تثير مساعي دولة الإمارات للسيطرة على عدد من أهم المواني والممرات ونقاط الاختناق الحرجة في البحر الأحمر والقرن الإفريقي تساؤلات حول ما إذا كان الأمر مجرد طموح اقتصادي لزيادة عائدات الدولة كما تجلى مؤخرا في عمليات الاستحواذ على أصول اقتصادية مثلما يحدث في الحالة المصرية، أم أن وراء هذا الطموح مشروع سياسي خفي، بخلاف تساؤلات أخرى متعلقة بمدى تأثير طموحات أبو ظبي في هذا الإقليم على مساحات النفوذ والمصالح المصرية، في ظل تصدر قناة السويس اهتمامات صناع القرار الإماراتي ضمن خططهم للهيمنة على الإقليم الذي بات أكثر تأثيرا في التجارة العالمية.
اقرأ أيضا.. تركيا في البحر الأحمر| مصدر تهديد آخر لمصر وجاراتها.. ولكن
الإمارات بدأت قبل عدة سنوات مشروعاً سياسياً استراتيجياً تعدى حدود الطموح الاقتصادي بكثير، وإن ظل الاقتصاد عماده الرئيسي، خاصة بعد أدرك حكامها أن البترول لم يعد وحده هو المحرك ولا عمود الأساس لبلادهم، فهم يعلمون جيدا أن مخزونات النفط والغاز الطبيعي لن تستمرا إلى الأبد وأنه لا بد من أعمدة أخرى يستند إليها الاقتصاد الإماراتي.
وهنا وجدت الإمارات ضالتها في إقليم البحر الأحمر حيث التجارة العالمية المارة به، بخلاف القيمة الجيو سياسية له، فمن يهيمن عليه يفرض نفسه رقما صعبا في المعادلة الدولية.
ومن ينظر إلى خريطة الملاحة والمواني في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي سيلاحظ امتدادا جيو استراتيجيا إماراتيا توزع ما بين اليمن والقرن الإفريقي ومصر، بعيداً عن مناطق نفوذ السعودية التي تركت لها الإمارات قيادة الخليج والعالم الإسلامي، لتخلق لنفسها دورا أشد أهمية وتأثيرا خارج محيطها الإقليمي الخليجي المليء بالنزاعات ومحاولات السيطرة.
مصالح إماراتية في البحر الأحمر
يمثل إقليم البحر الأحمر أهمية خاصة للإمارات في ظل تطلعات حكامها على المستويين الإقليمي والاقتصادي، لعدة أسباب:
– أبرز تلك المصالح هي الاستثمارات المملوكة لها في دول الإقليم إذ بلغ حجم تجارة الإمارات مع إثيوبيا وكينيا والصومال 5 مليارات درهم، فيما بلغت استثماراتها بالدول الثلاث 17 مليار درهم، وفي نوفمبر 2019 باتت الإمارات أكبر مستثمر بالسوق المصري، بقيمة 7.2 مليار دولار، فيما بلغت تجارة الدولتين 5.3 مليار دولار، وذلك قبل موجة الاستحواذات الأخيرة، التي استحوذت خلالها الصناديق الإماراتية على حصص الحكومة المصرية بعدد من الشركات.
– يأتي ذلك أيضا في الوقت الذي تتبنى فيه الإمارات مشروعا استراتيجيا يتجاوز الاعتماد على عوائد تصدير إمدادات الطاقة، في ظل إدراك حكامها لتقلب أسعار مواد الطاقة، ما قد يعرضها لمخاطر عدة مع نفاد احتياطات النفط والغاز، وهو ما جعلهم ينشطون في الاستثمار بقطاع النقل البحري وإدارة المواني، حتى أصبحوا يديرون نحو 77 ميناءً حول العالم حتى نهاية العام 2017، وتعتبر مواني البحر الأحمر من أهمها، بعدما فازت الإمارات بعقود إدارة وتطوير العديد منها عدن في 2008 وعصب ومصوع بإريتريا 2015، وبربرة وبوصاصو بجمهورية أرض الصومال الانفصالية 2017، بالإضافة للاستثمار بمواني العين السخنة والإسكندرية بمصر.
كما انخرطت الإمارات في تسوية النزاع الإثيوبي-الإريتري في منتصف 2018، بغية تنشيط مينائي عصب ومصوع، إثر التضييق على استثماراتها بمينائي عدن وجيبوتي.
– ثمة سبب آخر يدفع الطموح الإماراتي للهيمنة على إقليم البحر الأحمر وتوسيع نفوذها العسكري والأمني فيه، وهو تأمين تجارتها العابرة خلاله حيث كانت معظم صادرات الإمارات من إمدادات الطاقة تسلك مضيق هرمز، الذي يمر عبره 35% من النفط العالمي المنقول بحرًا، ونظرًا لتحكم إيران في الضفة الشمالية للمضيق، وتهديدها المستمر بإغلاقه حال تعرض قطاعها النفطي لعقوبات دولية عملت الإمارات بشكل استباقي نحو تحرير النفط من القيود الإيرانية، عبر مسارات مختلفة منها إنشاء خط لتصدير النفط من حقل حبشان بأبوظبي إلى الفجيرة، بطاقة 1.5 مليون برميل يوميا أما المسار الآخر فكان الانخراط الأمني والعسكري، عبر إقامة القواعد العسكرية في مضيق باب المندب وخليج عدن.
إجبار الصين على الشراكة
كذلك تدخل الصين في إطار تفكير أبوظبي، حيث إن الممرات الملاحية حول جنوب اليمن وجزيرة سقطرى التي هيمنت عليها الإمارات وأقامت هناك قاعدة عسكرية لها هي مركز ثقل في التجارة العالمية، حيث يعمل الإماراتيون على وضع أنفسهم كشريك يجب أن تعمل معه الصين لتعزيز مبادرة الحزام والطريق الضخمة في منطقة القرن الإفريقي وحولها، خاصة بعد الاتفاق الصيني والباكستاني على تطوير ميناء كوادر الذي من شأنه أن يحول الكثير من التجارة نحو الميناء الباكستاني وما سيتبع ذلك من تأثيرات سلبية على ميناء دبي.
هذا جعل الإمارات تعمل على إنشاء شبكات نفوذ مختلفة بالقرب من نقاط الاختناق الحرجة للتجارة العالمية في جميع أنحاء اليمن، من خليج عدن إلى مضيق باب المندب الحيوي الذي يربطها بالبحر الأحمر، فبخلاف إقامة قاعدة إماراتية في جزيرة سقطري، كشفت تقارير دولية مدعومة بصور من الأقمار الصناعية عن إقامة أبوظبي قاعدة جوية في جزيرة ميون وهي جزيرة بركانية صغيرة تحتل موقعًا رئيسيًا في مضيق باب المندب.
سيطرة أبوظبي على المواقع الحاسمة المتمثلة في جزيرتي سقطرى، وميون لم يكن مرتبطا بالوضع اليمني، بل أيضاً بطموحات الإمارات الاستراتيجية، حيث ترى أبوظبي في نفسها إمبراطورية بحرية، يجب أن تسيطر على المواني الرئيسية وطرق التجارة البحرية في المنطقة.
فجزيرة ميون ومضيق باب المندب يعتبران الشريان المتدفق الرابط بين البحر الأحمر وبحر العرب وخليج عدن جنوباً، فعرض باب المندب الكلي يُقدر بـ30 كلم، وهي المسافة الفاصلة بين قارتي آسيا وإفريقيا، وبالتحديد بين رأس منهالي في الساحل الآسيوي إلى رأس سيان على الساحل الإفريقي.
شراكة إماراتية إسرائيلية
كما تظهر إسرائيل في الرؤية الإماراتية لإقليم البحر الأحمر وبالتحديد في خليج عدن وباب المندب، فمع اتساع رقعة التطبيع بين تل أبيب وأبوظبي في أعقاب توقيع اتفاقات إبراهام، وتلاقي المصالح بينهما خاصة على صعيد المخاوف الخليجية من التهديدات الإيرانية، كشفت تقارير دولية عن شراكة أمنية واستخبارية، بين الإمارات وإسرائيل فيما يتعلق بتأمين الملاحة في الإقليم الذي يمر خلاله نحو 13% من التجارة العالمية، عبر إقامة قاعدة استخباراتية مشتركة في جزيرة سقطري التي تفرض الإمارات سيطرتها عليها.
عين إماراتية على قناة السويس
في إطار محاولاتها للهيمنة على جميع المرافق المهمة بإقليم البحر الأحمر عملت الإمارات عبر هيئة مواني دبي على توقيع اتفاق مع المنطقة الاقتصادية لقناة السويس في نوفمبر 2017 بشأن تأسيس شركة مشتركة لتطوير منطقة قناة السويس، لتصبح واحدة من أهم مناطق جذب الاستثمار بالعالم.
ومؤخرا كشف تقرير لموقع “افريكا انتيلجينس” الاستخباري الفرنسي، دخول صندوق الثروة السيادي التابع لإمارة أبوظبي في منافسة شرسة مع شركة مواني دبي العالمية، التابعة لإمارة دبي، للحصول على موطئ قدم لأبوظبي في المواني المصرية، في إطار خطة أبوظبي للسيطرة على المواني الرئيسية في المنطقة، وبخاصة في نطاق البحر الأحمر وباب المندب والقرن الإفريقي.
وأشار الموقع إلى مخاوف مصرية بشأن منطقة قناة السويس تحديداً، حيث لا ينظر بارتياح للتحمُّس الذي تبديه الإمارات في السباق بين دول الخليج على تأمين استثمارات لنفسها على ضفاف قناة السويس، في وقت تُوصف فيه الإمارات بأنها أشرس المنافسين في سباق الفوز بأكبر حصة ممكنة من فرص الاستثمار في محور قناة السويس المصرية، وكانت بالفعل أول من حصل على موطئ قدم في هذه المنطقة عام 2018، من خلال استثمارات شركة مواني دبي العالمية في ميناء العين السخنة المصري.
في هذا السياق، أكد مسئول خليجي اهتمام الإمارات وبالتحديد المسئولين في دبي، بقناة السويس، من منطلق تجاري واقتصادي، موضحا لـ”مصر 360″ أن من يملك ميناء جبل علي ( يقع على ساحل الخليج العربي)، وقناة السويس من شأنه أن يتحكم بشكل كامل في حركة التجارة العالمية المارة بهذا الإقليم.
المسئول الخليجي الذي فضل عدم ذكر اسمه أكد أن هناك من المسئولين في الإمارات من يرى في الأزمة الاقتصادية المصرية فرصة في الضغط على القاهرة للاستحواذ على مساحات استثمارية أكبر مما كان متاحا في وقت سابق، وهو ما يخدم الطموحات الإماراتية وخططها التوسعية في الإقليم.
ولفت المسئول الخليجي أن الأيام الأخيرة كشفت عن قلق مصري إزاء العروض الإماراتية المقدمة للاستحواذ على حصص في شركات تمتلك مساحات من الأراضي بالقرب من إقليم قناة السويس، بخلاف العروض الإماراتية المقدمة لإدارة عدد من المواني المصرية في البحرين الأحمر و المتوسط، مؤكدا أن هناك أصواتا داخل الإدارة المصرية ترى تنويع الاستثمارات الخليجية في هذه المرافق، مع إعطاء الأولوية للاستثمارات القطرية في مجال إدارة المواني حيث لا تعتبر الدوحة منافسا مباشرا لنفوذ مصر في الإقليم.
تحرك مصري
في مقابل ذلك أدركت مصر مؤخرا صراع النفوذ من جانب القوى الإقليمية المنافسة في إقليم البحر الأحمر، والقرن الإفريقي، وبعد تفكير في دوائر صناعة القرار المصري، اتجهت الأنظار نحو جيبوتي بحثا عن موقع قدم هناك ولكن بمعنى جديد، عبر إقامة منطقة لوجيستية بحرية، تتبع في إدارتها هيئة قناة السويس بهدف خدمة السفن المتجهة إلى القناة، وتزويدها بالمؤن والوقود، وإعادة تحميل بعضها بالتجارة المتجهة من وإلى دول إفريقية نحو الغرب أو الشرق حسب الحالة، مما يعظم من قيمة وأهمية الممر الملاحي المصري.
التفكير المصري في هذه الخطوة بشكل عام وجيبوتي بشكل خاص يأتي بحكم موقعها الجغرافي على الشاطئ الغربي لمضيق باب المندب، الممر المتحكم في البحر الأحمر من جهة الجنوب، حيث تمثل عنصراً حاسماً بالنسبة لقناة السويس، المرفق الاقتصادي المهم سواء لمصر أم لحركة الملاحة العالمية.
وانطلاقاً من هذا الترابط الوظيفي بين موقعي مصر وجيبوتي، رغم ابتعادهما الجغرافي بما لا يقل عن أربعة آلاف كيلومتر، بات التنسيق بين البلدين في مجال تثبيت الاستقرار في القرن الإفريقي وأمن البحر الأحمر، دافعاً مهماً ومصلحة مؤكدة للطرفين ليس فقط اقتصادياً وتجارياً، بل يمتد إلى أبعاد أمنية وأخرى سياسية ذات صلة بأزمة السد الإثيوبي الكبير.
ففي سياق بُعدَي، الأمن التقليدي وغير التقليدي، دفعت أزمة سد النهضة، كلًّا من مصر وإثيوبيا، للاقتراب من باب المندب، خصوصًا إثيوبيا التي تحظى باهتمام إماراتي كبير، والتي تُعد دولة حبيسة، وتسعى لردم هذه الفجوة، عبر إقامة قاعدة عسكرية بحرية، أو مراكز دعم لوجستية في إريتريا، أو جيبوتي، ولم يتحقق لها إلا في الأخيرة، مع نهاية عام 2019.