يروي أيمن الحكيم، الصحفي ونائب رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون تلك الواقعة:
ذات يوم هاتفته الفنانة نادية لطفي، وسألته إن كان يعرف “واحد بتاع اقتصاد اسمه صلاح جودة”، سألها عن السبب، فانفجرت ضاحكة: الراجل ده مش ممكن.. كل ما بشوفه في برنامج لازم أقعد اتفرج عليه، ده لو ممثل حيبقى كوميديان مالوش حل.. عنده حركات ومصطلحات وطريقة أداء بتموتني من الضحك.. بس اللي نفسي أعرفه، هو إزاي بيحفظ الأرقام دي كلها وبيقولها بالسهولة دي وكأنه كمبيوتر.. ما تجيبلي تليفونه”، عندما عرفت الفنانة الكبيرة، أن صلاح جودة هو صديق للحكيم، طلبت منه أن تراه، وبالفعل أقامت لهما وليمة عظيمة في بيتها الريفي بأبي رواش، ونشأت بينهما صداقة استمرت إلى وفاته.
اقرأ أيضا.. شجاعة الإعلاميين الكاذبة في أزمة ارتفاع الأسعار بمصر
تصلح تلك الواقعة كمدخل، لفهم ظاهرة صلاح جودة، فمع استفحال الأزمة الاقتصادية. يستعيد الناس على مواقع السوشيال ميديا الآن، وربما منذ، فيديوهات الخبير الاقتصادي صلاح جودة، الذي توفاه الله في عام 2015، ويجدون فيه إجابة على أغلب أسئلتهم التي تدور حول ما يحدث الآن، كل شيء تقريبا: تعويم الجنيه، الصناديق الخاصة والسيادية، قناة السويس، العاصمة الإدارية، إهدار الموارد، وتعظيمها، بل يتحدث أيضا عن مسائل حياتية مباشرة كالزواج وتنظيم الأسرة، يفعلها بلغة شعبية سهلة، تجعل كل شيء في ملف الاقتصاد المعقد بمصطلحاته الكبيرة يبدو سهلا ومفهوما، وكذلك ربط شرحه للأزمة بإيجاد حلول.
يحبه الناس حتى أن هناك نظريات حول اغتياله بسبب آرائه الاقتصادية، وهي في ظني تنتمي أكثر لنظريات المؤامرة، لكنها تعبر عن تأثيره الكبير.
أغلب الناس، كانوا يتجاهلون نشرات الاقتصاد، طالما الأيام يمكن تسييرها، يشعرون أن معاني كالتضخم، الدولرة، رفع أسعار الفائدة، وغيرها، لا تهمهم بشكل كبير. لكن الآن وبفضل السياسات الاقتصادية للحكومة المصرية، صاروا يعرفون عن يقين الحقيقة التي تجاهلها أغلبنا من قبل: عنوان حياتنا دائما وأبدا، وعصبها المحرك هو الاقتصاد. لعبة الناس الكبار، التي تدمر بشكل لم يعد من الممكن إنكاره حيوات ومدخرات الناس، اللذين صاروا يجدون صعوبة في تسيير أيامهم. الآن لم يعد قرار واحد أو مصطلح واحد بعيدا عن حياتهم بشكل مباشر.
مصدر ذعر الناس الأول هو عدم الفهم، المبني على يقين أن تلك السياسات الاقتصادية الحالية، لا يمكن أن تكون صحيحة، لو كانت كذلك، لما تأذت حيواتهم بذلك الشكل القاسي.
مثلا، في هذا الرابط يشرح بسلاسة موهوب معنى التضخم، للمواطن العادي، بعيدا عن أي مصطلحات فنية.
لذا من المفهوم أن تستعيد فيديوهات صلاح جودة، الذي كان نشيطا جدا في الظهور في أغلب الفضائيات والبرامج، وهو يخبرهم بلغة مكن فهمها، تلك السهولة هي تحديدا ما أقلقني، خاصة السهولة التي يعرض بها حلول لأزمات مصر الاقتصادية، وسهولة تحول مصر إلى دولة غنية بضغطة زر، خلال 36 شهرا، وهي فكرة تتحدى المعقولية.
يملك الرجل فعلا كما أشارت الفنانة نادية لطفي قدرات مخاطبة وشرح وأداء عالية، لكن هذا تحديدا ما يجعلني أشعر بالقلق، فالأسلوب الساحر أيضا قد يخفي عدم دقة في المعلومات.
لكن إن كنت من ناحية أشعر بهذا القلق لكوني لست خبيرا في الاقتصاد، بل استشعر كما يستشعر غيري أثر السياسات الاقتصادية السيئة المتبعة على حياتي، فقد استشعرت اللجان الإلكترونية خطر انتشار فيديوهات في تلك الآونة.
يمكن فهم ذلك من انتشار بوستات، مصدرها في الأساس باحثين اقتصاديين كمحمد نجم، الذي توفاه الله، وصحفي الاقتصاد لؤي الخطيب، اللذين لعبا دورا في الترويج لتلك السياسات الخاطئة، واللذين لا أثق فيما يقولونه، ولم أحسبه يوما إلا ضمن جوقة تبرر لصالح النظام، لا للصالح العام، حرصهم على تشويه صورته، يزيد من ارتباكي بشأنه، كهذا المنشور المنسوخ عشرات، بل مئات المرات، نسخ يليق بجهات ترغب في التضليل، وقد كتبه محمد نجم واحتفى به لؤي الخطيب.
وهو منشور يؤكد باختصار أن مصر دولة فقيرة الموارد بلا حلول، ويروج ما يروجه الإعلام أن الزيادة السكانية هي وحدها المشكلة، لا مدخل الحل، أي من جديد نحن كشعب هو المسؤول عن فقره، لا الإدارة الجيدة، ولا يجيب المنشور كعادة إعلام السامسونج على الأسئلة الآتية:
هل أدارت الدولة المصرية مواردها بكفاءة؟ هل أطلعتنا على المعلومات والبيانات الحقيقية، أم ساهمت مثل “الشعبويين” في تضليلنا عبر إعلامها ودعاياتها. والأسئلة ليست من عندي، بل من ردود أفعال من علقوا على المنشور نفسه، واللذين رأوا أنه حتى لو كان صلاح جودة شعبويا، فعلى الأقل انحيازه كان في صالح الناس، لا في صالح أفراد ونظم.
في سؤال وجهته مباشرة، لوائل جمال، الخبير في الاقتصاد السياسي والباحث والكاتب الصحفي، لم ينف عن صلاح جودة صفة عدم الدقة، والمبالغة في تقدير الطفرة القائمة على مشروعات المبنية على ثروات مصر الطبيعية التي تنتظر من يستغلها، لكنه أشار إلى أهمية جودة في استخدامه للغة بسيطة وشعبية كما ينبغي للاقتصادي أن يكون عندما يشرح للناس، وتظل ظاهرة استقباله بحفاوة لدى العموم كاشفة عن احتياج الناس للفهم، عن أن يخاطبها أحد في موضوعات الاقتصاد بلغة غير لغة ” أصحاب الكار”، فالتفسيرات الاقتصادية ذات الطابع الفني معزولة عن واقع الناس، وتجعل من مصطلحات كالسوق العالمية للفائدة أقرب لإعصار أو ظاهرة طبيعية بينما يعيشها المواطن تلك الأزمة كظاهرة اجتماعية، لذا فالاقتصاد الشعبي المقدم بدون تعالي وبلغة قريبة من الناس ومن شخص مظهره ولغته تشبههم يظل شيئا مهما.
ما أراه أن ليس كل ما قاله صلاح جودة، كان على صواب، وإن كان في حاجة إلى تدقيق لا لنفي مطلق، على الأقل ساعد الكثير من الناس على الفهم، أن يكون كثيرا من مصطلحات الاقتصاد تحت متناول وعيهم، الخطوة الأولى للإيمان والثقة بقدرتهم في السيطرة على حياتهم ومقدراتها، وأن الاقتصاد ليس لعبة حواة معقدة، بل لعبة فاسدين غير مؤتمنين على تلك المقدرات، هذا ما يقلق جهاز السامسونج في الحقيقة، لا دقة ما كان يقوله صلاح جودة من عدمه.
فما لا يمكن الاختلاف بشأنه، وما يذكر به شبح صلاح جودة، هو:
غياب الرقابة، استشراء الفساد، تحميل المواطن ذنب حياته، عدم ترتيب أولويات التنمية والموارد بشكل صحيح، عجز الاستبداد عن إدارة البلاد بشكل كفؤ. هذا حقا ما يخيف إعلام السامسونج.