منذ العام 2011، تواجه منظمات المجتمع المدني في مصر واقعًا مؤلمًا وسياسات تضييق يتجلى منها تخوف الحكومات المصرية المتعاقبة من الدور الذي تلعبه هذه المنظمات. وهو الدور الذي اعتبرته الدولة محركًا لأحداث ثورة يناير على سبيل المثال، لذا تخشى تكراره مرة أخرى.
هنا تبرز الإشكالية الأساسية، إذا ما عدنا إلى الأدبيات التي تؤمن بأن “لا ديمقراطية بدون مجتمع مدني”. لذلك، فإن البحث في حلول للعلاقة المتوترة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني أمر شديد الضرورية، خاصة في الوقت الحالي. وهو يفتح الباب الموصود لسنوات بسبب التعنت الحكومي، وغياب الثقة بين طرفي الأزمة؛ الدولة ومنظمات المجتمع المدني.
صحيح أن منظمات المجتمع المدني لا تنافس الأنظمة على السياسة، لكنها معنية بممارسة الحقوق والحريات، وكذلك قياس مدى التزام الدولة بها. وهنا تبرز الأزمة بين ما تعتقده الأنظمة من خطر إحداث تغيير في التنظيم المجتمعي، الذي تسعى للحفاظ عليه. وفق معادلات تضمن لها مصالحها والبقاء على رأس السلطة. وما ينتج عن هذا الاعتقاد من اتهامات بالتخوين والعمالة تتصدر الخطاب الإعلامي -المحسوب على الدولة- في مواجهة المنظمات الحقوقية المعنية في المقام الأول بتطوير المجتمع المصري ومساعدة الدولة في الوقوف على المشكلات التي يعانيها.
في مصر، هناك منطق مزدوج في التعامل مع منظمات المجتمع المدني. يبرز في تزايد أعداد الجمعيات الأهلية خلال السنوات الماضية – وصلت إلى 55 ألف مؤسسة- في وقت يزج بكثير من العاملين في مجال حقوق الإنسان خلف القضبان ورهن الحبس الاحتياطي، في قضايا تتعلق بالنشر والتمويل الأجنبي. فلو كانت منظمات المجتمع المدني في مصر تنقسم إلى حقوقية وخدمية؛ فإن الأولى تعامل معاملة غير المرحب به، بينما الثانية تعي الدولة دورها في المساعدة على حل الأزمات المجتمعية؛ الفقر ومواجهة جائحة كورونا على سبيل المثال.
للاطلاع على الورقة البحثية كاملة.. اضغط هنا
دام.. محاولة للخروج من النفق المظلم
في يناير 2021، أصدر مركز التنمية والدعم والإعلام (دام) ورقة بحثية، حاول خلالها طرح وسيلة لصناع السياسات في مصر. فقدم ما وصفه بمحاولة فهم الأزمات الرئيسية التي تتعلق بالحقوق والحريات العامة في البلاد. فضلاً عن توفير توصيات وحلول واقعية للتعامل مع هذه الأزمات. بما يسمح بتبني هذه الحلول في حالة السلطات الرسمية. أو بمناصرتها وطرحها كبديل في مواجهة سياسات الدولة.
كذلك، رصدت هذه الورقة البحثية التأثيرات المختلفة لهذه السياسات، خارج الأطر التحليلية التقليدية لها. فتناولت ما ترتب على ممارسات التضييق من نتائج تضر بشكل مصر كدولة حديثة. وكذا تضعف اقتصادًا بديلاً كانت توفره منظمات المجتمع المدني لها. باعتبارها شريك للدولة في حل أزمات مجتمعية عدة.
6 ممارسات حكومية خنقت منظمات المجتمع المدني
وقد قسمت الورقة البحثية الملامح الرئيسية لسياسات السلطة في مصر تجاه منظمات المجتمع المدني إلى 6 عناصر. تضمنت استعمال القانون كأداة للسيطرة على عمل منظمات المدني. وكذا الملاحقات الأمنية والقضائية التي ترتبت على هذه السياسة التشريعية. فضلاً عن سعي الدولة لعزل قيادات تلك المنظمات محليًا. وذلك بمنعهم من السفر. سواء على خلفية التحقيق في قضية التمويل الأجنبي المعروفة 173 لسنة 2011. أو حتى منعهم دون أي مسوغ قانوني.
هذا إلى جانب سياسة المضايقة الأمنية التي يمارسها جهاز الأمن الوطني ضد تنظيم الدورات التدريبية وورش العمل والمؤتمرات. وأيضًا سياسة حجب مواقع كثير من المنظمات الحقوقية. فضلاً عن استخدام الإعلام الحكومي والموالي للدولة في الهجوم والتشهير بمنظمات المجتمع المدني.
مثال على ذلك، ما شهده العام الماضي من تضييق وملاحقة أمنية للقائمين المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. في أعقاب استضافة عدد من السفراء الأوروبيين لمناقشة وضع حقوق الإنسان في البلاد. وهو الأمر الذي تعاملت معه الدولة المصرية بتوجيه اتهامات لـ 3 من مسؤولي المبادرة بـ”الانضمام إلى جماعة إرهابية” و”نشر أخبار كاذبة”. لكنها سرعان ما تراجعت وأفرجت عنهم تحت وقع الضغط الدولي المتواصل ضد هذه السياسة في التعاطي مع المنظمات الحقوقية.
ولا تضر سياسات السلطة في مصر فقط بمنظمات المجتمع المدني. وإنما يمتد أثرها إلى مختلف قطاعات الدولة المصرية، وفق ورقة “دام” البحثية. ذلك إذا نظرنا إلى كم الانتقادات الدولية لتردي حالة حقوق الإنسان في مصر، والمطالبات بوقف تصدير أي معدات أو أدوات قد تستخدم في التضييق.
هروب المكاتب الإقليمية للمنظمات غير الحكومية الدولية من مصر
تتناول ورقة “دام” البحثية -في تحليلها- أيضًا كيف استهدفت السياسات المصرية المنظمات الدولية غير الحكومية. الأمر الذي دفع عديد من المكاتب الإقليمية لهذه المنظمات للهروب من مصر. ما أفقد الدولة سنوات مضت كانت فيها القاهرة عاصمة رئيسية للعمل غير الحكومي الدولي. وهو الوضع الي اختلف تمامًا مع السلطة الحالية.
مليارات خسرتها مصر بفعل التضييق على المجتمع المدني
لا توجد دراسات كافية تربط ما بين التضييق على المجتمع المدني وهروب الاستثمارات من مصر. لكن ليس من الصعب الربط ما بين هذا التضييق وخسارة البلاد للمنح الموجهة لمنظمات المجتمع المدني المحلية أو الدولية.
فعلى سبيل المثال المكتب الإقليمي لمنظمة فريدرشناومان -تم نقله للعاصمة الأردنية عمان- كان يستحوذ على جزء كبير من الميزانية التي تنفقها المنظمة الألمانية العريقة خارج برلين. وتقدر هذه الميزانية بـ 20 مليون يورو، حسب تصريح صحفي لرونالد ميناردوس المدير الإقليمي للمؤسسة الألمانية.
وبالإضافة للمنظمة الألمانية، فإن هناك عدد من الجهات المانحة الصغيرة، قررت هي الأخرى وقف تمويل أي أنشطة لشركائها المصريين. وذلك خوفًا من تعثر تنفيذ الأنشطة المتفق عليها. وبالتالي إهدار هذه المنح، التي كانت تستفيد منها مصر بشكل كبير. هذا فضلاً عن “سياحة المؤتمرات” التي خسرتها مصر أيضًا مع هروب المنظمات الحقوقية من البلاد إلى منافسين آخرين إقليميين، وفق ما تستعرض ورقة “دام” البحثية.
حقوقيو الخارج.. سابقة تاريخية وأزمة حقيقية
مع تواصل أعمال التضييق، فإن عديد من المنظمات الحقوقية دُفعت للهجرة ومباشرة الدفاع عن أهدافها من الخارج. وهو أمر تراه الورقة البحثية ضارًا لكلا الطرفين الدولة وهذه المنظمات الحقوقية. إذ تلجأ الأخيرة لسياسة الضغط بطلب المعاونة من دول فاعلة كالولايات المتحدة. الأمر الذي قد يحولها من كيانات وسيطة موضوعية، لأصحاب خصومة سياسية مع النظام الحالي. وفي هذا ضرر لكلا الطرفين، وضياع للقضية الأساسية المتمثلة في خلق مجتمع يحفظ حقوق مواطنيه ويمارس مساءلة أفراده بشفافية وعدالة.
كيف يمكننا الخروج من النفق المظلم؟
أخيرًا، تقدم ورقة “دام” البحثية عددًا من التوصيات؛ تشمل 15 عنصرًا، تنصح بها كلا طرفي الأزمة؛ الدولة ومنظمات المدني. بينما تحاول بتوصياتها تلك بناء جسور تواصل حقيقية بين الجانبين. على أن يبنى هذا وفقًا لسياسة تشريعية جديدة تتفق والدستور، تمنح بموجبها الدولة منظمات المجتمع المدني حرية التكوين والعمل بعيدًا عن الملاحقات والمضايقات الأمنية. بينما تفرض المنظمات على نفسها رقابة شعبية وتلزم نفسها الشفافية التي تزال معها مخاوف الدولة. على يقبل الطرفان الجلوس على مائدة حوار تحل الأزمة وتبني لثقة متبادلة.
للاطلاع على الورقة البحثية كاملة.. اضغط هنا
وفي توصياتها للدولة، نصحت الورقة البحثية بالآتي:
1. تطبيق القانون رقم 149 لسنة 2019 ولائحته التنفيذية، بما يراعي حرية العمل الأهلي في مصر، ويحترم متطلبات الأمن القومي، ويحقق المعايير الدولية لحرية العمل الأهلي وأهمها: حرية التأسيس والانضمام – حرية العمل في مختلف الميادين دون وصاية من السلطة – حرية تنفيذ الأنشطة دون تدخل من السلطة – حرية تلك المنظمات في إدارة شؤونها دون تدخل من السلطة – حرية الحصول على تمويل محلي وأجنبي دون قيود تعسفية – حماية الفاعلين في هذه المنظمات من الملاحقات القضائية والتجريم بشكل تعسفي.
2. التمهيد لصياغة مشروعات قوانين جديدة لتنظيم العمل الأهلي في مصر، من خلال مراقبة تطبيق التشريع الحالي واستكشاف المشاكل التي من الممكن أن يسببها على أرض الواقع عند تطبيقه، وفتح حوار مجتمعي حقيقي وجاد لصياغة هذه المشروعات وتقديمها للسلطة التشريعية.
3. تعديل النصوص القانونية الغامضة والمطاطة في قانون العقوبات وقانون جرائم تنقية المعلومات ومجموعة قوانين الإرهاب والكيانات الإرهابية، بما يحمي عمل منظمات المجتمع المدني المشروع من الوقوع تحت طائلة التجريم بالمصطلحات الواسعة وغير المحددة الموجودة في هذه القوانين.
4. المبادرة بإغلاق التحقيقات في القضية 173 لسنة 2011 وفقًا للإجراءات المنصوص عليها قانونيًا بما يضمن رفع حظر السفر المفروض على عدد من المتهمين فيها، ورفع تجميد الأموال المفروض على بعض المنظمات الحقوقية أو قيادات تلك المنظمات.
5. التوقف الفوري عن الملاحقة والاستهداف الأمنيين للمنظمات الحقوقية المصرية العاملة في الداخل والمبادرة بإطلاق سراح المحبوسين احتياطيًا من المواطنين/ات على خلفية نشاطهم داخل هذه المنظمات.
تشمل التوصيات أيضًا تقديم ضمانات كافية، تشمل:
6. دعوة المنظمات الحقوقية المصرية العاملة في الخارج لمعاودة العمل من داخل مصر، مع التعهد بعدم ملاحقتها أو التنكيل بها وتقديم الضمانات الكافية لها للعمل بشكل شرعي وحر من داخل مصر.
7. وقف حملات التشويه والتصعيد الإعلامية التي يشنها الإعلام المملوك للدولة أو المقرب منها على منظمات المجتمع المدني وعملها. وكذلك وقف التصريحات العدائية من المسؤولين في مصر بمختلف مستوياتهم ضد هذه المنظمات، لاسيما ما يتعلق بالاتهامات التعسفية لبعض منظمات المجتمع المدني والفاعلين فيها بالعمالة للخارج والخيانة وما شابه ذلك.
8. المبادرة بدعوة المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية لاستئناف نشاطها في مصر وافتتاح مكاتب قطرية وإقليمية لها في مصر،فضلاً عن استئناف المفاوضات التي توقفت قبل عدة أعوام لافتتاح مكتب للمفوضية السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة في مصر.
9. الوقف الفوري لأي عمليات حجب محتوى إلكتروني حقوقي غير خاضعة للقانون، بمعنى أنها لم تتبع الإجراءات الموجودة في القانون 175 لسنة 2018، بما يشمل فتح الباب لتعويض من لحقهم هذا الإجراء المتعسف، عما سببه لهم الحجب من أضرار مادية وأدبية.
10. إطلاق استراتيجية وطنية لحماية حقوق الإنسان في مصر، بحيث تشمل تحسين البيئة التشريعية والسياسية لعمل منظمات المجتمع المدني، والاعتراف بدور هذه المنظمات في تنفيذ هذه الاستراتيجية جنبًا إلى جنب مع الهيئات الرسمية في الدولة.
كما أشارت في توصياتها لمنظمات المجتمع المدني إلى:
1. التأكيد على مبدأ استقلالية منظمات المجتمع المدني عن الدولة، فعلى هذه المنظمات أن تبادر بتبني خطط تضمن الرقابة الشعبية على عمل هذه المنظمات من خلال نشر ميزانيتها السنوية والإعلان بشكل طوعي وشفاف عن مصادر تمويلها وكيفية إنفاق هذه التمويلات.
2. يجب على منظمات المجتمع المدني أن تعي وتتفهم الإرث السلطوي التاريخي للدولة المصرية، وهو ما يعني أن على هذه المنظمات أن تبذل جهودًا حثيثة لطمأنة مخاوف السلطة، وتوضيح طبيعة عمل تلك المنظمات ومردودها الإيجابي، لهذه السلطة، وفتح قنوات حوارية مستمرة ودائمة مع السلطات العامة الثلاثة في مصر.
3. على منظمات المجتمع المدني أن تعلن بوضوح هويتها في ضوء الاعتراف بشرعية كل الكيانات المدنية السلمية داخل الدولة، بحيث يمكن للرأي العام وللراغبين في الانخراط في أنشطة هذه المنظمات التفرقة بين العمل الحقوقي والعمل التنموي وبين المنظمات التي تقدم خدمات قانونية وبحثية تقنية وبين جماعات الضحايا التي تناصر حقوق فئات بعينها أو حتى جماعات الضغط التي تستهدف بشكل مباشر التأثير في مجريات العملية السياسية وتشكيل مؤسسات الحكم داخل الدولة.
4. على منظمات المجتمع المدني أن تهتم بتغطية الأدوار الثلاثة الرئيسية لمنظمات المجتمع المدني في الدول الحديثة ولا تكتفي بدور دون الآخر. فعلى منظمات المجتمع المدني أن تقوم بدعم دور الدولة في عمليات التنمية الشاملة والتحديث إلى جانب قيامها بموازنة سلطة الدولة وتنظيم ودمقرطة المجتمعات المحليات.
5. على منظمات المجتمع المدني لاسيما من عانى منها من سياسات السلطة في الفترات الماضية أن تطوى صفحة الماضي، وتقبل بالجلوس مع السلطة على مائدة الحوار في كل مرة توجه إليهم دعوة لذلك.
للاطلاع على الورقة البحثية كاملة.. اضغط هنا