بينما شهد العام الماضي أكثر الأحداث دموية في الضفة الغربية منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية، قبل عقدين. يأمل المحللون أن يتجاوز عام 2023 موجة العنف الأخيرة، والتى اندلعت مع اقتحام نابلس في 22 فبراير/ شباط، وأظهرت هشاشة السلطة الفلسطينية، وفقدان قادة رام الله السيطرة على أجزاء من الضفة الغربية. وهذا أوجد حلقة مفرغة من عدم الاستقرار.
يأتى ذلك في وقت تواجه السلطة الفلسطينية وضعا هشا، يرجع جزء كبير منه إلى الإجراءات الإسرائيلية التي تقوض مصداقية السلطة الفلسطينية وفعاليتها، ويزيد تآكل شرعيتها.
في تحليله، يشير غيث العمري، زميل برنامج إيروين ليفي التابع لمعهد واشنطن حول العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إلى أنه إذا استمر هذا المشهد ، فقد تتعرض السلطة الفلسطينية لخطر الانهيار تمامًا.
يؤكد العمري الذي شغل مناصب عدّة داخل السلطة الفلسطينية، أنه في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى إيجاد طرق دبلوماسية، لاستعادة الهدوء وكبح السياسات التصعيدية من كلا الجانبين، ينبغي عليها أن تولي اهتمامًا أكبر للعوامل الفلسطينية المحلية، التي تساهم في مسار التصعيد.
اقرأ أيضا: بعد عباس.. التعويل على الخارج لتجنب الفوضى في فلسطين
عجز الشرعية
روج القادة الفلسطينيون لخطوة إنشاء السلطة الفلسطينية في عام 1994، كخطوة في عملية دبلوماسية من شأنها أن تتوج بإقامة دولة فلسطينية، لكن في السنوات الأخيرة، أدى انهيار الرهان على دبلوماسية سلام ذات مغزى، وتضاؤل احتمالات حل الدولتين، إلى حرمان السلطة الفلسطينية من سرد سياسي استباقي، ومحاولات إيجاد نهج بديل، مثل الحصول على عضوية الأمم المتحدة أو الانضمام إلى وكالاتها.
يقول غيث: ولدت السلطة في البداية مدفوعة بالمصلحة العامة الفلسطينية، ولكن الدعم الذي نالته تضاءل. وقد أدت سياسات إسرائيلية مختلفة -بعضها مدفوعة باعتبارات أمنية- إلى تسريع حالة الضعف.
اليوم، تجد السلطة الفلسطينية نفسها في موقف دفاعي سياسيًا. وعليها أن تشرح سبب وجودها، وسط شكوك عامة وهجمات متواصلة من قبل المعارضين. سواء من ينتقد أدائها في الداخل، أو حماس، وحتى الفصائل الإسرائيلية اليمينية المتطرفة.
يضيف: لقد عمق هذه المشكلات، السجل المؤسف للسلطة الفلسطينية في قضايا الحكم والاقتصاد
وفقًا لاستطلاع رأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، يعتبر حوالي 80% من الفلسطينيين السلطة الفلسطينية فاسدة. ويرى 60% أن أي من مؤسساتها الرئيسية لم تعد تتمتع بالشرعية الشعبية. ويرجع ذلك جزئيًا إلى عدم إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية منذ 2005 و2006 على التوالي.
كان رد قيادة السلطة الفلسطينية أن تصبح أكثر استبدادًا، كما يتضح من الاعتقالات الواسعة النطاق للمعارضين. بينما المحاولة الناجحة الوحيدة للإصلاح، التي قام بها رئيس الوزراء السابق سلام فياض قبل عقد من الزمن، تحت ضغط من الولايات المتحدة والمانحين الدوليين. تم تقويضها من خلال الجهود المشتركة لحماس وفتح -أكبر فصيل سياسي فلسطيني-.
تابع غيث: في الواقع، أصبحت حركة فتح التي كانت نابضة بالحياة -رغم أنها ليست ديمقراطية بأي حال- وتشبه الفصائل الحاكمة في أنظمة الحزب الواحد الأخرى. مدفوعة إلى حد كبير بالمحسوبية، وعاجزه عن تعزيز الانضباط بشكل فعال داخل المجتمعات الفلسطينية.
تلاشي السلطة
نتيجة لهذه الأفعال، تعرضت سيطرة السلطة الفلسطينية على أجزاء من الضفة الغربية لضعف شديد.
يلفت التحليل إلى أنه “في نابلس وجنين، لا يشعر النشطاء المحليون بأنهم مدينون لقيادة السلطة الفلسطينية، مما يفتح المجال لظهور جماعات مسلحة مثل عرين الأسود وعدة تحالفات خاصة”.
وأكد أنه “على الرغم من أن حماس لا تسيطر على هذه الجماعات، إلا أنها سعت بالتأكيد إلى تشجيعها، من خلال الدعم المالي والسياسي”. وفي الخليل، رغم أن موقف السلطة الفلسطينية ليس رديئًا، تستولي العشائر المحلية بشكل متزايد على قدر من السيطرة، لمجرد ضمان الاستقرار.
يقول غيث: تخلق هذه التطورات معضلة حادة للسلطة الفلسطينية. من ناحية، فإن السماح باستمرار التدهور الأمني من شأنه أن يقوض الاستقرار ويزيد من إضعاف سلطتها. من ناحية أخرى، فإن القيام بأعمال أمنية غير شعبية في هذه المناطق من شأنه أن يضعها في مواجهة، ليس فقط مع العناصر المسلحة، ولكن أيضًا مع مجمل السكان. كما أن الضعف السياسي للسلطة يجعل من الصعب الدفاع عن التعاون الأمني مع إسرائيل، الذي لا يحظى بشعبية ولكنه ضروري.
بالفعل، ظهر هذا الخطر في سبتمبر/ أيلول الماضي، عندما حاولت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية اعتقال مسلحين في نابلس. لكن قوبلت بحشود كبيرة معادية، وانسحبت في نهاية المطاف.
أيضا، هناك اعتبارات الخلافة التي تزيد من تعقيد عملية صنع القرار. في الوقت الذي يستعد فيه كبار قادة السلطة الفلسطينية ليحلوا في نهاية المطاف محل عباس -البالغ من العمر سبعة وثمانين عامًا- وهو لا يريد أي منهم أن يكون مرتبطًا باتخاذ تدابير أمنية ضد الفلسطينيين.
مع ذلك، أدت هذه الديناميكيات إلى حدوث شبه شلل في القمة، بينما تتلاشى القاعدة بسرعة.
اقرأ أيضا: “ما بعد عباس”.. التداعيات الاستراتيجية لرحيل الرئيس الفلسطيني عن الحكم
غارة نابلس
عندما داهمت القوات الإسرائيلية مدينة نابلس في 22 فبراير/ شباط، قُتل 11 فلسطينيًا وجُرح حوالي مائة، بمن فيهم مسلحون ومدنيون من المارة على حدٍ سواء.
كان توقيت الغارة سيئًا بشكل خاص. قبل يومين من ذلك، سحبت السلطة الفلسطينية مشروع قرار مقترح من مجلس الأمن الدولي يدين النشاط الاستيطاني الإسرائيلي، بدلا من ذلك أصدر المجلس بيانا غير ملزم. سحب مشروع القرار كان بمثابة تنازل قدمته السلطة، وسط ضغوط أمريكية، ومع انطباع بأن إسرائيل ستحد من توغلاتها في المدن الفلسطينية ومستوطناتها، والتوسع في الضفة الغربية.
انقلبت هذه الانطباعات بسرعة. أولا بسبب غارة نابلس، ثم في 23 فبراير/ شباط، عندما أعلنت حكومة بنيامين نتنياهو أن 7000 وحدة استيطانية جديدة قد تمت إزالتها.
يشير غيث إلى أنه “من غير الواضح ما إذا كانت هذه الوحدات كانت جزءًا من حل وسط، توسطت فيه واشنطن، لتجنب مواجهة في مجلس الأمن. لكن في نظر الجمهور الفلسطيني، أكدت الأخبار -ببساطة- على عجز السلطة الفلسطينية”.
في الوقت نفسه، ظهرت تقارير عن وجود قناة اتصال بين حسين الشيخ -الذراع اليمنى لعباس وأحد المتنافسين لخلافته- ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي، مما يخالف إعلان السلطة الفلسطينية الأخير عن تعليقها للتعاون الأمني.
وبينما سارعت رام الله للرد بشكل أساسي من خلال التهديد بالعودة إلى مجلس الأمن. دعت جماعة عرين الأسود الفلسطينيين إلى النزول إلى الشوارع. التظاهرات الناتجة لم تكن حاشدة، لكنها انتشرت في جميع أنحاء الضفة الغربية على الرغم من تنظيمها في منتصف الليل، مما يشير إلى درجة فقدان السلطة الفلسطينية وفتح السيطرة على الشارع.
الدور الأمريكي
يشير غيث إلى أن هذه التطورات لا تعني بالضرورة أن السلطة الفلسطينية على وشك الانهيار، حيث تستمر في أداء وظائف مهمة، مازالت أكبر رب عمل في الاقتصاد الفلسطيني، وتوفر خدمات أساسية مثل الصحة والتعليم.
لكن، مع ذلك “فقد تآكلت قدرة السلطة بشكل كبير على ممارسة السيطرة السياسية والأمنية، واتخاذ قرارات استراتيجية باسم الشعب الفلسطيني. في هذه البيئة، تحاول حماس والجماعات المسلحة المستقلة، وغيرها من الأطراف، ملء الفراغ”.
حتى الآن، ركزت جهود الولايات المتحدة لمعالجة الوضع على التوسط في التفاهمات الأمنية والدبلوماسية، الإسرائيلية- الفلسطينية. لتهدئة التوتر، واستنباط تدابير لإعادة السيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية في نابلس وجنين، واستكشاف سبل منع انفجار كبير خلال شهر رمضان، والذي سيتداخل مع عيد الفصح اليهودي.
هنا، يلفت غيث إلى أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن يحسب لها جهود العمل مع مصر والأردن لتحقيق هذه الأهداف. والتي بلغت ذروتها في اجتماع العقبة متعدد الأطراف في 26 فبراير/ شباط. لكن “هشاشة التفاهمات التي تحققت في ذلك الاجتماع تسلط الضوء على حاجة واشنطن للحفاظ على مشاركة مكثفة على هذا المسار”.
ومع ذلك، من المحتم أن يزداد الوضع سوءًا، ما لم تتعامل الولايات المتحدة أيضًا مع الدوافع الفلسطينية المحلية وراء تآكل شرعية السلطة الفلسطينية.
اقتراحات لإنقاذ السلطة
يؤكد غيث العمري وهو أيضا المدير التنفيذي السابق لفرقة العمل الأمريكية المعنية بفلسطين، أنه “لإنقاذ السلطة الفلسطينية كشريك فاعل، تحتاج واشنطن إلى إعادة ترتيب أولويات قضايا الحكم والإصلاح. وكذلك الضغط على رام الله لفتح مساحة سياسية في الضفة الغربية، وتوضيح عملية الخلافة.
وأشار إلى أنه “على الرغم من أن القضية الأخيرة حساسة للغاية، ومن المرجح أن تؤدي إلى تراجع. إلا أن الفشل في الضغط على عباس للسماح بمرشحين لخلافته قادرين على البقاء سوف يديم حالة الشلل”.
وعلى الرغم من أنه لا يمكن تحقيق أي من هذه الأهداف بدون قيادة الولايات المتحدة، فإن واشنطن ليست في وضع جيد للمشاركة بشكل مباشر في القضايا الداخلية الفلسطينية.
لذلك، ينصح غيث الإدارة الأمريكية بأنها يجب أن تعمل مع أصحاب المصلحة التقليديين، مصر والأردن، اللذين يتمتعان بنفوذ كبير داخل الدوائر السياسية والحكمية الفلسطينية، بالإضافة إلى شركاء أوروبيين مختلفين “مما يضمن ممارسة القدر الضروري من الضغط على السلطة الفلسطينية، مع تأمين الموارد اللازمة لتحقيق ذلك”.
وليكون المشروع قابل للتطبيق، وفق غيث، يجب أن تكون المملكة العربية السعودية جزءًا أساسيًا من هذه الاستراتيجية أيضا. نظرا لظهورها كمركز ثقل في الدبلوماسية العربية “ويجب على الولايات المتحدة التعامل مع الرياض مباشرة، للتأكد من أنها ستظل لاعباً مفيداً في هذا الجهد”.