انحصر الحوار حول «الحوار الوطني» الذي فُتحت صفحته منذ دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي في إبريل الماضي، وكاد يتحول إلى انشغال كامل بآليات الحوار وأطره وموضوعاته ومنسقيه إلى آخر كل هذه التفاصيل المهمة، لكن بقي الأهم وهو الحوار نفسه واقفًا يترقب على عتبة لا يتجاوزها، بينما تصرخ لقاءات المعارضة المدنية بأن ضمانات الحوار لم تتحقق على أرض الواقع، ووصلنا جميعًا: القابلين للحوار ورافضيه، والداعين والمدعوين إليه، نقف في محطة «ترانزيت» يبدو طويلًا، لم نصل إلى المحطة المأمولة، ولا رجعنا إلى محطتنا الأولى.
اقرأ أيضا.. للمعارضة والسلطة: تعالوا إلى مصارحة وطنية
أبدأ بالتأكيد على أنني من الذين يقولون بأن متطلبات «الحوار الوطني» الجاد ليست متحققة، بل إن معوقات إجراء مثل هذا الحوار كثيرة ومتعددة وضاغطة، ومع ذلك، ورغم ذلك، فلست أنصح أحدًا ممن قبلوا الحوار ورأوا أنه يحمل فرصة -مهما صغرت- أن يتركها لتضيع من بين أيدينا.
وأعرف أن القابلين للحوار محصورون الآن أكثر من أي وقت مضى بين حوارٍ لا يبدأ لعدم تحقيق الضمانات الأساسية للشروع فيه، وبين فوات الأوان على إمكانية التراجع، والتعويل على بقية أمل في رشادة تصلح الأحوال، وتطلق صفارة البدء من جديد لحوار مطلوب وضروري ومهم، ولا مناص من الحرص عليه، والتمسك لآخر لحظة بكل أمل -مهما صغر- في أن تدور عجلته بنا إلى نقاط أكثر تقدمًا على الصعيد الوطني.
**
المشكلة لم تعد هي نفسها التي بدأ بها الدخول إلى منطقة حوار مع سلطة تتشبث بكل سياساتها، ولا تتراجع عن كل إجراءاتها -إلا في القليل النادر- خاصة على صعيد شرط الإفراج عن مسجوني الرأي، يُفرج عن البعض منهم، ويقبض على كثيرٍ غيرهم.
لم تعد المشكلة هي نفسها كما كانت قبل الدعوة إلى فكرة الحوار.
المشكلة الآن صارت أكثر تركيبًا وأشد تعقيدًا، في ظل الإصرار على استمرار السلطة في كل ما تعترض عليه المعارضة من سياسات وتوجهات وإجراءات، إصرار لا يبدو معه أن هناك قابلية للتعديل، ويكاد يقطع الأمل في أي تغيير.
ما زال هناك بونٌ شاسع بين نظرتين إلى ثورة يناير، النظرة الأولى تتبناها السلطة، وتحرص على تكريسها، وتجيش لها كل مقدرات الإعلام الذي صار كله في قبضتها، والثانية هي واحدة من أهم معتقدات كل قوى المعارضة المدنية التي شاركت مع جموع وملايين الشعب التي خرجت تطلب التغيير وتهتف بسقوط النظام.
في كل لحظة على مدار اليوم تجري عملية تشويه لكل ما يمت لثورة يناير بصلة، وتتم بقسوة أكبر عملية تدمير لكل ما تمثله يناير في تاريخ الشعب المصري ووجدانه، واستهانة مستمرة بكل ما قدمه من شهداء وتضحيات على طريق الانعتاق من القهر، والظلم، وجور الحكام، وغياب العدالة الاجتماعية.
هاتان نظرتان لا يمكن التوفيق بينهما.
نظرة تملك كل السلطة والنفوذ والانتشار والتأثير، وأخرى لا تملك من كل ذلك شيئًا ذا بال، إلا إذا أدخلنا في الحساب النص الدستوري على أن (الدستور يشكل بديباجته وجميع نصوصه نسيجًا مترابطًا، وكلا لا يتجزأ، وتتكامل أحكامه في وحدة عضوية متماسكة).
هذه الديباجة التي تؤكد على احترامها لثورة يناير، وتعتبرها «فريدة بين الثورات الكبرى في تاريخ الإنسانية، بكثافة المشاركة الشعبية التي قدرت بعشرات الملايين، وبدور بارز لشباب متطلع لمستقبل مشرق، وبتجاوز الجماهير للطبقات والأيديولوجيات نحو آفاق وطنية وإنسانية أكثر رحابة، وبحماية جيش الشعب للإرادة الشعبية وبمباركة الأزهر الشريف والكنيسة الوطنية لها، وهي أيضا فريدة بسلميتها وبطموحها أن تحقق الحرية والعدالة الاجتماعية معا. هذه الثورة إشارة وبشارة، إشارة إلى ماض ما زال حاضرا، وبشارة بمستقبل تتطلع إليه الإنسانية كلها».
**
الأمر ليس هينًا، والخلاف حوله يمثل قناعات لا يمكن أن تلتقي، فلا يمكن الجمع بين هاتين النظرتين إلا بتوقف السلطة عن معارضة نصوص الدستور، واحترام الشعب وثورته، بله احترام المدعوين من قبلها للحوار معها، وكلهم شاركوا بفاعلية فيما تسمية السلطة «نكسة يناير».
أضف إلى ما سبق أننا نواجه حالة استمرار الحال على ما هو عليه، ولا يوجد أي مؤشرات أو بوادر أو علامات تصدر عن السلطة تدل على القابلية للتراجع، أو الاستعداد للتعديل، أو التسليم بضرورة التغيير، فأهل الحكم يرون -وهذا حقهم بالطبع- صحة سياساتهم، بما فيها سياسة «القبضة الحديدية»، ويوقنون بسلامة مشروعاتهم، بما فيها مشروع «المونوريل».
ويبدو الحال وكأن الهوة عميقة بين رؤى ونظرة كلٍ من السلطة والمعارضة، هذه الهوة ليست أسوأ ما في الأمر، الأسوأ يتعلق بالتمسك بالحال كما هو عليه، وعلى المعارض أن يلجأ إلى التأييد، أو السكوت.
هذه النوعية من الحوار منزوع الدسم، لكنه غير صحي بالمرة.
وإلا قل لي من فضلك: ما فائدة حوار مع طرف متشبث برأيه، وغير مستعد لتعديله، أو تغييره، يرى أن رأيه صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي المعارضة خطأ لا يحتمل الصواب.
**
كان مطلوبًا -وما يزال- أن يصدر ما يمكن تسميته «إعلان مبادئ» يوافق عليها، ويسعى إليها المتحاورون، يُنص فيه على أن كل الأطراف قابلة لتعديل نظرتها، وتغيير سلوكها، وتأكيد الحرص المشترك على التوصل إلى توافق وطني جامع على القضايا موضوع الحوار، خاصة ذات الأهمية القصوى، وذات التأثير الكبير على الحاضر، والأثر الممتد إلى المستقبل.
أول هذه المبادئ يتطلب التوافق على الأهمية البالغة والضرورة القصوى لإعادة إحياء الحياة السياسية التي قُتلت ودفنت في غضون السنوات السبع الماضية، ولقد أثبتت السلطة قدرتها -حين تريد- على إحداث تغييرات متلاحقة في السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية بقرارات حاسمة وحازمة.
ولكن السلطة تبدو وكأنها لا ترى أي أهمية ولا ضرورة لإجراء عملية إصلاح سياسي جذري.
**
التغيير الأهم الذي يسبق أي حديث جاد عن حوار حقيقي بين السلطة والمعارضة يجب أن يبدأ بما هو سياسي، لأنه يتعلق بمجالات حقوق المواطنة والحريات الأساسية ليس فقط المنصوص عليها في الدستور، ولكن تلك التي لا يمكن بغير وجودها الحديث عن حوار يمكن أن ينتج واقعًا سياسيًا مغايرًا للأوضاع التي سادت السنوات القليلة الماضية.
إذا كنا نطالب المعارضة بضرورة تقدير الطروف التي يمر بها الوطن وتؤثر على صانع القرار في مصر، وربما تحد من الخيارات المطروحة أمامه وسط أزمات متلاحقة، أزمات الداخل وأزمات أخرى من الخارج، فإن صاحب السلطة مطالب في الوقت نفسه، وبنفس القدر، بالاعتراف بأهمية وجود المعارضة، ووقف الضربات التي تلاحقها منذ سنوات، وتهيئة المناخات لإعادة إحياء الحياة السياسة والحزبية، وصون حقها في الممارسة السياسية والمعارضة السلمية.
وللمعارضة أقول: قبل المطالبة بتعديل القوانين التي تؤثر على تشكيل الأحزاب لابد أن تتوافر المناخات الصحية والقانونية لمباشرة الحقوق السياسية لكل المواطنين.
بدون هذه المناخات الصحية لا قيمة لوجود ما يزيد عن مائة تكوين يسمون أنفسهم أحزاب، وهي على الحقيقة (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍۢ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمْ يَجِدْهُ شَيْـًٔا).
**
الإصلاح السياسي هو الدسم الذي يضفي على الحوار أهميته، ويحقق له صحته.
للأسف أشعر أحيانًا أن قوى المعارضة المدنية المدعوة إلى الحوار الوطني تجد نفسها في حرجٍ شديد وهي تضع أولوية للإصلاح السياسي باعتباره المدخل الرئيسي لمعالجة كافة التحديات على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي.
رغم صحة موقفها وموضوعية رؤيتها بأن البداية الصحيحة من السياسة، إلا أن المعارضة تستدرك دائمًا خشية التشكيك في مآربها بالحديث عن أن الهدف هو المواطن، وأن غايتها الأساسية هي الإصلاح الشامل الذي لا يقتصر على الإصلاح السياسي وحده، إصلاح على كافة محاور التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
الإصلاح السياسي ليس مطلبًا فئويًا يخص جماعة بعينها، أو أحزاب محددة، ولن يكون المستفيد منه أحزاب الحركة المدنية الديمقراطية وحدها، بل هو على الحقيقة يمثل المدخل الذي لا يوجد مدخل سواه للولوج إلى معالجة كافة قضايا الوطن والمجامع.
الإصلاح السياسي يتيح -إذا تحققت شروط نجاحه- مناخات للحرية والإبداع والتعبير عن الآراء، والأهم أنه يفسح المجال واسعًا أمام المشاركة في رسم السياسات، وتحديد الأولويات، واتخاذ القرارات، وتوسيع مساحة البدائل وتعدد الخيارات التي تحمي وتصون مصالح الوطن، وتحقق طموح المواطنين، أو كما قالت ديباجة مشروع الحركة المدنية الديمقراطية للإصلاح السياسي والتشريعي في مصر الذي أعلنته الحركة الأسبوع الماضي.
**
ليس من حق أحدٍ لوم المعارضة المدنية بسبب تركيزها على الإصلاح السياسي، ولا يجب أن تضع نفسها في موضع المتحرج من التركيز على هذا المطلب المشروع، لأنه في الحقيقة يعبر عن حقوق دستورية غائبة، وحريات مكفولة بالدساتير مغيبة، وهي الأساس الذي تنبني فوقه ديمقراطية سليمة، ودولة حديثة.
الإصلاح السياسي هو في جوهرة إعمال لنصوص الدستور ودفاع عن الحقوق والحريات العامة، ولا يحقق مطالب خاصة بالمعارضين، بل هو المقدمة الطبيعية للديمقراطية التي ينشدها المواطنون، والتي كافح في سبيل تحقيقها الشعب المصري على مدار قرنين من الزمان.
الإصلاح السياسي يبدأ بإقرار بالحق في التعددية والتنوع، وبدون هذا الإقرار لن يكون هناك أي جدوى من الحوار.
**
لابد من الاعتراف بأن الإصلاح السياسي يمثل المشترك الأعلى بين قوى المعارضة، بينما المحور الاقتصادي والمجتمعي تتباين فيه الرؤى بين مكونات الحركة المدنية نفسها، فضلًا عن تباينها مع المشروع الاقتصادي الذي تتبناه السلطة، وتعمل بمقتضاه طوال السنوات السبع الماضية.
لا شك أن المعارضة بكل أطيافها الفكرية والسياسية تمتلك مشروع حد أدنى وتوجهات أساسية يمكن التوافق عليها في كلٍ من المحور الاقتصادي والمحور المجتمعي، ولكنها تكاد تكون مجمعة على بنود الإصلاح السياسي.
ولا يمكن تجاهل أن السلطة استبقت الحوار الوطني بعقد مؤتمر اقتصادي ليس فيه أي حوار حقيقي بين الأفكار والمدارس المختلفة حول سبب وكيفية الخروج من الأزمات الاقتصادية والتعافي من الآثار السلبية للأزمات المحيطة والمعيقة للاقتصاد المصري.
**
الحوار الذي يتغافل الإصلاح السياسي هو على الحقيقة حوار منزوع الدسم، فضلًا عن كونه يُراد إجراؤه وسط ظروف جعلت الصحافة الحرة جريمة، والكلمة الحرة معاقب عليها بالحبس لسنوات تحت مسمى الحبس الاحتياطي الذي يطول في بعض الحالات إلى بضع سنين، بينما ينص القانون على حده الأقصى في سنتين لا يزيد عليها.
تكبيل حرية الصحافة والإعلام وفرض القيود عليهما وتحويلها جميعًا إلى أبواق للسلطة لا يفيد في إقامة حياة سياسية سليمة، ولا يفيد حتى النظام نفسه.
حتى الأجهزة التقليدية المملوكة للدولة والمدافعة عن سياستها وكل قرارتها تعاني من التضييق عليها، وتهميش دورها، والحيلولة دون خروجها من أزماتها المزمنة.
الصحافة تتنفس حرية، والإعلام يعيش على الابداع في أجواء صحية، ورغم ذلك فالحرية غائبة، والأجواء غائمة.
انظر من فضلك إلى حال الصحافة والإعلام تجدها غائبة عن مناقشة جادة للأمور الجادة التي تهم مستقبل وحاضر الوطن، وانغمست في توافه الأمور والجري وراء الإثارة على حساب مقومات المجتمع وقيمه، كل ذلك بسبب أنها محظور عليها الخوض في حديث السياسة ومطلوب منها التصفيق المستمر بدون توقف.
**
مصر بكل قواها الحية الوطنية والديمقراطية تتطلع إلى الخروج من كهوف الديكتاتورية، وتطمح إلى العودة من منافي الاستبداد، والدخول إلى براح التعددية والتنوع، وأول الطريق أن يتحول الحوار إلى الجدية التي تليق بمستقبل مصر.
الحوار الجاد هو الطريق الآمن للخروج من هنا، والتاريخ لن يرحم من يضيع الفرصة المتاحة اليوم، وقد لا تكون متاحة بالغد القريب.
طوال السنوات السبع الماضية كثيرًا ما تذكرت مقولة قرأتها على لسان أديبنا الكبير الأستاذ نجيب محفوظ الذي كان يرى أن المعارضة في أسوأ حالتها، أفضل ألف مرة من الاستبداد في أحسن أحواله، وأن أخطاء المعارضة -مهما عظمت- يمكن إصلاحها بالقضاء العادل النزيه، أما أخطاء الاستبداد مثل الهزائم، والديون والفساد وقهر الحريات، وكتم أصوات المعارضة، هي أخطاء لا أمل في إصلاحها، إلا مع زمنٍ طويل، وعناءٍ مرير، وتضحيات الشعب جيلا بعد جيل.