بداية من أزمة تسعير طن الأرز من قبل الحكومة إلى الحديث عن عملية تخزين متعمدة من التجار لتعطيش السوق مرورا باتهام أصحاب السلاسل الكبرى والمحلات بالامتناع عن عرض كل الكميات الموردة إليهم. نهاية بتحميل المزارعين المسؤولية الكاملة بدعوى عدم توريد الأرز للحكومة. تبرز أزمة الأرز في الأسواق. ويتم تبادل اتهامات بين جهات مختلفة وتلقى الوعود. فيما تستمر الأزمة رغم تأكيد وفرة المحصول هذا العام.
أربك قرار التسعير الجبري المفاجئ للأرز في أغسطس/آب الماضي بـ6850 جنيها للطن للحبة العريضة، و6600 جنيه للطن رفيع الحبة عملية تداول السلعة. ووفقا لخبراء دخل “التجار” كمنافس قوي مع الحكومة في عملية الشراء من المزارعين خلال الموسم الحالي بسعر أعلى مما حددته وزارة التموين. ما أدى إلى تراجع المزارعين عن توريد كامل المحصول للحكومة في محاولة لتحقيق أي نسبة ربح.
وشددت الحكومة إجراءاتها لتدارك الانفلات محاولة السيطرة على السوق. فيما أصدر مجلس الوزراء قرارا باعتبار الأرز من المحاصيل الاستراتيجية. ملزما حائزي سلعة الأرز -لغير الاستعمال الشخصي- من المنتجين والموردين والموزعين والبائعين ومن في حكمهم إخطار مديريات التموين المختصة على مستوى الجمهورية بنوعية وكميات الأرز المخزنة لديهم. مع التزام ضوابط التوريد التي يصدر بتحديدها قرار من وزير التموين.
وشمل القرار معاقبة المخالفين بالحبس مدة لا تقل عن سنة وغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تتجاوز مليوني جنيه. كما حظر على أصحاب المضارب (أو المسئولين عن إدارتها) التابعة للقطاع الخاص غير المعتمدة من مديرية التموين المختصة وغير المتعاقدة مع الهيئة العامة للسلع التموينية العمل ضمن منظومة تسويق وتسلم الأرز الشعير المحلي. والسماح فقط للمضارب المتعاقدة مع الهيئة العامة للسلع التموينية بضرب كميات الأرز الموردة لحساب الهيئة تحت إشراف مديرية التموين لتوريد أرز أبيض بسعر الكيلو (12-15) جنيها.
من المسئول؟
بحسب تأكيدات سامى سمسم -رئيس قطاع بشركة “زمردة” للصناعات الغذائية- فإن الشركات الأربع الكبرى التي تعمل في تسويق الأرز الأبيض تعد من ضحايا الأزمة وليست طرفا في صناعتها. فهي تتعرض إلى خسائر كبيرة هذا الموسم نتيجة نقص التوريد وتعمل بنصف طاقة العمل “وردية واحدة”.
وهو يلقي بالمسئولية على وزارة التموين بسبب قرارها بمنع تدول الأرز الشعير إلا عن طريقها وإلزام المزارعين والتجار التسليم في شون ومجمعات التموين بالمحافظات. أو التسليم للمضارب بالسعر المحدد عن طريق اللجنة المشكلة من الوزارة بكل مضرب لتسجيل الكميات. ما تسبب في امتناع التجار عن التوريد للمضارب بالسعر الرسمي.
كميات غير كافية
يبرر أصحاب المحال اختفاء الأرز بأن الكميات المطروحة غير كافية وأن الطلب عليه كبير. فكل عميل يقوم بشراء 20 كيلو في المرة الواحدة وفقا لعلي خليل -مدير فرع أحد السلاسل التجارية بمنطقة دار السلام جنوب القاهرة.
فيما رد “سامي” أزمة اختفاء الأرز من المحال والسوبر ماركت إلى “جشع أصحاب المتاجر بهدف رفع الأسعار”: “شركات التعبئة مجبرة على التوريد للمحال بالسعر الرسمي 15 جنيه للكيلو. ولا يمكن المخالفة لوجود لجان مراقبة من التموين دخل كل مضرب”.
ولحل أزمة نقص الأرز الأبيض من وجهة نظره “لا بد من تشديد الرقابة على محال البيع ومراجعة الكميات المتسلمة هل يتم توزيعها أم تقوم بتخزين كميات منها؟”.
ووفقا لقرار وزارة التموين بمنع تداول الأرز الشعير خارج التسعيرة الرسمية فإن المضارب المتعاقدة مع الوزارة تعتمد في إنتاجها على الحصة اليومية التي يتم توريدها لها من وزارة التموين -150 طنا يوميا فقط. ووفقا لـ”سامي” فإن هذه الحصة تساوي 40% من طاقة إنتاجهم اليومية. ما تسبب في خسائر كبيرة. إضافة إلى التسبب في نقص المعروض في الأسواق.
المزارعون والأزمة
على الجانب الآخر تم اتهام المزارعين كطرف في صناعة الأزمة بالامتناع عن توريده لصالح وزارة التموين وبيعه للتجار لتحقيق مكاسب أعلى والاستفادة من فارق السعر البالغ 3000 جنيه للطن بين الرسمي الذي حددته الحكومة 6850 جنيها للطن. وسعر السوق الحر حيث يتراوح بين 10 و12 ألف جنيه.
وأوضح نقيب الفلاحين حسين أبو صدام أن الأزمة الحالية صنعها التجار بهدف الاحتكار.
وقال نقيب الفلاحين إن المزارع بعيد كل البعد عن هذه الأزمة. فهو مجبر على توريد الحصة المقررة لتسلم الأسمدة المدعمة للمحصول الجديد. تفاديا للغرامة المقررة البالغة 10 آلاف جنيه حال الامتناع عن توريد الحصص المقررة إلى شون الوزارة. وقال لـ”مصر 360″: “الغالبية العظمى من الفلاحين باعوا المحصول للتجار قبل حتى عملية الحصاد. لأن المزارع يخرج من الموسم الزراعي مكبل بالديون ويحتاج إلى تسديدها لإعداد الأرض للمحصول الجديد وشراء مستلزمات إنتاج.
تكلفة الفدان الواحد
تتراوح تكلفة زراعة فدان الأرز من 12500 لـ14000 جنيه للأراضي التمليك -بحسب المهندس محمود الفِت رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الفلاحين. وتزيد التكلفة 10 آلاف جنيه للأراضي المستأجرة.
وتستغرق زراعة الأرز 150 يوما حتى عملية الحصاد. وينتج الفدان بين 3.5 و4 أطنان بحسب تقدير وزارة التموين. ويصل عائد الفدان إلى 26 ألف جنيه.
وأوضح “الفِت” أن الأرقام الرسمية للمساحات المنزرعة بالأرز “غير دقيقة”. وتابع: “هناك أكثر من 100 ألف فدان تتم زراعتها بالمخالفة ولا يتم تسجيلها في الجمعيات الزراعية. ولا تدخل هذه المساحة الحصر. ما يجعل حجم الإنتاج المصري من الأرز كبيرا جدا ويحقق فائضا في الإنتاج يتم تصديره. لكن قرار المصادرة وحظر التداول للأرز الشعير إلا بالسعر الرسمي أدى إلى تخزين السلعة واحتكارها.
المساحات المزروعة
بلغت المساحة المزروعة بالأرز هذا العام 2022 نحو 1.5 مليون فدان. فيما تزيد كمية الإنتاج على 3.6 مليون طن أرز أبيض. ويقدر حجم الاستهلاك في مصر بـ3.2 مليون طن. ما يعني وجود فائض يُقدر بـ400 ألف طن وفقا لعبد المنعم خليل -رئيس قطاع التجارة الداخلية بوزارة التموين لـ”مصر 360″.
وحسب نشرة المساحات المحصولية والإنتاج النباتي 2019/2018 والتي يصدرها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بلغت مساحة محصول الأرز 1.3 مليون فدان عام 2018 /2019. مقابل أقل من مليون فدان عام 2017/2018. وتأتي زيادة الإنتاج بسب استنباط أصناف مقاومة للجفـاف. فيما مثل الإنتاج 4.8 مليون طن في عام 2018/2019 مقـابل3.1 مليون عام 2017/2018. وتزيد المساحات المزروعة والإنتاجية في محافظات كفر الشيخ والبحيرة. وتأتي محافظة الدقهلية في المرتبة الأولى بإنتاج يبلغ 1.4 مليون طـن.
الاكتفاء الذاتي والاستهلاك
تحتاج وزارة التموين سنويا من 360 إلى 420 ألف طن أرز للبطاقات التموينية عبر طرح مناقصات محلية بأسعار مقاربة لأسعار السوق. للمضارب الحكومية التابعة للشركة القابضة للصناعات الغذائية ومضارب القطاع الخاص.
وبلغ مقدار تصدير الأرز نحو 562.4 ألف طن سنويا فى الفترة من 2004 إلى 2019. فيما بلغ الاستهلاك المحلي للأرز للعام 2019 نحو 3.37 مليون طن وفقا للدكتور أحمد محمود البنا -الأستاذ بقسم الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة في دراسة له بعنوان “نموذج النقل في توزيع الأرز بين محافظات الجمهورية”.
وسجلت نسبة الاكتفاء الذاتي من الأرز 98.3% عام 2020. ومتوسط نصيب الفرد 29.6 كجـم مقابل 26.7 كجـم عــام 2019. بزيادة بلغت نسـبـتها 10.9٪. لكن في ذات الوقت ارتفعت أسعاره بشكل متلاحق ضمن مجموعة سلع أساسية ضمن موجة التضخم التي عادت بقوة. بما يعني أن هناك أسر لا تستطيع الحصول على الأرز. إذ ارتفعت أسعاره حتى لو كان متوفرا بينما تزيد أزمتهم حال لم يكن متوفرا.
أزمة مفتعلة
ويذهب الدكتور محمد النمكي -باحث بمعهد الاقتصاد الزراعي- إلى أن الأزمة مفتعلة. يضيف: “لدينا فائض إنتاج ومساحات منزرعة هذا العام تخطت 1.7 مليون فدان. منها 250 ألف إلى 350 ألف فدان يتم ريها بالماء المالح”.
يوضح أن قرار مجلس الوزراء أعطى حرية التداول شرط الالتزام بالسعر الرسمي ولم يمنع التجار من الشراء كما يتردد. لكن التسعير “الجبري” سمح للتجار بالدخول كمنافس قوي للحكومة في عملية الشراء بسعر أعلى من الرسمي وتخزين ما يشترونه. ما شجع عددا كبيرا من المزارعين للامتناع عن البيع لتحقيق مكاسب أكبر.
ويرجع جزءا كبيرا من الأزمة إلى “شراهة المحتكرين” لتصدير الأرز البلدي مهربا في” كونتيرات”. ويقول: “التاجر هو الرابح في الحالتين. سواء عطش السوق واستفاد من زيادة السعر أو قام بتصديره بالدولار”.
ويعتبر “النمكي” قرار التسعير الإجباري للسلع والمحاصيل يتناقض مع سياسة الدولة في التوجه نحو الاقتصاد الحر وسياسة تحرير الزراعة التي بدأتها الدولة منذ سنة 1987. مرجحا أن الأفضل ترك السعر لعملية العرض والطلب وحرية التداول حسب حاجة السوق مع ضبط ومراقبة الحدود لمنع التهريب إلى الخارج وتفعيل قانون الاحتكار.
واتفق الدكتور جمال صيام -أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة- مع “النمكي” في تسبب تهريب الأرز إلى الخارج عن طريق ليبيا والسودان وتمريره إلى دول الخليج في أزمة محلية. حيث يحظى الأرز المصري بإقبال كبير نظرا لجودته العالية.