أعلن وزير المالية أن هناك ضغوطا على الموازنة لارتفاع الأسعار عالميا وتدهور السياحة وخروج 22 مليار دولار استثمارات أجنبية “أموال ساخنة”. خاصة بعد أن تغير سعر الصرف في مارس/آذار الماضي والذي أسهم في زيادة الدين بنحو 4%.
ويصنف خبراء الاقتصاد التدفقات المالية الدولارية التي تشهدها مصر منذ تعويم الجنيه في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على أنها “أموال ساخنة” دخلت عن طريق المستثمرين الأجانب. والتي خرجت سريعا من السوق المحلية. ليكون التساؤل هنا: “لماذا تخارج هذا الكم من الأموال الساخنة؟ وكيف تؤثر هذه التخارجات على الاقتصاد المحلي؟”.
“الأموال الساخنة”.. كيف تدخل السوق
الأموال الساخنة هي تدفقات مالية من خارج الدولة بغرض الاستثمار والاستفادة من وضع اقتصادي معين. مثل تدني سعر العملة المحلية مقابل الدولار أو ارتفاع الفائدة.
وتدخل الأموال الساخنة في صورة استثمارات في أذون الخزانة أو السندات. وهي أدوات تقوم الحكومة بالاقتراض من خلالها. أو في أسهم الشركات المدرجة بالبورصة للاستفادة من تدني سعر العملة المحلية مقابل الدولار أو ارتفاع الفائدة.
وحاليا يستفيد المستثمرون الأجانب من السعر المرتفع للدولار في مصر. لأنه يمكنهم من الاستثمار في تحقيق مكاسب كبيرة من شراء أدوات الدين التي تقترض الحكومة بها لسد العجز بين المصروفات والإيرادات.
فإذا كان سعر “السند” الذي تطرحه الحكومة بجنيه واحد مثالا فإن الدولار الواحد يشتري نحو 18 سندا. أما إذا انخفض الدولار إلى 17 جنيها فإن عدد السندات التي يشتريها الدولار الواحد ستنخفض.
لماذا خرجت الاستثمارات الساخنة من مصر؟
ويأتي خروج الأموال الساخنة من مصر في أعقاب ضغوط شهدتها مصر على عملتها المحلية ونقص في العملة الدولارية. وكذلك ارتفاع ديونها الخارجية إلى حدود 158 مليار دولار.
واتفق عدد من الخبراء على أن خروج هذه الأموال جاء نتيجة توجه الفيدرالي الأمريكي إلى رفع الفائدة لأعلى معدل منذ عقدين. وذلك في محاولة للسيطرة على معدلات التضخم التي بلغت ذروتها منذ 40 عامًا.
وقال بكر الديب -الخبير الاقتصادي- إن توجهات الفيدرالي الأمريكي بشأن الفائدة نتج عنها ارتفاع الدولار لأعلى مستوى له منذ 20 عامًا أمام جميع العملات الرئيسة. كذلك ارتفعت العوائد على السندات الأمريكية. ما أثر سلبًا على تدفقات رؤوس الأموال إلى الأسواق الناشئة “الأسواق الناشئة هي المتأثر الأكبر من سياسات أمريكا”.
وتابع أن سعر صرف الجنيه دخل في مرحلة جديدة مع الحرب الروسية الأوكرانية. والتي تسببت في خروج الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة لينخفض تدريجيًا حتى تخطى مستوى 19 جنيهًا. وهو مستوى لم يشهده خلال آخر 5 سنوات.
حرب أوكرانيا وخروج الاستثمارات من مصر
الحرب الروسية الأوكرانية ألقت بظلالها على أسواق عدة ومنها مصر. فتداعيات الحرب عززت خروج الأموال الساخنة إلى الأسواق الأكثر قوة.
الدرس المستفاد هنا هو أنه لا يمكنك الاعتماد على هذا النوع من الاستثمار “الأموال الساخنة”. إنه يأتي فقط للحصول على عوائد مرتفعة. وما إن تحدث صدمة فإنه يغادر البلاد.
وعلق فخري الفقي -الخبير الاقتصادي- بأن تراجع سعر صرف الجنيه أمام الدولار الفترة الماضية جاء نتيجة استمرار تبعات أزمة الحرب الروسية الأوكرانية. والتي أثرت سلبًا على الاقتصاد المصري. حيث أدت إلى ارتفاع تكلفة استيراد السلع الأساسية والوقود. وخروج الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة. مضيفًا أن مصر لم تشهد وحدها خروج الأموال الساخنة. إذ خرجت من كل الأسواق الناشئة. وذكر أن الحكومة المصرية تحاول التعامل مع هذه التداعيات لتخفيف حدتها.
تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية تسببت في ندرة النقد الأجنبي. ما تسبب في تخفيض سعر صرف الجنيه تدريجيًا. وهنا تحاول الحكومة المصرية منح مرونة في سعر الصرف لتتماشى مع متطلبات صندوق النقد للموافقة على منح مصر قرض جديد.
وصرح الدكتور مصطفى مدبولي -رئيس الوزراء- منتصف شهر مايو/أيار الماضي أن تقديرات تكلفة الحرب الروسية الأوكرانية على موازنة مصر بلغت 465 مليار جنيه (24.4 مليار دولار) مقسمة بين 130 مليار جنيه (6.8 مليار دولار) تكلفة مباشرة ونحو 335 مليار جنيه (17.6 مليار دولار) تكلفة غير مباشرة.
ورد الدكتور أحمد متولي -الخبير الاقتصادي- خروج الأموال الساخنة من مصر بشكل متكرر على فترات زمنية مختلفة لبحثها عن عوائد أكثر ارتفاعًا. لا سيما خلال الأزمات الاقتصادية العالمية. خاصة عند رفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة.
كيف تأثر الاقتصاد؟
وأدّى تخارج استثمارات الأجانب من أدوات الدين المصرية لتكبيد ميزان مدفوعات البلاد عجزاً بنحو 7.3 مليار دولار خلال الشهور التسعة الأولى من السنة المالية 2021-2022 بحسب بيان للبنك المركزي المصري.
وأكد بكر الديب أنه في ظل هذه الظروف من غير المتوقع أن تستعيد الأسواق الناشئة جزءًا من قوتها أو زخمها. ومن المتوقع أن يكون حجم السيولة الدولارية منخفضا لفترة طويلة.
كما توقع تراجع حجم التدفقات الأجنبية “الأموال الساخنة” لأصول الأسواق الناشئة. وهو ما يضع الأصول المقومة بالعملات المحلية في الأسواق الناشئة تحت ضغط “تخارج الأموال الساخنة هيأثر بشكل كبير على السيولة الدولارية في السوق”. لذا تعمل الحكومة جاهدة على تبني بعض السياسات الاقتصادية التي تعوض تلك الأموال. ومنها تعزيز مصادر الدخل الأجنبي سواء عبر قناة السويس أو السياحة وتحويلات المصريين بالخارج.
وشدد على أن خروج “الأموال الساخنة” من مصر مثل ضغطًا متزايدًا على العملة المحلية. لكن في الوقت ذاته مثل الأمر حجر الزاوية الذي سعت الدولة من خلاله للتركيز على الاستثمارات الأجنبية المباشرة طويلة الأجل.
خطورة على المؤشرات الاقتصادية
الخبير الاقتصادي محمود حمد يقول إن مصطلح “الأموال الساخنة” أطلق على تلك الأموال لأنها سريعة الخروج من السوق في حالة حدوث أي اضطراب في البلاد. أو تأثر الاقتصاد المحلي بأي أحداث خارجية. ما يؤدي إلى عدم استقرار بالسوق.
الأموال الساخنة استثمارات سريعة الخروج ولا يمكنك تقييم الأوضاع الاقتصادية في أي بلد بناء على تدفقات الأموال الساخنة لأنها لا تعبر عن نمو اقتصادي حقيقي.
وأشار إلى عدم إمكانية تقدير سعر الجنيه حاليا أمام الدولار في ظل “الأموال الساخنة”. لأنه لن يعكس الحقيقة بالسوق. وبالتالي يؤثر تخارج تلك “الأموال الساخنة” في مؤشرات الدولة الاقتصادية.
سيولة قصيرة الأجل
واصل أن الأموال الساخنة ليست سيئة في العموم. لأنها تعتبر في بعض الأوقات وسيلة لجذب العملة الصعبة للبلاد وتحقيق سيولة نقدية في الأجل القصير.
وفي حالة مصر فإن هذه الأموال أسهمت في حل مشكلة نقص العملة الصعبة وكبح السوق السوداء -لفترة ما- وكذلك استقرار سعر الصرف خلال الفترة التي تلت تعويم الجنيه فقط.
وتابع أن الأموال الساخنة لديها القدرة على إحداث رواج للأسهم في البورصة -خلال فترة وجودها بالسوق فقط- وذلك مع إقبال الأجانب على الشراء للاستفادة من رخص أسعارها بالعملة المحلية.
الاستثمار المباشر وقرض صندوق النقد
ونتيجة لتأثير الاقتصاد المحلي بتخارج تلك الأموال دعا خبراء اقتصاد الحكومة إلى تعزيز الاستثمارات الأجنبية المباشرة. فضلا عن عدم الاعتماد على المستثمرين الأجانب في سوق أدوات الدين الحكومية “أذون وسندات خزانة” -الأموال الساخنة- لتمويل الموازنة العامة للدولة. لا سيما عقب خروج نحو 22 مليار دولار من السوق عندما بدأت الحرب الروسية الأوكرانية وبدء الولايات المتحدة زيادة معدلات الفائدة.
وتوقع فخري الفقي أن يستقر سعر صرف الجنيه ويتم توفير سيولة من النقد الأجنبي للمستوردين عقب سد الفجوة التمويلية بالحصول على قرض من صندوق النقد إضافة إلى المساعدات الخليجية.
وأشار إلى أن البنك المركزي حاول تحجيم الاستيراد للحفاظ على السيولة من النقد الأجنبي عبر اشتراط إصدار الاعتمادات المستندية بدلًا من مستندات التحصيل. وذلك لوقف استيراد بعض السلع غير الضرورية في حين سمح بتوفير النقد الأجنبي لاستيراد الحبوب والأدوية وكذلك مستلزمات الإنتاج.
المساندة العربية
وتطرق الدكتور خالد الشافعي -رئيس مركز العاصمة للدراسات والأبحاث الاقتصادية- إلى أن الدولة باتت مطالبة بحلول اقتصادية سريعة العائد لتوفير ما يوازي حجم الأموال الساخنة التي خرجت من السوق مؤخرًا.
ولفت في مداخلة مع برنامج “صباح البلد” المذاع على قناة “صدى البلد” إلى دعم بعض الحكومات والشركات العربية مع الدولة المصرية وضخ مزيد من الاستثمارات العربية خلال الفترة الماضية.
وتابع أن تلك الاستثمارات العربية أسهمت في تقليص حجم التأثر بخروج 22 مليار دولار من السوق. ومن ثم ستكون هناك إمكانية لتعويض باقي الأموال الدولارية التي خرجت من السوق.
ولفت أحمد متولي -الخبير الاقتصادي- إلى أن الاستثمارات العربية تلعب دورًا في دعم قدرة السوق على تحمل تداعيات الأزمات الاقتصادية العالمية. كذلك تعويض جزء من تخارج الاستثمارات الأجنبية من السوق.
وقال: “الاتفاق مع صندوق النقد والاستثمارات الخليجية من شأنهما توفير سيولة دولارية سيكون لها القدرة على جذب مزيد من المستثمرين في الأذون والسندات وحماية السوق من الأموال المؤقتة”.