في لقطات شبيهة بما نُشاهده دومًا في أفلام هوليود، انتشرت صور استقبال الجنود الأمريكيين العائدين من أفغانستان خلال الأيام الماضية، سواء خلال الإجراءات العسكرية الأخيرة التي انتهت بمشهد مؤلم بمحاولة التعلق بالطائرات المُغادرة، أو استقبال الرئيس بايدن لجثامين الجنود العائدة، وحتى اللقاءات العائلية التي يعود أصحابها إلى ذويهم، بعد عدة جولات في بلاد الجبال القاحلة.
صور العائلات الأمريكية، التي بثتها وكالة رويترز، الأربعاء، وهم يستقبلون أبنائهم وأحبتهم في احتفالية ضخمة مزينة بالألوان واللافتات المُبهجة، تتناقض تمامًا مع الوضع الذي ترك فيه هؤلاء الجنود وقادتهم أهل البلد الذي احتلوه لعشرين عامًا؛ حيث تشعر الأغلبية بالرعب، لدرجة أنهم فضّلوا الانسحاق بالقرب من محركات الطائرات المُقلعة إلى الولايات المتحدة، على أن ينتظروا قرارًا رحيمًا من النظام العائد.
وعود زائفة
قبل عشرين عامًا، وفي أعقاب الضربة الأكثر إيلامًا في تاريخ أمريكا لبرجي مركز التجارة العالمي، برر الرئيس الأسبق جورج بوش الابن الاجتياح الأمريكي للبلاد بتخليص الأفغان من الحكم الدموي الذي تقوده جماعة طالبان، المُتحالفة آنذاك مع تنظيم القاعدة، قال: “مرحلة طالبان انتهت وسوف نعمل على خلق مجتمع أفغاني جديد يتمتع بالحرية والكرامة”. الآن أعاد خليفته بايدن البلاد في قبضة طالبان مرة أخرى بعد عدة تفاهمات لا يبدو أن مصلحة الشعب الأفغاني تقع ضمنها.
وفي خطابه غداة انسحاب آخر جندي أمريكي مطلع الشهر الجاري، قال بايدن: “لم أكن مستعدًا لإطالة أمد هذه الحرب إلى ما لا نهاية وأمد الخروج إلى ما لا نهاية”. واعتبر أن الانسحاب من أفغانستان كان القرار الأفضل للولايات المتحدة، والتي يرى أنها “لم تكن لتستقر في أفغانستان للأبد”، وأنه كان يتبع الاتفاق الذي أبرمه الرئيس السابق دونالد ترامب مع طالبان. لم يلتفت إلى أن قراره السريع لتنفيذ الاتفاق أدى لانهيار الحكومة الأفغانية بشكل أسرع من المتوقّع، بل قال: “أعطيناهم كلّ فرصة لتقرير مستقبلهم. لا يمكننا إعطاؤهم الإرادة للقتال من أجل مستقبلهم”.
في الوقت نفسه، كانت طالبان قد تركت مواطني بلادها في مشهد مرعب، يجرون وراء الطائرات المحملة بالجنود العائدين إلى بلادهم، والمتعاونين الذي آثروا الوجود الأمريكي في البلاد طيلة عقدين من العمل العسكري والاستخباراتي، انتظر مقاتلو الحركة حتى مات هؤلاء من طريقتهم اليائسة للفرار؛ ثم شرعوا يحتفلون بخروج القوات الأمريكية ووقف المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد، ليقول إن هزيمة واشنطن في أفغانستان “درس كبير للغزاة”، مع الكثير من إطلاق النار في مطار كابول على سبيل الاحتفال!
طالبان تبحث عن الصورة
وعلى الرغم من تشددها، تعي حركة طالبان أهمية الصور وتأثيرها على المجتمع المحلي والدولي. بل، ويبدو أن مقاتلي الحركة يحملون في طياتهم بعض الدعابات الثقيلة كذلك، ففي منتصف أغسطس الماضي، تداول نشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي صورة عناصر من قوة “بدري” -التي تعد قوة العمليات الخاصة للتنظيم- يرفعون علم الحركة فوق تل، وهم مزودون بأسلحة ومعدات متطورة منها أجهزة للرؤية الليلية، في سخرية واضحة على ما يبدو بصورة مشهورة تظهر جنودًا أمريكيين في جزيرة إيوجيما اليابانية إبان الحرب العالمية الثانية، وهي واحدة من أشهر الصور العسكرية الأمريكية.
وكانت الولايات المتحدة، منذ قامت بغزو أفغانستان في أكتوبر عام 2001 للإطاحة بطالبان، بعد اتهامهم بإيواء أسامة بن لادن وشخصيات أخرى في القاعدة مرتبطة بهجمات 11 سبتمبر، قد دفعت بآلاف الجنود إلى المعركة، مع ضخ واشنطن لمليارات الدولارات لمحاربة تمرد طالبان وتمويل إعادة الإعمار، وبلغ عدد الجنود ذروته عند نحو 110 آلاف جندي في عام 2011. لكن عددهم تراجع تدريجيًا، حتى صار العام الماضي 4000 جندي فقط.
لكن الحرب حملت من الصور العديد من التفاصيل الأخرى التي تراوحت بين اليأس والأمل من الطرفين، فبينما التقطت عدسات المصورين لقطة لأم أفغانية يائسة تدفع برضيعها إلى الجنود الأمريكيين في مطار حامد كرازي في كابول من أجل أن يكون له مستقبل أفضل في بلاد العم سام، كانت جندية المارينز الأمريكية نيكول جي تنشر صورة أخرى وهي تحمل رضيع أفغاني آخر تركه والديه في المكان نفسه لنفس السبب؛ إلا أن المجندة، التي تنحدر من ولاية كاليفورنيا وتبلغ من العمر 23 عامًا، لم تجد وقتًا للاعتناء بالصغير، الذي علّقت على صورته معها بقولها “أحب عملي”، فقد كانت واحدة من العسكريين الـ13 الذين لاقوا حتفهم في هجوم داعش على المطار.
بلا عودة!
كانت آخر الصور العسكرية التي نشرتها الولايات المتحدة من أفغانستان، هي الصورة التي بثتها القيادة المركزية الأمريكية في تغريدة عبر حسابها على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، وهي صورة لـ اللواء في الجيش الأمريكي “كريس دوناهيو”، قائد الفرقة المجوقلة الـ 82، والذي يعتبر آخر عنصر من القوات الأمريكية يغادر أفغانستان.
وجاء في التغريدة المُصاحبة للصورة: “بمغادرته تم استكمال المهمة الأميركية (لإجلاء المواطنين الأميركيين، والأفغان من حاملي تأشيرة الهجرة الخاصة، بالإضافة الى الأفغان المعرضين للخطر)”.
بدت صورة دوناهيو، الملتقطة من إحدى كاميرات التصوير الليلي المثبتة على الطائرات، وكأنها صورة هوليودية أخرى. البطل يُنهي مهمته ويتحرك في خطوات بطيئة داخل الكادر عائدًا إلى الطائرة الآمنة التي سوف تقله إلى الوطن بسلام، لم يكن ينقص ذلك المشهد سوى موجة من النيران الناتجة عن موجة انفجارية تُطيح بالأشرار.
حدث الانفجار بالفعل، ولكن بعدما صار دوناهيو ورفاقه آمنين في الأجواء الدولية، فقد هاجم مقاتلو تنظيم الدولة “داعش” مطار كابول بطريقة انتحارية مزدوجة، حيث يحتشد الآلاف محاولين الفرار، وهو الانفجار الذي أسفر عن مقتل 85 مدنيًا و13 عسكريًا أمريكيًا، ما يعني أن المهمة لم تنجح بشكل كامل!
كان ذلك الانفجار يعني أن الرعب قد عاد للأفغان بعد نسيانه منذ الإطاحة بالحركة التي تحالف رئيسها الملا عمر مجاهد مع زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، فصراع اثنين من أكبر الفصائل المسلحة تشددًا لن يعني سوى المزيد من الدمار، في بلد أسرع مواطنيه لإزالة الصور والتماثيل من الشوارع، والتنصل من كافة أشكال الفنون التي يُحرّمها الحاكم العائد بقرارات يحاول فيها طمأنة المجتمع الدولي، بينما ترتعد فرائص القابعين تحت رحمة “أحكامه الشرعية”!