرى، كما عانت عدم الاستقرار الأمني، نتيجة للحرب الأهلية المسلحة، التي ساهمت في إعاقة العملية التنموية، فهناك ضعف واضح في مجال الاستثمار والتصنيع مما أضعف من فرصة التنمية”.
وهذا التهميش سهل على الحركات المسلحة أن تمتلك مساحة نفوذ في الإقليم الذي عانى من آثار تحوله إلى مسرح للحرب الأهلية بين الجيش والحركات المسلحة، وعانى آثارًا اقتصادية نتاج عدم الاستقرار السياسي في سنوات الحرب الأهلية منذ 1985 و”مرورا بمشاركة “قوات الدعم السريع” التي يتزعمها محمد حمدان دقلو الرجل الثاني في النظام السوداني، في الهجمات البرية، منذ تكوينها عام 2013 لمحاربة الجماعات المتمردة، إذ إن هذه القوات أفضل تجهيزا من الجماعات شبه العسكرية والميليشيات الأخرى”.
كما شهدت بعض مناطق الإقليم حراكا ثوريا ضد نظام البشير، نظرا لتردي الأوضاع الاقتصادية بشكل عام، غير معاناة تختص بها مناطق الأطراف، وبرزت مدينة الدمازين عاصمة الأقاليم كأحد حواضر الثورة، بل بدأت احتجاجات الثورة من المدينة يوم 13 ديسمبر 2018، وكانت الدمازين أيضا إحدى المدن التي شهدت حراكا ثوريا في انتفاضة سبتمبر 2013.
للاطلاع على الملف كاملًا.. اضغط هنا
النزاع على الأرض وتحقيق نفوذ سياسي
يقف خلف الصراع بين الهوسا والبرتي، رغبة الهوسا في حيازة نفوذ إداري وسيادة على الأرض. ويؤشر على ذلك نزوع الهوسا لتمثيلهم في سلم الإدارة الأهلية بالولاية. وهو مطلب يتبناه مثقفون وسياسيون من أبناء القبيلة. خاصة وأنها تمثل وزنًا تصويتيًا ضخمًا. بينما في الوقت ذاته تحوز الحركة الشعبية -جناح مالك عقار- نفوذًا في الإقليم. وخريطة النفوذ للقبيلة والحركة تحمل إمكانات التحالف، وترى قوى سياسية أن هذا أمر واقع فعليًا.
حسب بيان للحركة الشعبية -مالك عقار- فإن سبب الأزمة يتمثل في أن قبيلة الهوسا عقدت مؤتمرًا قبليًا تم فيه اختيار قيادة أهلية لإدارة شؤون القبيلة؛ وأن هناك قرارا صادرا من وزارة الحكم الاتحادي يقضي بإيقاف تصديق الكيانات الأهلية لحين انعقاد مؤتمر نظام الحكم .
وأمام تحركات الهوسا لكي تعلن تمثيلها في الإدارة الأهلية، شهدت الولاية تحركات مماثلة منها مؤتمر حركة أحفاد السلطنة الزرقاء، والتي طالبت خلال اجتماعات مع الإدارة الأهلية بالنيل الأزرق بمطالب تخص السيادة على الأراضي الزراعية.
صراع سياسى يفسر العنف
في ظل مواجهات وصراعات متشابكة، قبلية وسياسية، ساد في تفسير الأحداث اتجاهان أساسيان؛ الأول يمثله بقايا نظام البشير، الإخوان المسلمين والقوى الاجتماعية التقليدية المتحالفة مع مجلس السيادة بقيادة البرهان. وهي تفسر الأزمة ضمن خطاب المؤامرة وتفكيك الدولة، وسعى بعض القوى لخلق انقسامات مدفوعة من قوى خارجية.
أما الاتجاه الثاني؛ فيمثله طيف من قوى الثورة والمعارضة، ويتهم السلطة بالسعي لإحداث الفوضى والإضرار بالنسيج الاجتماعي ونشر خطاب الكراهية. ويستند هذا الاتجاه إلى تقرب السلطة من زعماء القبائل، وإعادة الاعتبار إلى الإدارة الأهلية التي اعتمد عليها نظام البشير في إدارة الإقليم. ويعزز هذا الاتجاه خطابات لأطراف من السلطة إلى زعماء القبائل وعقد لقاءات معهم، وحشدهم في تحركات سبقت انقلاب البرهان على الحكومة المدنية، لكي تعيد بناء سلطتها من خلال القبائل والإدارات الأهلية، ومنها الهوسا.
يلاحظ أن كلا الاتجاهين يهمش إلى حد بعيد بعض الأسباب الموضوعية من الصراع على الموارد، وعنف المراحل الانتقالية بعد الثورات، ويعلي من شأن التنافس السياسي وآثاره على حالة العنف، بالإضافة إلى غياب التنمية وارتفاع حدة الفقر وسوء الأحوال المعيشية، وما تخلقه من قابلية للاحتجاج المنظم أو العنف الذى يتخذ شكلًا قبليًا أو دينيًا أو إثنيا. كما تبرز أيضًا إشكالية بناء الدولة، التي ما زالت مشروعًا متعثرًا منذ الاستقلال وحتى اليوم. حيث عجزت الدولة السودانية عن إدارة التنوع العرقي والثقافي والديني.
كيف نفهم حالة العنف في السودان؟
تأتي وقائع العنف في إقليم النيل الأزرق وكسلا في إطار عدة عوامل لا يمكن فصل تأثيراتها المتشابكة. فهي من جهة تتأثر بحالة الصراع السياسي بين المعارضة والسلطة وتحالفاتها مركزيًا، والتي تمتد بأشكال متعددة في الإقليم. ومن جهة أخرى، تأتي في إطار العنف الذي يلي الثورات، ويتزامن مع مراحل الانتقال الديمقراطي، وسعى مكونات المجتمع وفئاته إلى تحقيق مطالبها سواء الاقتصادية أو حيازة مكانة اجتماعية وسياسية بعد تفكك بناء السلطة القديم. وبالتالي، تحاول حجز مكان لها في هياكل السلطة السياسة الجديدة.
هذا ما يفسر محاولة تغيير علاقات النفوذ الاجتماعي والقبلي في الإقليم لأنها ترتبط في النهاية بتحقيق نفوذ سياسي ومكاسب اقتصادية خاصة لزعماء القبائل وقادة الحركات والأحزاب السياسة، وفي مقدمتها الحركات المسلحة التي تسيطر على الأرض بقوة السلاح.
جغرافيًا، ترتكز معظم الصراعات ذات الطابع القبلي في مناطق الأطراف. وذلك لعدة أسباب منها ما يتعلق بالظروف الاقتصادية والاجتماعية، وضعف أجهزة الدولة والأمن وصعوبة تحركها في تلك المناطق، وتصاعد نفوذ الزعامات المحلية والقبلية في تلك المناطق أيضًا.
واقتصاديًا، ترتبط الصراعات بإشكالية نقص التنمية، وما ينتج في ظل الفقر والبطالة من صراع على الموارد.
وسياسيًا، تزيد الأزمة في الإقليم وغيره من مناطق اصطلح على توصيفها بالهامش، نتاج انسداد الأفق، في وجود مخرج وحلول لأزمات الأقاليم، في ظل تعطل مرحلة الانتقال الديمقراطي، وإصرار الجيش وحلفائه على الانفراد بالحكم قسرًا، ما يخلق مشهدًا من الصراعات المتعددة، يمكن توظيفها سياسيًا.
للاطلاع على الملف كاملًا.. اضغط هنا
كيف يمكن مواجهة العنف في الأقاليم؟
في كل الأحوال تحتاج الأقاليم وخاصة النيل الأزرق إلى إزالة أسباب ومرتكزات أساسية تؤدي إلى العنف. ومنها مواجهة نقص التنمية وهشاشة أوضاع سكان الأقاليم بالتحول إلى برامج التصنيع. خاصة مع غنى الإقليم بالموراد المعدنية وإمكانات قيام صناعات ترتبط بالنشاط الزراعي والحيواني.
هناك أيضًا ضرورة إلى إيجاد تشريعات تساهم في تنظيم العلاقة بين سكان الإقليم. خاصة فيما يتعلق بملكية الأراضي والسيادة عليها، مع إصلاح البنى التحتية وتوفير الخدمات الضرورية من خدمات التعليم والصحة، ودعم خدمات الرعاية الاجتماعية للفئات التي تعاني هشاشة اجتماعية وقد تتحول لضحايا أو أدوات للعنف. ذلك مع الانتباه إلى ضرورة التأهيل النفسي والاجتماعي لضحايا الحروب والنزاعات التي اندلعت في الإقليم. خاصة الفئات التي شاركت في الحرب لتكون أكثر قبولًا لمسألة التنوع الثقافي والقبلى والعرقي.
وكل هذه التوصيات والخطوات رهينة لعودة المسار الديمقراطي وإنهاء حالة سيطرة العسكر على الحكم في السودان، ومشاركة القوى السياسية والاجتماعية في السلطة. ودون ذلك سيكون أمام السودان منزلقات خطيرة منها العنف القبلي الذي يمكن أن يستثمر من أطراف داخلية وخارجية تهدد بوصول السودان إلى نموذج الدولة الفاشلة والمجتمع المتحارب.
للاطلاع على الملف كاملًا.. اضغط هنا