تمر لبنان بأزمة اقتصادية طاحنة. دفعت بنحو نصف اللبنانيين تحت خط الفقر. مشاهد يومية تتكرر لجلب بعضا من الحليب أو الحصول على البنزين أو البحث عن دواء.
“سعر الدولار ارتفع إلى 18 ألف ليرة. صيرنا بوضع كتير سئ. صيدليات مسكرة ما في أدوية. تعبئة تنك البنزين بـ 70 ألف. الشعب جاع. والمعاشات ما لها قيمة. ما بقا في مصاري. كل المحلات مسكرة”، تقول صبا فتاة لبنانية.
أزمات عدة تضافرت لتهدد الحقوق الأساسية للسكان. في 2020 شهدت لبنان انفجار ضخم في مرفأ بيروت. وانهيار اقتصادي. واضطراب سياسي متزايد. وتفشي فيروس “كورونا” الذي فاقم الفقر والصعوبات الاقتصادية.
ووفقا لتقرير منظمة هيومن رايتس، خسرت الليرة اللبنانية 80% من قيمتها منذ أكتوبر 2019. ما أضعف قدرة الناس على الحصول على السلع الأساسية مثل الطعام والمسكن والرعاية الصحية.
وفي محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، حذر رئيس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية حسان دياب من أن بلده في “قلب خطر شديد”. في الوقت الذي يكافح فيه للتعامل مع أزمة اقتصادية حادة. مناشدا الدول الصديقة العمل على إنقاذ لبنان قبل فوات الأوان.
الغضب نتيجة الأزمة
صبا فتاة لبنانية. تتحدث بغضب عن كل ما يدور حولها. بعدما وجدت بأن راتبها لا يفي أغراضها.
ازداد الوضع سوءاً. وبات الحديث الاقتصادي المتأزم وتداول الأخبار بحثا عن انفراجة هنا أو هناك. هو محور حديث اللبنانيين في جلساتهم.
قيمة معاشي كانت 2400 دولار والأن أصبح أقل من 200 دولار”، تروي ميساء المعلمة المتقاعدة، عن الوضع الذي باتت تعيشه حاليا في ظل الأزمة.
مع تدني قيمة الليرة اللبنانية، ارتفعت أسعار السلع الأساسية بصورة سريعة. مقوضة قدرة الأشخاص على تحمل تكاليف الطعام. والمأوى، والرعاية الصحية. حتى أصابت الأزمة الحالية لبنان بالأعياء.
“نمط الحياة تغير ما بقينا عايشين مثل قبل حتى مصروف المنزل المعاش ما بقى يكفي حتى بند الطعام”، تقول المعلمة التي تحاول أن تقلل نفقات الطعام بعد ارتفاع سعر كيلوا العدس لـ 20 ألف ليره، ولتر الزيت لـ 33 ألف ليرة.
تعيش ميساء حاليا بدون ثلاجة، بعدما فشلت في تصليحها بعدما تعطلت عن العمل بسبب التكلفة. تقول: “بالسنة الماضية خرب عندي البراد. وقتها كان الدولار بـ 9 آلاف ليرة. ودفعت مليون و350 ألف ليره. وحاليا لا أدري كم ستتكلف”.
أما بالنسبة لفاتورة الكهرباء. فعلىت ميساء أن تدفع مليون ليرة الشهر الجاري، بعد ارتفاع سعر الأمبير إلى 100 ألف ليره، وتقول: “استهلكت هذا الشهر 10 أمبير”.
سوء تغذية واختفاء الحليب
أسرة بسيطة فقدت طفلة رضيعة لا يتجاوز عمرها الـ 9 أشهر في منطقة المنيا في لبنان بسبب اختفاء الحليب المدعوم. حالولت الأم إنقاذ رضيعتها باستخدام بدائل للحليب. بإمدادها بمشروبات أخرى.
مرضت الطفلة وتم تحويلها إلى المستشفى لمحاولة إسعافها. ولكن بعد 4 ساعات فقدت الرضيعة حياتها. وجاء السبب كما دون على تقرير الوفاة “سوء تغذية”.
فتقول ميساء:”الأطفال بيموتوا لقلة الحليب.. احنا بلد منكوب”.
مرضت الطفلة وتم تحويلها إلى المستشفى لمحاولة إسعافها. ولكن بعد 4 ساعات فقدت الرضيعة حياتها. وجاء السبب كما دون على تقرير الوفاة “سوء تغذية”.
تروى ميساء أن التجار امتنعوا عن توفير البضائع بهدف رفع سعرها، مثلا رب أسرتها اكتشف على أحد أرفف أحد المتاجر وجود الحليب المدعوم بسعر 37 ألف ليره في 3 يوليو الجاري. ولكن سرعان ما تلاشت فرحة الأب بعد محاولة محاسب المتجر بإخباره بأنه من حقه الحصول على علبة واحده فقط بعدما سألته من أين أتيت بتلك العبوة. وأخبرته سيدة أخرى بأنها ستشتري له الأخرى على فاتورتها. ولكنهم بعد بعض دقائق اكتشفا بأن الحليب الذي كان يفترش الرف غير متواجد.
وتعود ميساء لتوضيح الأمر: “التجار يرغبون في رفع سعر الحليب إلى 300 ألف ليرة بدلا من 37 ألف ليره”.
تحذيرات البنك الدولي
قبل شهر مضى حذر البنك الدولي، من أن لبنان غارق في انهيار اقتصادي قد يضعه ضمن أسوأ عشر أزمات عالمية منذ منتصف القرن الـ19، في غياب لأي أفق حل يخرجه من واقع مترد يفاقمه شلل سياسي، بحسب منظمة هيومن رايتس.
يقول صائب كيالي، مواطن لبناني، إن الشعب اللبناني كان يعلم بوجود أزمة اقتصادية بداية من 2017 لكن لم يكن أحد كان يعرف شكلها أو ميعادها بالتحديد: ” ماحدث كان متوقعا سرعة الانهيار وحجمه”.
يرى صائب أن الانهيار بدأ بعد المظاهرات التي اندلعت في 2019 رفضا لإقرار ضريبة على تطبيق “الواتساب”. ليتضح للشعب اللبناني عدم توفر العملة الأجنبية “الدولار”. مشيرا إلى أن الاقتصاد يعتمد على العملة بهدف تثبيت سعر الصرف وذلك “شئ كارثي”. مضيفا “الشعب كان يعيش في كذبة بأن البلد بخير”.
وفي تقرير لهيومن رايتس أرجعت فيه أسباب تراجع العملة الأجنبية. إلى أن البنك المركزي ربط الليرة اللبنانية بالدولار على سعر 1507.5 ليرة لبنانية منذ 1997.
تباطوء النمو الاقتصادي
وخلال السنوات العشر الأخيرة. وفي ظل تباطؤ النمو الاقتصادي. وانحسار التحويلات من الاغتراب اللبناني. نقصت كمية الدولارات المتداولة. ومع تقلص الثقة باستقرار الليرة اللبنانية في 2019. والمخاوف حول استقرار القطاع المصرفي. عمد المودعون إلى سحب الأموال من حساباتهم بالدولار. ما أدى إلى انقطاع الدولار من السوق حتى وصل السعر غير الرسمي إلى 8 آلاف ليرة في سبتمبر2019.
“مع ازدياد الطلب على الدولار، انهارت الليرة. وبعد ما كان الدولار يعادل 1500 ليرة. صار يعادل 17500 ليرة.. وبالتالي كل شئ زاد سعره لأضعاف” يقول كيالي.
الأجور بين الانعدام والتقلص
وبتناول أزمة الأجور التي لم يتم تعديلها بعد انخفاض قيمتها واستمرت كما هي. قائلا “أغلب الشعب اللبناني يقبض بالليرة والحد الأدنى هو 900 ألف ليرة وهذا يعادل ٤٠ دولار تقريبا بعد ما كان يساوي ٦٠٠ دولار”.
ما جعل أصحاب بعض الأعمال يلجأون إلى تسريح العمالة لديهم لعدم قدرتهم على دفع الرواتب.
“الحمدلله إن لسه في مصاري بين أيدي عم يصلني معاشي، كيف حال من وقف عمله بتلك الأزمة وسكرت كل الموارد”. تقول ميساء.
“علي كركي” شاب ترك عمله في أحد البنوك بعد فترة عمل تجاوزت الـ 10 سنوات. بعدما وجد نفسه يتقاضى 160 دولار أمام قدرة شرائية متراجعة بشكل مريب ومؤذي له. يقول:”صارت مش جيبا هممها”.
يوضع كركي لـ” مصر 360″، أن المواصلات ارتفعت لأربع أضعاف. ووصل لتر البنزين إلى 3500 ليرة. وأبسط الأدوية غير متواجده حتى بالسوق السوداء.
كان يحصل كركي على راتب 280 ألف ليرة أي ما يعادل 160 دولار. في مواجهة تكلفة طعام 60 ألف للشخص، واشتراك الكهرباء يتراوح من 500 لـ 800 ألف في الشهر. حيث يلجأ اللبنانيون إلى الشركات الخاصة للكهرباء بدلا عن الحكومة والتي لا تنير منزلهم أكثر من 3 ساعات على مدار الـ 24 ساعة.
كما تقلص راتب والد “صائب” إلى النصف حيث كان راتبه 2 مليون ليرة ما يعادل 1350 دولار ليتحصل بعد الأزمة على راتب مليون ليرة أى 50 دولار تقريبا.
انقطاع مستمر للكهرباء
على مدار اليوم تحاول ميساء المعلمة المتقاعدة مع زملائها محاولة مساعدة الجيران الذين تدهور بهم الحال. فهذا خالد انتقل إلى منطقة التي تقطنها ميساء مستجرا لمنزل يبلغ إيجاره 500 ألف ليرة ولديه من الأطفال 6.
تقول ميساء: قديما كنا نستطيع مساعدة الآخرين. ولكن حاليا لا نقدر بالكاد نكفي قوت اليوم. حال ميساء كزملائها التي حاولت أحدهم لتسجيل اسمه في أحد المتاجر للحصول على حليب مدعوم لطفله الصغير.
تعيش تلك الأسرة في وضع بائس نظرا لانقطاع الكهرباء المتكرر. لم تسطع الاشتراك في كهرباء القطاع الخاص، وتقول ميساء:” قضوا رمضان على ضوء الشموع”.
قبل ظهور خطر فيروس كورونا بأشهر. توقع “البنك الدولي” أن ترتفع نسبة اللبنانيين تحت خط الفقر من 30% إلى 50% في 2020.؟ يقدر بعض الاقتصاديين اللبنانيين أن هذا الرقم قد ارتفع أكثر من ذلك.
في مايو2020. بدأت الحكومة اللبنانية مفاوضات رسمية مع “صندوق النقد الدولي” لمناقشة خطة إنقاذ اقتصادية. وطلبت مساعدات بقيمة 10 مليارات دولار تقريبا. غير أن المفاوضات توقفت عندما اختلف السياسيون على تقدير حجم خسائر البلد المالية، وفقا لهيومن رايتس واتش.
الدواء غير متواجد والصيدليات مغلقة
حتى طالت الأزمة الدواء. ويروي الصيدلي حسن جمعة عن بدء أزمة الدواء من صيف ٢٠٢٠. قائلا أن أسعار الدواء تتراوح من ٥٠٠٠ ليرة لبنانية حتى ٣٥ الف ليرة.
تتماشى تلك الأسعار مع الشعب اللبناني التي يراها “مقبولة”. ولكن تتمثل الأزمة في عدم توفرها. وهو الحال الذي جعل الصيدليات تقفل أبوابها في وجه زبائنها.
وعن غلق الصيدليات يقول جمعة:أغلبها بدأ بسياسة تقنين الدواء. البيع بالظرف وليس بالعلبة أو عدم البيع لغير زبائن الصيدلية أو عدم البيع إلا لحاملي وصفة طبية.
ما بين الغلق وتقليل ساعات العمل أصبح حال الصيدليات. التي لم تجد بديلا عن تقليل النفقات. خاصة بعد ارتفاع كلفة التشغيل بعد هبوط الليرة، فيقول جمعة:” ربح الصيدلي محسوب على أساس سعر الدولار يعادل ١٥٠٠ ليرة. بينما الدولار بالسوق السودا اليوم بـ ١٧٥٠٠ ليرة”.
وأشار جمعة إلى أن ربح الصيدلية يحسب طبقا للسعر الرسمي. وأثر ذلك على خسارة الصيدليات لرأسمالها. والربح أصبح “شبه معدوم”. بجانب أن الأقفال أيام الآحاد وفي الأعياد جعل بعض الصيدليات تتوقف عن العمل بشكل نهائي.
من الدواء إلى الفوط الصحية
“ما المفروض نكون عم نعاني لنطالب بموضوع بديهي متل الفوط”، “العلبة كان حقها ٣٥٠٠ ليرة، هلق صارت ٣٨،٠٠٠ ليره”.
تشتكي جنى فتاة لبنانية من ارتفاع أسعار الفوط الصحية التي تضاعفت بنسبة 500%. ما جعلها تلجأ للحلول القديمة من استخدام قطع القماش.
طالت الأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار في لبنان سلعا أساسية من بينها الفوط الصحية.
تقول جنى:” أصبحت ألجا للقماش في المنزل واضطر إلى شراء عبوة واحدة لتظل معي فترة قد تتجاوز الشهرين لأني لن استطيع شرائها شهريا”.
تأتي الفوط الصحية من الأساسيات كالغذاء والماء للفتيات. فتشير جنى إلى الأخطار اللاحقة لتلك البدائل البدائية. من الأمراض وعدم القدرة على ممارسة الحياة بشكل طبيعي.
لم يعد هناك سلعة لم تتأثر بالأزمة الاقتصادية اللبنانية. ولم يعد أمام اللبنانيين سوى رفع شعار أنقذوا لبنان بعد أن فقدوا الأمل في النخبة الحاكمة التي تسببت خلافاتهم السياسية في ما يعيشه المواطن اللبناني الأن.