أبرزت التغيرات الحادة في المناخ على مدار الأعوام السابقة، نقطة ضعف كبيرة في بنية الدولة الإيرانية. وهي معالجة أزمة نقص المياه في البلاد، والتي تجاهلت الأنظمة المتعاقبة الالتفات لها طيلة عقود. مما تسبب في حدوث اضطرابات اجتماعية قد تتفاقم مع استمرار المشكلة. برزت خطورتها في اندلاع التظاهرات احتجاجًا على نقص المياه في إيران خلال صيف عام 2021.
أصبحت الحكومة الإيرانية عاجزة أكثر عن مواجهة هذا التحدي، في الوقت الذي تتعرض فيه لضغوط محلية متنامية. فسياساتها -التي تفتقر إلى بعد النظر لجهة الأمن المائي- قد خلّفت تداعيات مضرة فاقمها النمو السكاني والاحتباس الحراري. هكذا، تتزايد الضغوط على كميات المياه المتاحة في عدة مدن إيرانية.
تعود جذور الأزمة إلى أن حكومات إيران -سواء في فترة حكم الشاه أو بعد الثورة- لم تُعِر هذا التهديد الوجودي الانتباه اللازم. بل على العكس، انتهجت سياسة ذات نتائج عكسية فيما يتعلق بالاستراتيجية المائية. وتساهم عوامل أخرى في مفاقمة سوء إدارة الحكومة لموارد البلاد المائية.
الآن، الاحتباس الحراري والنمو السكاني يضيفان عبئًا على توفير المياه ويسببان اضطرابات اجتماعية. حيث شهدت إيران عدة تظاهرات عمّت في مختلف مدنها احتجاجًا على ندرة المياه، وهو تطور سيزداد حدة وسيشكل تحديًا كبيرًا أمام الحكومة والمجتمع في إيران.
اقرأ أيضا: نزاعات المياه.. “تاريخ دامي” وتعاون مضطرب وضحايا بالآلاف
جذور أزمة المياه في إيران
لم تولِ الحكومات المتعاقبة التي تولت السلطة في إيران -بغض النظر عن توجهاتها- اهتمامًا كافيًا للأمن المائي. فقبيل ثورة الخميني في نهاية السبعينات من القرن الماضي. ركزت الحكومة الإيرانية خلال حقبة الشاه على زراعات تستهلك كميات هائلة من المياه. وكانت النتيجة تدمير نظام قنوات المياه الذي كان فعالا لآلاف السنين، فضلًا عن ممارسة عبء كبير على المراكز الحضرية بسبب النزوح.
في الواقع، لم يتحسن الوضع كثيرًا بعد الثورة. فالحكومة التي استلمت السلطة بعد عام 1979. منحت الأولوية لاستخراج المياه بأقصى طاقة ممكنة، بدلًا من الحدّ من استهلاك المياه. ورغم أن مشكلة المياه ترتبط جزئيًا بالعقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، إلا أنها ليست السبب الرئيسي لازمة المياه كما تروّج الحكومة الإيرانية لشعبها. فقد أدى صراع نظام آيات الله مع المجتمع الدولي إلى الإحجام عن التعويل على دول أخرى لتأمين المحاصيل الأساسية. لتحاول -بدلًا من ذلك- تحقيق اكتفاء ذاتيًا.
أيضا، تفسح القوانين التي مررتها الحكومة المجال أمام الإفراط في استخراج المياه وإساءة استعمالها. فاستعمال حقوق المياه الجوفية يخضع لقانون ملكية الأراضي، ما يتيح للأفراد استخراج المياه من الآبار بقدر ما يشاؤون دون أي إشراف حكومي مناسب. ففي 2019، نقلت صحيفة Financial Tribune عن المدير التنفيذي لشركة إدارة الموارد المائية الإيرانية. محمد حاج رسولي، قوله إنه يوجد نحو 320 ألف بئر غير شرعي في البلاد. كما يجري إغلاق ما بين 13 إلى 14 ألف بئر غير شرعي سنويًا.
تُعتبر الرسوم المفروضة على المياه سببًا آخر لسوء استخدامها. فقد ذكر علي أصغر قانع، نائب رئيس الشركة الوطنية لهندسة المياه ومياه الصرف الصحي. وهي الجهة التي تعنى بالتخطيط والتطوير المائي في البلاد. أن كل متر مكعب من المياه يكلّف الحكومة 10 آلاف ريال إيراني في المناطق الحضرية في حين أنها تتقاضى من المستهلكين 4 آلاف ريال إيراني فقط.
تأثر المياه بالتغير المناخي ونمو السكان
يلفت الدكتور مصعب الألوسي، وهو باحث يركّز على العراق وإيران والجماعات المسلحة الشيعية. إلى تأثير التغير المناخي والنمو السكاني بشكل كبير على إمدادات المياه والطلب عليها في إيران. حيث تشير الدراسات حول هطول الأمطار في إيران على أنها تراجعت خلال العقود الخمسة الماضية.
يقول: يكتسب هذا الأمر أهمية كبيرة. لأن مياه الامطار في إيران غير موزعة بالتساوي، وهي إحدى مشاكل البلاد الرئيسية لأنها مصدر أساسي للإمدادات. فنطاق التوزيع يختلف كثيرًا بين 5 ملم في بعض المناطق الصحراوية، و1600 ملم في حوض بحر قزوين. علاوةً على ذلك، تتلقى 70% من الأرض اليابسة 43% فقط من مياه الأمطار. مع الوضع في الاعتبار أن متوسط مياه الأمطار هو 250 ملم في السنة. أي حوالي ثلث المتوسط العالمي، علمًا بأن ثلثي الكمية تتبخر.
تتأثر إمدادات المياه أيضًا بالنمو السكاني، الذي يشكل أحد الأسباب الرئيسية لنقص المياه في إيران خلال القرن الماضي. فمع ازدياد عدد السكان، ارتفع معدل استهلاك المياه دون وعي كاف بإمدادات البلاد المحدودة. في الوقت الذي ازداد فيه عدد سكان إيران خلال القرن العشرين بمقدار ستة أضعاف، وزاد معدل النمو بنسبة 0.6% مع بداية القرن، ليصل إلى نسبة مرتفعة بلغت 3.19% بين عامي 1976 و1986.
في تلك الفترة، كانت الحكومة الجديدة التي نصّبها الخميني تشجّع النمو السكاني بعد الثورة. دون التنبه إلى الأمن المائي. ليتوقع أن يصل عدد سكان البلاد إلى 92 مليون نسمة، وهو رقم كبير. خصوصًا أن معدل استهلاك الفرد في العالم بين 150 و175 لترا في اليوم، حيث يستهلك المواطن الإيراني ضعف ونصف أو ضعفين بأكثر من المعدل.
اقرأ أيضا: مشروعات التعاون المائي في أفريقيا.. طموح مصري لحماية مياه النيل
التغير المناخي وتفاقم الأزمة
تشير التقديرات إلى أن إيران ستشهد صيفًا جافًا هذا العام. فقد ارتفع معدل الحرارة في البلاد بواقع درجتين خلال القرنين الماضيين، أي أعلى بأربع مرات من المعدل العالمي. وتفاقمت أزمة المياه بسبب زيادة درجة الحرارة، والذي يؤدي إلى زيادة التبخر، وازدياد الحاجة للمياه بسبب القطاع الزراعي.
هكذا، تجتمع عدة عوامل لتدعم التوقعات حول استمرار موجات الجفاف المضرة في إيران. سواء هذا العام، أو في المستقبل القريب. ما سيزيد الاضطرابات الاجتماعية.
يقول الألوسي: يطرح الأمن المائي -الذي يُعتبر خطرًا متناميًا إنما خامدا- تهديدًا لإيران ككل ولا بدّ من معالجته فورًا. لكن لا توجد هنالك بوادر لحلول بعيدة المدى. الجهود التي تبذلها الحكومة الإيرانية للحدّ من شح المياه ضئيلة إن لم تكُن معدومة، ما يشير بوضوح إلى غياب استراتيجية خاصة بالمياه.
يُضيف: مع تزايد وتيرة نقصان المياه، ستتناقص شرعية النظام الحاكم في إيران. ونتيجة شح المياه، ستزداد حدة الاضطرابات الاجتماعية. مع النزوح من الأرياف نحو المدن، ما يضع المدن الكبرى تحت وطأة مزيد من الضغوط.
المياه تقود الاضطرابات
تشهد إيران في الوقت الحالي اضطرابات اجتماعية، يتوقع أنها ستزداد حدة بسبب نقص المياه. فالتقديرات تشير إلى أن 97% من مساحة البلاد “تعاني من الجفاف بدرجة معينة”، وفق مؤسسة الأرصاد الجوية الإيرانية. فضلًا عن ذلك، تظهر البيانات أن 11 مدينة رئيسية، يبلغ إجمالي عدد سكانها 37 مليون نسمة في إيران. تعاني أساسًا من الإجهاد المائي، كما تحتل إيران المرتبة 24 من حيث أكثر البلدان التي تعاني من ندرة المياه وفق “معهد الموارد العالمية”.
وتُعدّ أصفهان واحدة من أكثر المحافظات المتضررة من نقص المياه. وقد تظاهر مواطنوها عدة مرات على خلفية ذلك. فعام 2013، اصطدم المزارعون مع القوى الأمنية، وحطموا خط الأنابيب الذي ينقل المياه إلى يزد. واندلعت التظاهرات مرة أخرى بعد سنة على خلفية جفاف نهر زاينده رود. وعام 2018، علت الهتافات المناهضة للحكومة، حيث لقي 25 شخصًا حتفهم وتمّ اعتقال 3700 شخص.
كما اندلعت التظاهرات على خلفية نقص المياه في محافظات أخرى. ففي محافظة خوزستان، التي تساهم بـ 16% من إجمالي الناتج المحلي الإيراني وتملك 80% من احتياطات النفط الإيرانية. تحوّلت التظاهرات ضد شح المياه والتلوث إلى احتجاجات ضد الحكومة. واندلعت أيضًا تظاهرة احتجاجًا على تلوث المياه ونقصها في مدينة عبادان. وأعلنت القوات الأمنية إصابة 11 شخصًا، معلنةً أن “المحتجين ضد نوعية المياه السيئة، في القسم الغربي من المدينة. ألقوا مقذوفات وأضرموا النيران في حاويات النفايات، وعلى إحدى المركبات”.