مع تفاقم أزمة الطاقة في أوروبا، واعتمادا على مصالحها الجيوساسية مع دول البحر المتوسط وشمال إفريقيا، تسعى إيطاليا بحكومتها اليمينية الجديدة للتوسع في فرض تواجدها في القارة الإفريقية. ذلك من خلال بناء شراكات في التصنيع والطاقة، وضبط تدفق المهاجرين غير الشرعيين، بتحقيق قدر من الاستقرار السياسي في دول القرن الإفريقي بالدبلوماسية الاقتصادية والاستثمار الصناعي. في محاولة لقيادة المصالح الأوروبية في القارة السمراء.
ومنذ أيام، أكد وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني، في لقائه الأخير، مع المبعوث الأممي في ليبيا، عبد الله باثيلي، أن استقرار ليبيا يمثل أولوية للسياسة الخارجية الإيطالية. كما دعا جميع الفاعلين الليبيين، بما في ذلك قيادة مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، إلى تسهيل إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة من خلال اتفاق قابل للتنفيذ في إطار دستوري.
وشهدت الفترة الأخيرة زخمًا كبيرًا من جانب إيطاليا، سواء في الساحة الليبية والإفريقية بشكل أوسع. ويأتي ذلك بالتزامن مع تولي اليمينية جورجيا ميلوني رئاسة الحكومة الإيطالية، التي أكدت خلال برنامجها الانتخابي، حرصها استعادة الحضور في القارة الإفريقية والتزامها بمفهوم البحر المتوسط الواسع لاسيما الحدود الجنوبية لأوروبا.
وفى السياق، أطلقت إيطاليا في أغسطس/ آب الماضي، استراتيجية جديدة في منطقة البحر المتوسط “البحر الأبيض المتوسط الآمن”، من أجل تعزيز حضورها في جنوب أوروبا وشمال إفريقيا. وتتضمن توسيع الوجود العسكري في البحر المتوسط، وتوسيع نطاق العمليات إلى مليوني كيلومتر مربع.
وتنطلق إيطاليا بخطوات منتظمة في شمال إفريقيا ومنطقة القرن الإفريقي والساحل. حيث نشرت مجموعة عسكرية تتكون من 6 سفن وغواصات حربية. هذا غير تعزيز التعاون مع حلف شمال الأطلسي، بهدف حماية مصالحها، وعلى رأسها حقول النفط والغاز والدفاع عن خطوط الاتصال البحري.
طموح لقيادة أوروبا
تتنامى طموحات اليمين نحو استعادة أمجاد إيطاليا. حيث تعرضت روما لنكسات متتالية تتعلق بأزمة المالية العالمية ثم أزمة اليورو وتداعيات الهجرة غير النظامية. ما ترتب على ذلك من أزمات داخلية وعدم استقرار سياسي تمثل في تعاقب حكومات متتالية في فترة زمنية قصيرة.
وعلى الصعيد الخارجي، تراجع دور إيطاليا مع ارتفاع نجم فرنسا وألمانيا متضامنين داخل أوروبا، وفي عدد من ساحات إبراز النفوذ لاسيما إفريقيا.
ومع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وخروج المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وتراجع دور فرنسا الواضح في إفريقيا، وصعود الصين وروسيا على النقيض، تحاول إيطاليا توظيف تلك المتغيرات والترويج لدورها لقيادة الاتحاد الإوربي في إفريقيا.
ووفقا لهذا التصور، صرحت رئيسة الوزراء الإيطالي، جيورجيا ميلوني، إنه بإمكان إيطاليا أن تقود الدور الأوروبي في مكافحة التطرف وتعزيز التعاون والنمو بين الاتحاد الأوروبي والدول الإفريقية، أي إعادة صياغة سياسات الاتحاد الأوروبي وفقا لمقتضيات السياسة الخارجية الإيطالية.
مركز الطاقة بالقارة العجوز
في ظل أزمة الطاقة العالمية والأوروبية بشكل خاص، تستهدف إيطاليا تأمين إمدادات الطاقة من دول شمال إفريقيا، وكذلك تأمين طرق الغاز ضمن خطتها لتصبح مركز وجسر طاقة بين البحر الأبيض المتوسط وأوروبا.
وعقب توقيع اتفاق الطاقة الأخير مع حكومة عبد الحميد الدبيبة، أكدت رئيسة الوزراء ميلوني، أن اتفاقيات الغاز الموقعة مع ليبيا ستمكن بلادها من أن تصبح مركزًا لإمدادات الطاقة في أوروبا، وتندرج اتفاقيات الطاقة بشكل رئيسي في إطار خطة ماتي (خطة تعاون مع دول شمال إفريقيا)، التي تعمل إيطاليا على إحيائها مجددًا. حيث تستهدف الخطة استعادة الدور الاستراتيجي لإيطاليا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، عبر الاتفاقيات الاقتصادية والطاقة.
أزمة الهجرة
شهدت أوروبا ارتفاعًا بمعدلات الهجرة غير النظامية مع تسجيل ما يقرب من 200 ألف حالة عبور غير شرعية. وبزيادة قدرها 57٪ مقارنة بعام 2020 وزيادة بنسبة 38% مقارنة بعام 2019.
وزادت حالات الهجرة مدفوعة بعدم الاستقرار السياسي في الساحل الإفريقي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية في منطقة القرن الإفريقي، وضمنها حالتي إثيوبيا والصومال. وكذلك نطاق بحيرة تشاد.
عدم الاستقرار السياسي في ليبيا وانتشار الإرهاب والتطرف في مساحات مختلفة من القارة الإفريقية، وهي كلها عوامل تعمل مجتمعة على مضاعفة عبء الهجرة بالنسبة إلى إيطاليا، دفعت ميلوني لأن تضع مسألة الهجرة غير النظامية على رأس أولوياتها من خلال التواصل مع الدول الإفريقية.
كيف تحقق أهدافها؟
في إطار مساعٍ حثيثة نحو تنشيط العلاقات مع الدول الإفريقية، أجرت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، زيارة إلى الجزائر في 22 يناير/ كانون الثاني. ثم انطلقت نحو ليبيا. هذا إلى جانب زيارتها إلى مصر خلال قمة المناخ في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.
كذلك، استقبلت ميلوني، رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في فبراير/ شباط الجاري. كما استضافت الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود. وهي الزيارات التي أسفرت عن التنسيق بشأن تعزيز العلاقات بين الجانبين. كما عكست اهتمام إيطاليا بمنطقة القرن الإفريقي.
على المستوى الاقتصادي، تتركز أهداف إيطاليا في تفعيل “خطة ماتي” لصاحبها مؤسس شركة إيني للطاقة. ذلك من حيث الترويج لهدف أن تلعب إيطاليا دورًا مهمًا في مساعدة البلدان الإفريقية على النمو، من خلال سلسلة من المشاريع المشتركة لاسيما في مجال الطاقة، وكذلك مشاريع الطاقة النظيفة، أيضا الاستفادة من الأسواق الناشئة في إفريقيا ومواجهة تصاعد النفوذين الروسي والصيني.
ومن جانبها، كشفت ميلوني بالإشارة إلى خطة ماتّي، أن بلادها “في هذه المرحلة الأولى تركز بشكل كبير على منطقة البحر المتوسط، وبالتالي تصبح شمال إفريقيا أولوية مطلقة”.
تعتبر الوكالة الوطنية الإيطالية للمحروقات، المعروفة بمجموعة “إيني”، رأس حربة الاستراتيجية الإيطالية، باعتبارها المنتج الدولي الرئيسي للغاز في ليبيا، بحصة 80 % من الإنتاج الوطني.
تعمل الشركة في ليبيا منذ عام 1959 ولديها حاليًا محفظة كبيرة من الأصول في التنقيب والإنتاج والتطوير.
ووقعت ميلوني اتفاقية بقيمة 8 مليارات دولار لزيادة إنتاج ليبيا من الغاز. وتتضمن إنتاج الغاز بداية من عام 2026. ذلك من خلال منصتين رئيسيتين في مجمع مليته (منطقة في مدينة العجيلات). كما يتضمن المشروع إنشاء منشأة لاحتجاز ثاني أكسيد الكربون وتخزينه (CCS) في مليته. ما سيسمح بتخفيض كبير في البصمة الكربونية الإجمالية، بما يتماشى مع استراتيجية إيني لإزالة الكربون.
يقول د. يوسف الفارسي رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة درنة أن الغاز اليوم أصبح سلعة رئيسية مدفوعا باستمرار الحرب الروسية الأوكرانية. ومن هنا تهدف خطة روما أن تكون مورد الغاز الرئيسي إلى أوروبا في مطلع 2025.
ويرجع “الفارسي” الاهتمام الإيطالى بليبيا في هذا السياق، وهي حلقة أساسية في مشروع إيطاليا. والذي بموجبه سيتم إرسال الغاز من ليبيا ويتم استقباله في السواحل الإيطالية، وتتولى إيطاليا توزيع شحنات الغاز بين الاستهلاك المحلي، والتصدير إلى باقي دول أوروبا. أي أن اتفاقيات الغاز تشكل مدخلًا لا غنى عنه بالنسبة لإيطاليا لإعادة إطلاق نفسها كقوة أوروبية ذات تأثير.
ينوه الصحفي المختص في الشأن الليبي، عبد الهادي ربيع، أن ميلوني نجحت في استغلال الظرف السياسي في ليبيا ومغازلة عبد الحميد الدبيبة -رئيس الحكومة المنتهية ولايته- من خلال ورقة البقاء مقابل الغاز، واستطاعت زيادة حصة إيني من 30 الى 37% في ظرف ساعات.
كما يشير إلى أن الاتفاقية أغفلت المصالح الليبية. حيث لم تذكر الاتفاقية أي شيء بخصوص تزويد السوق المحلي الليبي. كما أنها لم تمر على جهات الاختصاص. وهو ما استنكره وزير النفط الليبي، حيث تحمل هذه السرية والسرعة إشارات باستغلال ثروات الشعب الليبي في تحقيق أهداف سياسية.
كما تم التوقيع على اتفاقية تقاسم إنتاج النفط والغاز في حقل بجنوب شرق الجزائر بقيمة 4 مليار دولار خلال زيارة ميلوني الأخيرة إلى الجزائر، مع الاتفاق على زيادة حجم صادرات الغاز الجزائري إلى إيطاليا لتبلغ 28 مليار متر مكعب سنويا في 2024.
والجدير بالذكر هنا، أن رئيس الوزراء الإيطالي السابق “ماريو دراجي” وقع اتفاق غاز مع الجزائر في يوليو/ تموز الماضي يتضمن تزويد إيطاليا بما يقدر بـ 4 مليارات دولار، كما وقعت شركة “إيني” مع “سوناطراك” و”أوكسيدنتال” و”توتال” عقدًا يسمح بتعزيز الاستثمارات في النفط والغاز لمدة 25 عامًا.
أدوات أمنية
تعتبر ليبيا محطة رئيسية في استراتيجية مكافحة الهجرة غير الشرعية، بالإشارة إلى أن 50% من المهاجرين يصلون إلى إيطاليا من ليبيا. وأكدت ميلوني رغبتها في تعزيز العلاقات مع السلطات الليبية لأجل وقف تدفقات الهجرة غير النظامية.
وتضمنت زيارة مليوني إلى ليبيا توقيع اتفاقية لتعزيز القدرات والتعاون مع السلطة الليبية فيما يتعلق بخفر السواحل، وتسليم 5 زوارق دورية بتمويل من الاتحاد الأوروبي. كذلك الاتفاق على تشكيل فريق عمل مشترك.
هذا إلى جانب دفع الجهود السياسية لضمان الاستقرار السياسي، وحث الاتحاد الأوروبي على تعزيز أدوات مكافحة التدفقات غير المشروعة، بالتوازي مع تفعيل أطر التعاون الأمني مع دول القرن الإفريقي.
وعلى جانب آخر، تسلم جيش النيجر طائرتي هليكوبتر من طراز AB 412 من إيطاليا في أكتوبر/ تشرين الأول العام الماضي، بهدف تعزيز القوات الجوية في النيجر ومكافحة الجرائم العابرة للحدود.