في 11 إبريل 2019 تمت إزاحة رئيس جمهورية السودان عمر البشير تحت ضغط ثورة شعبية عارمة، وآلت السلطة بصفة مؤقتة إلى القوات المسلحة السودانية بقائد هو الفريق عبد الفتاح البرهان تم الوصول إليه بعد طرح أسماء، وقيادات أخرى، كانت أكثر تعبيرا عن النظام المخلوع، أو الجبهة القومية الإسلامية في السودان.
بعد أربع سنوات من عمر هذه الثورة المشهود لها بالإصرار على إنجاز حلم الديمقراطية، والحكم المدني، يبدو الإنجاز لتحقيق هذا الهدف السامي ضئيلا، بل إن التفاعلات السياسية السودانية بين الأطراف تجعل السودان مهددا حاليا ومفتوحا على سيناريوهات الانزلاق إلى فوضى شاملة.
لم يكن حلم الثوار بوطن حر وديمقراطي وطموح الشعب السوداني في مستوى حياة إنساني وراء ما جرى وما يجري حاليًا، ولكن وكما هي القاعدة التاريخية الثورات تسرق من أصحاب المصالح إذا لم يكن لهذه الثورة طليعة متماسكة ولديها برنامج واضح وقادرة على إنجاز هدف التحالف الوطني الواسع.
وفي حقيقة الأمر امتلكت ثورة 2018 هذه الطليعة وهي تحالف المهنيين، وهي الطليعة التي عولت عليها شخصيا في كثير من كتاباتي بأنها النواة الصلبة للثورة السودانية، ولكن للأسف هذه النواة لم تستفد من الخبرات الثورية المتراكمة للشعب السوداني وانقسمت كما هي عادة النخب السياسية السودانية في حالة وصفها المفكر السوداني منصور خالد بـ”إدمان الفشل”.
عبر أربع سنوات من عمر الثورة تم تجريب صيغ مختلفة للاتفاقات بين أطراف المعادلة السياسية، والمكون العسكري السوداني، يمكن الإشارة الي اثنين رئيسيين منها هما الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس 2019 والاتفاق الإطاري الموقع في 5 إبريل 2022، والمؤسس على وثيقة دستورية أنجزتها نقابة المحامين السودانيين بعد مبادرات متعددة حاولت اختراق حالة الاضطراب في المشهد السياسي وتقاطع المصالح بين الأطراف سواء كانت سياسية أو اقتصادية.
ورغم هذه المجهودات فإن الفترة الانتقالية السودان قد امتدت لأربع سنوات دون وجود أفق واضح لإنهائها بعقد الانتخابات المأمولة، لتأسيس شرعية سياسية جديدة لأي طرف أو حتى لتحالف سياسي أي كان شكله!
بطبيعة الحال لا يمكن تحميل طرف سوداني دون غيره مسئولية هذه الحالة من السيولة السياسية، وتراجع مستوي حياة المواطن، وانعدام الأمن فكل الأطراف ساهمت في الوضع المتردي الراهن، سواء بطموح المكون العسكري بطرفيه في حيازة السلطة تحت ضغوط أمرين:ـ الأول: فيهما هو ممارسات يمكن المحاسبة عليها قبل وبعد الثورة السودانية، وبالتالي فإن شروط النجاة تبدو في الاستمرار في السلطة، أما الأمر الثاني: فهي مصالح اقتصادية تم تدشينها علي أساس الاستفادة من موارد بعينها مثل: الذهب أو تأسيس شركات متحكمة في السوق المحلي السوداني.
على المستوى المدني فإن تفاعلات النخب في هذا القطاع قد تأثرت بعدة عوامل بعضها تاريخي وبعضها حديث، في الأول نستطيع الحديث عن حالة ثأر بين تيار اليسار، خصوصا الشيوعيين السودانيين، وهم أصحاب من يوصف بأهم وأكبر حزب شيوعي في المنطقة العربية، وبين الأحزاب والقوي السياسية ذات المرجعية الدينية، وهنا نتحدث عن ثلاثة أطراف: الجبهة القومية الإسلامية التي ساهمت في ستينيات القرن الماضي في طرد النواب الشيوعيين من البرلمان، وفي إعدام محمود محمد طه صاحب الاجتهاد الديني المغاير لهم، والذي قد يحسب علي تيار اليسار ، أما الطرف الثاني: فهما حزبي الأمة والاتحادي أصحاب المرجعية الإسلامية والتي تنتمي جماهيرهم عموما إلى التيارات الصوفية.
العامل الثاني: المؤثر على تفاعلات القطاع المدني السوداني فهو عامل المنافسة السياسية في مرحلة سمتها الرئيسية، أنها انتقالية أي غير دائمة وأيضا لا تمتلك شرعية سياسية لأنها غير مؤسسة على انتخابات، وعلى الرغم من ذلك كله فإن المنافسة السياسية قد احتدت بين الأطراف، وهو ما جعل الجميع يعتمد منهاج المحاصصة في التمثيل السياسي بالهياكل الانتقالية.
منهج المحاصصة بين الأطراف السياسية في فترة الانتقال أوقع الجميع في بؤرة الخلافات، والانقسامات التي أودت بحكومة د. عبد الله حمدوك رئيس الوزراء المدني رغم إنجازاتها خصوصا على الصعيد الخارجي، حيث نجحت في إسقاط ديون السودان، ورفع اسمه من القوائم الراعية للإرهاب وهي الحالة التي أقعدت السودان وعزلته عن العالم الخارجي لمدة 27 عاما.
انقسام المكون المدني وفشله في تكوين تحالف وطني واسع كان قد نجح في إنجازه في الشهور الأولي للثورة، فضلا عن فشله في وضع محددات التفاعل من النظام القديم، وقواه الاجتماعية بشكل يضمن تحييده أسفر عن خلل في الموازين لصالح المكون العسكري الذي يقود المعادلة الراهنة منذ انقلاب أكتوبر 2021 على المدنيين، وذلك بإزاحة رئيس الوزراء وحكومته، بينما يستعيد النظام القديم قواه خطوة خطوة بل أنه بات مهددا لدرجة امتلك فيها التأثير على مصالح اقتصادية حيوية كميناء بورتسودان.
في مواجهة خلل موازين القوى بين المكون المدني، والعسكري برزت لجان المقاومة الشبابية التي أنجزت مواثيق سياسية ثورية، ويعتقد على نطاق واسع أنها تملك شبكة تنظيمية غير معلنة، ومتوقع أن تكون مؤثرة على خريطة الانتخابات السودانية إذا تم النجاح في الوصول الي هذه المحطة.
وتحت مظلة تفاعلات خطرة يبدو المشهد الراهن، خصوصا في الأسابيع الأخيرة مقلقا الي حد كبير، خصوصا مع حالة انقسام المكون العسكري بين طرفين هما القوات المسلحة السودانية، وقوات الدعم السريع إذ يتم التحريض علي الجيش السوداني على اعتبار أنه منتم الي الجبهة القومية الإسلامية، كما أن هناك قوى سياسية قد تحالفت مع قوات الدعم السريع حتي يكون هناك قوى عسكرية وازنة مع الجيش، وهي الحالة التي دفعت قائد الجيش ورئيس المجلس السيادي إلى أن يلوح بامتلاك الجيش لطائرات مسيرة “درون”، قبل فترة كما أنها تدفع حاليا لتحركات من جانب الدعم السريع في مناطق شمال السودان يصفها الجيش السوداني بالخطرة.
وفي هذا السياق فإن أطراف المجتمع الدولي، والإقليمي تبدو عاجزة عن التأثير في هذا المشهد الملتهب رغم أدوراها السابقة التي برزت خلال الأربع سنوات الماضية للوصول الي كل من الوثيقة الدستورية، والاتفاق الإطاري، ورغم زيارة أجراها مبعوثو السودان للخرطوم مطلع فبراير الماضي في توقيت واحد للدفع نحو إنجاح الاتفاق الإطاري، ورغم النداءات التي تم إطلاقها مؤخرا من جانب الأمم المتحددة، للدفع نحو التوقيع على الاتفاق النهائي بين أطراف المعادلة السودانية.
وفي تقديري أن خطر الاشتباكات المسلحة بين طرفي المكون العسكري في السودان لم يعد بعيدا، بل أنها فقط قيد رفة فراشة، كما أن حدوث انقلاب عسكري في صفوف القوات المسلحة قد يكون واردا، ولكنه هذه المرة لن يستلم سلطة بعد أن فشل في هذا التمرين قبل ذلك ، بل سيشرع فورا في إجراء انتخابات عاجلة من المتوقع أن تلقي دعما من الأطراف الدولية، والإقليمية بعد عجز الجميع في التعامل مع حالة الانقسامات السياسية السودانية التي أهدرت للأسف ثورة كانت واعدة للسودان، وللإقليم في دعم تحول نحو حرية وديمقراطية، وعيش كريم تطلع إليه مواطنون بالملايين في منطقتنا.