لم تكن الضربة الأخيرة التي وجهتها مليشيا الحوثي المدعومة إيرانيا إلى دولة الإمارات مجرد رد فعل عشوائي تحت تأثير الخسائر التي منيت بها الحركة في “شبوة” اليمنية، والتي أنهت سيطرتهم على كامل المحافظة الاستراتيجية في الصراع اليمني.
إذ حدد الحوثي أهدافه جيدا من وراء تلك الضربة التي مثلت تطورا نوعيا منذ التدخل العسكري في اليمن، تحت قيادة المملكة العربية السعودية، وكانت أبوظبي لاعبا رئيسيا به. ذلك بعدما وضعت الجماعة يدها على موضع الألم الحقيقي في الجسد الإماراتي، بخلاف أهداف ذات أبعاد داخلية سعى من ورائها الحوثي لاستعادة توازنه، وإعادة الثقة لمقاتليه، في أعقاب الهزائم المتلاحقة خلال المعارك الأخيرة. وقد فقد بها عددًا من كبار قادته الميدانيين الذين كانوا بمثابة خبراء، بعدما تلقوا تدريبات متقدمة في معسكرات تابعة للحرس الثوري في إيران والعراق وسوريا ولبنان.
تفاصيل العملية التي كشف عنها المتحدث باسم قوات الحوثي العميد يحيى سريع، تكشف عن الأهداف من وراء تلك الضربة، بتأكيده أن العملية كانت نوعية. وقد استهدفت “مطاري دبي وأبو ظبي ومصفاة النفط في المصفح في أبو ظبي وعددا من المواقع والمنشآت الإماراتية الهامة والحساسة”.
قال “سريع” إنه تم استخدام صواريخ مجنحة في العملية من نوع “قدس2”. واستهدفت هذه الصواريخ مصفاة النفط في المصفح. فضلا عن مطار أبو ظبي بأربعة صواريخ. فيما استهدف صاروخ “ذوالفقار” الباليستي مطار أبوظبي. أما طائرات “صماد 3” المسيرة فقد استهدفت عددا من الأهداف الحساسة والهامة إضافة إلى الأهداف السابقة. قبل أن يستدرك بأن “صاروخ ذو الفقار الباليستي استهدف مطار دبي”.
أهمية موقع الضربات
تقع منطقة مصفح الصناعية في جنوب غرب أبوظبي، وتعد من أهم المناطق الاقتصادية في دولة الإمارات، حيث تضم العديد من المصانع وميناء.
كما أنها تضم العديد من الشركات الصناعية وشركات السيارات، وتحتوي المنطقة على أقدم ميناء في الإمارات، وتضم العديد من العقارات السكنية والتجارية.
انسحاب تحت وطأة الخوف من انفراط عقد الاتحاد
كانت الإمارات لاعبًا رئيسًا في التدخل العسكري بقيادة السعودية في اليمن، والذي بدأ عام 2015 قبل أن تعلن انسحابها العسكري الكامل من الميدان في فبراير 2020. لتنهي خمس سنوات من المشاركة، نشرت خلالها نحو 3500 جندي في اليمن. بالإضافة إلى قرابة 3000 فرد آخر في الجو والبحر يقدّمون الدعم في مسرح العمليات. ذلك بخلاف رعايتها وتمويلها لشبكة يزيد عددها عن الـ90 ألف مقاتل محلي من الميليشيات القبلية والعسكريين السابقين والوحدات شبه العسكرية، مثل قوات الحزام الأمني وقوات النخبة الشبوانية والحضرمية.
الانسحاب الإماراتي الذي جاء رغم الشراكة مع السعودية، مع إبقاء على دعم العناصر المحلية، ربما كان أحد أسبابه الرئيسية، ضغوط داخلية كبيرة، نتاج تباين الرؤى بين ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، وأمير دبي محمد بن راشد، بشأن التعامل مع قضايا المنطقة وعلى رأسها الأزمة اليمنية، والصراع مع إيران.
ففي 2010 كشفت وثائق ويكيليكس، عن تباين واضح في الرؤى بين أبوظبي ودبي حول الملف الإيراني. ففيما كانت أبوظبي تراسل واشنطن لتدعم توجيه ضربة عسكرية لإيران، ويسعى بن زايد لامتلاك منظومات دفاعية رادعة، كانت دبي تسعى لحث الولايات المتحدة على عدم السماح بنشوب الحرب في الخليج. وذلك لضمان مصالحها الاقتصادية، واعتمادًا على سياسة التوازن على ضفتي الخليج. كما تدرك دبي تحديدًا خطر الحرب على وضعها المالي الذي قد ينهي تجربتها إلى الأبد، مع وجود جالية إيرانية كبرى في دبي. وبالتالي وجود مجتمع مؤثر من رجال الأعمال الإيرانيين.
وعلى صعيد الصراع في اليمن، فحاكم دبي الذي احتكرت شركاته تشغيل ميناء عدن إبان حكم علي عبد الله صالح، لم يكن يرغب في الدخول في حرب شاملة، ستكلف الدولة الكثير من الموارد، مع الاكتفاء بتدخل محدود يحمي الميناء. في حين كانت رغبة بن زايد بسط النفوذ على خط تجاري مهم على ضفتي خليج عدن بمنطق التوسع البريطاني قديمًا.
ولم تكن حالة الرفض لسياسات أبوظبي قاصرة على حاكم دبي. ولكن تجاوزتها لحكام باقي الإمارات، وفقًا لحديث الشيخ راشد بن حمد الشرقي، نجل حاكم إمارة الفجيرة لصحيفة “نيويورك تايمز”، في 14 يوليو 2018. كشف حينها عن خلافات بين الإمارات السبع، بسبب الحرب في اليمن، وتفرد أبوظبي بقرار المشاركة في الحرب.
في الإطار ذاته، كانت تقارير إعلامية دولية تناولت تفاصيل بشأن اجتماع مغلق جرى في يونيو 2019 بين عدد من الأمراء البارزين في الولايات السبع التي تشكل الاتحاد الإماراتي. وقد حضر هذا الاجتماع كل من بن زايد وبن راشد. ووفقًا للتقارير وقتها، فإن حاكم دبي انتقد خلال الاجتماع سياسة بلاده الخارجية. كما شدد على ضرورة إعادة النظر فيها، وقال ما هو نصه “نُنفق يوميا مئات الملايين من الدولارات، فماذا نجني مقابل ذلك؟ علينا أن نتخلى مباشرة عن سياسة التدخُّل في شؤون الدول، فهذه السياسة تكلفنا كثيرا ودون أي مقابل”.
وفي يوليو 2019، قال الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله اللبناني المتحالف مع إيران، والذي تدعم عناصره مليشيات الحوثي اليمنية، في لقاء مع قناة الميادين، إن هناك “خلافات قوية” بين ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد وحاكم دبي محمد بن راشد. ذلك بسبب سياسة الأول والحروب التي أدخل فيها بلاده، كاشفا في الوقت ذاته عن اتصالات سرية بين أنصار الله الحوثي والإمارات لتنظيم عملية انسحاب الأولى من اليمن. لأن “الانسحاب على الأرض لابد أن يكون مواكَبا بتواصل ولو سرّي أو بالواسطة أحيانا من أجل الاتّفاق على بعض الخطوات”.
وقف نزيف الخسائر والتداعيات الاقتصادية
تشير تقديرات دولية إلى حجم التداعيات الاقتصادية التي تكبدتها الإمارات جراء المشاركة في حرب اليمن. حيث ذهبت بعض تلك التقديرات إلى إنفاق الإمارات منذ انخراطها في الحرب، وحتى انسحابها في 2020، نحو 1.3 مليار دولار شهريا بما يساوي 16 مليار دولار سنويا ونحو 55 مليار دولار خلال سنوات الحرب.
وربطت التقديرات بين النزيف المالي خلال سنوات المشاركة في حرب اليمن، وقيام السلطات الاتحادية برفع معدل الضرائب والرسوم على الخدمات في الإمارات على المواطنين والمقيمين وإزالة الدعم عن بعض السلع والخدمات التي تقدمها الحكومة وأهمها المشتقات النفطية. إلى جانب لجوء الإمارات إلى الصندوق السيادي للدولة لتغطية نفقاتها في اليمن وسد عجز الموازنة بحيث تراجعت أصول الصندوق قرابة 30 مليار دولار نهاية عام 2015. كما أنها خفضت حيازتها من سندات الخزانة الأميركية من 200 مليار دولار إلى 66 مليار دولار فقط منتصف عام 2017.
المصالح الاقتصادية، والكلفة المالية والسياسة لاستمرار المشاركة الإماراتية في الحرب على اليمن ميدانيا، كانت المحرك الأساسي لمخاوف باقي قادة الإمارات وضغطهم للانسحاب من “المستنقع اليمني” ومحاولات التهدئة مع إيران.
جهد مضاعف لاحتواء التداعيات السلبية لضربة الحوثي
يرى الأكاديمي عبد الخالق عبد الله الإماراتي -المطلع على اتخاذ القرار في أبوظبي- إن الضربة كانت غير متوقعة. وهي تأتي في وقت تواصل فيه الإمارات محادثات السلام في عدد من قضايا المنطقة. بينما يؤكد في الوقت ذاته أنها -الضربة- لن تغير من مسار الإمارات لا داخليا ولا خارجيا. إذ ستواصل مسارها كاملا بما فيه الاتصالات مع إيران.
وأتبع عبد الله أنه رغم إدراك الإمارات جيدا أن جماعة الحوثي أداة من أدوات إيران، وأن الإمارات تعرف جيدا حجم الدور الإيراني في دعمها بالأرقام، حيث يتواجد 130 خبيرا تابيعن للحرس الثوري الإيراني في اليمن، إضافة إلى 360 مثلهم من حزب الله العراقي يتلقون أوامرهم من طهران، إلا أننا نفرق بين ذلك وبين إيران التي نتعامل معها كجارة تبعد عنا 200 كيلو متر فقط، وبيننا وبينها الكثير من المشتركات الثقافية والاجتماعية. وبناء على ذلك يمكن القول إن العمل على استمرار التواصل والانفتاح مع طهران سيكون مستمرا ولن يتوقف.
وحول التداعيات الاقتصادية التي قد تلحق بالإمارات جراء الضربة الأخيرة، يرى عبد الله، أن الضربة لن تؤثر على سمعة الإمارات التي ينظر لها في المنطقة على أنها جاذبة للسياحة والتجارة. لافتًا إلى أن الكثير من المدن التي تتمتع بجاذبية تجارية وسياحية في العالم تعرضت لأعمال عدائية مثل ما تعرضت له الإمارات ورغم ذلك واصلت مسيرتها. مشددًا في الوقت ذاته على أن الضربة لن تمر مرور الكرام.
في مقابل رؤية الأكاديمي الإماراتي، يرى مسؤول بارز يعمل في مجال الأعمال الترويجية لتنشيط السياحة في إمارة دبي، أن الأحداث الأخيرة التي شهدتها بلاده، ستستوجب جهدا مضاعفا خلال الفترة المقبلة، لإزالة آثارها السلبية على الصورة الذهنية للإمارات ككل ودبي على وجه خاص كمقصد سياحي واستثماري آمن.
وبحسب المسؤول الإماراتي، فإن التحركات والجهد المبذول لا يجب أن يتوقف عند حد إجراءت تحسين الصورة فقط لدى الجمهور المستهدف. ولكن لابد أن تدعمه تحركات سياسية لاجتثاث التهديدات من جذورها.