بدأت ملامح الحروب المستقبلية التي قد يشهدها العالم تتضح، بسبب ندرة المياه في ظل التغيرات المناخية والجفاف في أكثر من منطقة حول العالم. ووفقًا للأمم المتحدة، يعيش 2 مليار شخص في بلدان تعاني من مشاكل في الحصول على المياه. وتوقعت أن ثلثا كوكب الأرض قد يعاني من نقص في المياه ما يتسبب في تشريد ملايين الأشخاص بسبب ذلك. فيما أشارت إلى أن نقص المياه قد يؤثر على حوالي خمسة مليارات شخص حول العالم بحلول عام 2050.
وفي هذا الإطار يتجدد الحديث كل فترة عن فكرة “تسليع المياه” التي تتبناها الدول العظمى وتقف خلفها الولايات المتحدة الأمريكية والصين. باعتبارهما المستهلكان الرئيسيان للمياه في العالم. ويتم تصدير هذه الفكرة على أنها الحل السحري للصراع على المياه نتيجة ندرتها إلا أنها خطوة للسيطرة على منابع المياه. وينسحب الحديث في هذا الإطار على موقف إثيوبيا المتعنت في أزمة سد النهضة وترويج البعض لحق إثيوبيا في استغلال منابع النيل لتحقيق مصالحها وأنها غير مخطئة فيما فعلته.
أثارت إثيوبيا نزاعًا كبيرًا مع مصر والسودان عندما قررت في عام 2011 بناء سد النهضة الإثيوبي لإيواء محطة للطاقة الكهرومائية تبلغ 6.45 جيجا وات. وإثيوبيا هي دولة المنبع للنيل الأزرق الذي يغذي نحو 86% من المياه التي تجري في نهر النيل.
وفكرة تسليع المياه مطروح منذ فترة من قبل البنك الدولي سابقاً لكن الأمر لم يلق ترحيب. خاصة أن تسليع المياه سيكون له بالغ الأثر على أسعار الغذاء حول العالم. وتقول المؤشرات إن من المستحيل أن تكون سلعة مثل البترول أو غيره يتم شحنها عبر الناقلات فبالتأكيد نقل المياه بأي طريقة يتكلف مبالغ طائلة.
إدراج الماء كسلعة في بورصة “وول ستريت”
وفي ديسمبر 2020 بدأت بورصة “وول ستريت” الأمريكية بتداول المياه إلى جانب الذهب والنفط وسلع أساسية أخرى. ولا يعني ذلك أن الدول المطيرة والدول ذات الموارد المائية الضخمة هي الأغنى أو أنها ستجني الثروة لامتلاكها منابع المياه. فمن يملك المال والقوة العسكرية والاقتصادية والتقدم التكنولوجي سيظل الأقوى ويظل يتحكم في كل ثروات العالم كالبترول والذهب والمعادن والمياه.
ويرى الدكتور أسامة سلام، الخبير في الموارد المائية بهيئة البيئة بأبوظبي، أنه لو تم إدراج المياه نفسها وأصبحت سلعة عالمية لن تستطيع الدول المطيرة الفقيرة. طبقا للمعطيات الحالية من الاستفادة بهذه المياه بمعزل عن الدول ذات التقدم الاقتصادي والتقني والعسكري فالمياه أصل وسبب الحياة.
إثيوبيا تخرق القوانين
وفي السياق ذاته طرح الدكتور عادل درويش في مقال تحت عنوان “السوق المائية المشتركة لحوض النيل”. رافضا اتخاذ مصر أي خطوة تصعيدية تجاه إثيوبيا تحت زعم أنها لم تخرق القوانين الدولية (لغياب قوانين استغلال الموارد المائية العابرة للحدود). ولكنها انتهكت قاعدة قانونية للاستخدامات التاريخية لمصر والسودان. ورد الدكتور محمد نصر علام وزير الموارد المائية والري المصري السابق، على هذا الادعاء أن هذه ملاحظة ليست في محلها. حيث قامت إثيوبيا بانتهاك القانون الدولي بتجاهل الإخطار المسبق لمصر والسودان. عن هذا السد وقامت منفردة بوضع حجر أساسه وانتهكت القانون الدولي بعدم تقديمها لدراسات بيئية وإنشائية للسد. لكل من مصر والسودان تثبت به سلامة السد وعدم تأثيره سلبا على مصر والسودان كما تنص اتفاقية الامم المتحدة لعام ١٩٩٧.
ودرويش هو مراسل في برلمان ويستمنستر وداوننغ ستريت، ومؤرخ متخصص في السياسة الشرق أوسطية، من أصول مصرية ويعيش في أوربا منذ زمن طويل. وله اهتمام سابق بقضايا المياه وأصدر كتابا عن حروب المياه في 2003.
وقال علام إن في حسابات درويش لنصيب الفرد من المياه سنويا، خلط ما بين مياه النيل (المتجددة) ومياه استقطاب الفواقد وإعادة الاستخدام، وهذا الخلط ليس معمولا به على المستوى الدولي، بل حد الفقر المائي حسب تحديد البنك الدولي، للمياه المتجددة فقط.
واعتبر علام أن حديث درويش عن أن مصر لديها ٣٥٠ مليون متر مكعب سنويا من تحلية مياه البحر. وأن مصر ممكن أن تضاعف هذه الكمية عشرات المرات في أقل من خمس سنوات، باستخدام الطاقة الشمسية. والكاتب يتخيل ذلك ولا ينظر مثلا الى تكلفة الإنتاج والأخطر للتشغيل والصيانة. ولم يتحدث الكاتب عن مثال دولي لإنتاج المياه المحلاة من الطاقة الشمسية بهذه الكميات الضخمة (مليارات من الأمتار المكعبة)، ما اعتبره علام خيال علمي أكثر من كونه حلا لأزمة مائية طاحنة.
بنك المياه يصب في مصلحة دول المنبع
وتصب فكرة بنك المياه، التي طرحها درويش كحل للأزمة في مصلحة أصحاب الرصيد وهم دول المنبع. وطبعا دولتي المصب هما أصحاب القروض وعليهما الايفاء بالدين. أو بيع المياه بشكل أو بأخر وهذا هو هدف العديد من دول المنبع. والفكرة ما هي إلا دعم مباشر لهم ومحاولة صريحة للنيل من مصر والسودان. كما أوضح علام.
ورأى هاني رسلان مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية أن حديث الدكتور عادل درويش لم يقدم جديدا سوى تدوير وإعادة إنتاج فكرة تحويل المياه من حق من حقوق الإنسان. إلى سلعة لها ثمن وتباع وتشترى باعتبار أن المياه العذبة مورد نادر وأن هذا الأسلوب الأمثل لحسن استخدامها.
واعتبر رسلان طرح الفكرة ما هي إلا إعادة تسويق الطرح الغربي للمياه باعتبارها سلعة. وأكد رسلان أن البنك المائي يقف خلفها الفكرة البنك الدولي وبعض القوى والجهات الغربية. وقد أصبح واضحا أن الدفع بالمبادرة المشتركة لحوض النيل التي رعاها ومولها البنك الدولي وتورطت فيها مصر في عهد وزير الري الأسبق الدكتور محمود أبو زيد. وانتهت كما هو معروف بأزمة اتفاقية عنتيبي التي ما زالت قائمة حتى الآن. لم تكن إلا سعيا مبكرا لتطبيق هذا المفهوم بشكل عملي.
ويرى رسلان عكس ما طرحه عادل درويش عن عدم مخالفة إثيوبيا القانون. مؤكدا أن القاعدة الأهم في القانون الدولي هي إلحاق الضرر. وما تفعله إثيوبيا هو تهديد لحياة مائة مليون إنسان في مصر في حالة الجفاف الممتد.
بنك المياه درب من الخيال
والمحصلة النهائية هي أن فكرة “بنك المياه” لا يمكن وصفها إلا بأنها درب من الخيال ينفصل عن الواقع الذي تعيش فيه معظم بلدان حوض النيل. حيث تزخر هذه البلدان بفسيفساء متعدد من الانتماءات القبلية أو العرقية أو الإثنية. وما زالت تكافح من أجل استكمال بناء الدولة بمفهومها المتعارف عليه بدرجات متفاوتة. كما لا تتوافر المعلومات والإحصاءات الأساسية لتطبيق الفكرة.
وعمليا على أرض الواقع حتى تصبح المياه سلعة لابد من وجود القدرة على تخزينها وتخزين المياه حول العالم يكون محدود خلف السدود، لكن مصادر المياه الأخرى مثل الأمطار والأنهار الجارية لا يمكن تخزينها. وحتى تخزين المياه خلف السدود يخضع لقانون الأمم المتحدة للأنهار الدولية الذي ينص على مبدأ عدم الضرر للدول الأخرى وهو الأمر الذي لم تفعله إثيوبيا مع مصر والسودان.
وحول تخزين المياه خلف سد النهضة وبيعها لمصر، قال عباس شراقي أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة. أن سعة تخزين سد النهضة البالغة 74 مليار متر مكعب، تشمل 50 مليار متغير. تكفي فقط لموسم أمطار واحد ولا يمكن تخزينها لمدة اطول، وأضاف كما أن حرمان أثيوبيا لمصر من المياه، أمر مستحيل، نظرا لأن أثيوبيا دولة حبيسة وبالتالي لا يمكن تصريف المياه خلف السد إلا بفتح بوابات السد.
والسياسة المصرية لن تقبل بما تفعله إثيوبيا واعتبار أن النهر موردا خاصا بها، أو أن تشترى المياه من إثيوبيا وتتخلى عن حقوقها التاريخية في حصتها بمعاهدات دولية ضمنت لها هذا الحق.
اتفاقيات تقسيم المياه
ويحكم تنظيم وتقسيم المياه ما يزيد على 3600 معاهدة واتفاقية 149 منها تم توقيعه في القرن العشرين وحده. الأمر الذي يؤكد على أهمية الحلول السلمية في التعامل مع الأزمات المائية. فإن الصراعات الدولية المحدودة التي نشبت بسبب المياه العذبة لم تحسم بالحلول العسكرية. وإن كانت الأدوات العسكرية قد ساهمت في تحريك عدد منها، وحفز المجتمع الدولي للوساطة لسرعة إنهائها.
أما فيما يتعلق باحتمالات تطور الوضع المحتقن في حوض النيل بين دولتي المصب من جهة ودولة إثيوبيا. فإنه لا يخفى على أحد أن الأخيرة لا تهتم باتفاقيتي 1929 و1959. ولكن الطابع الدولي لنهر النيل وحدود العلاقة بين دول المنبع ودول المصب، واتفاقية أديس أبابا. تحتم على أثيوبيا احترام حق مصر والسودان في حصة المياه المعتادة، وانتظامها وعدم التأثير في منسوبها.