يراهن كثير من الساسة والاقتصاديين حاليًا على فقدان الصين مكانتها كـ”مصنع البشرية” بعد تضرر الاقتصاد العالمي من انقطاع صادراتها في خضم انتشار “كورونا”، وأن يتبني العالم سياسة جديدة لتوزيع البيض في سلات متعددة وليس سلة واحدة، وتأسيس مراكز صناعية بأكثر من دولة، ليصبح عالم ما بعد كورونا شبيهًا بتاجر يشتري بضاعته من أماكن متعددة، ولا يخشى تعرض أي منها للإغلاق، طالما يوجد بدائل أخري.

sss

تواجه الصين حاليًا مع تغير الحكومات الأجنبية وجهة نظرها الاقتصادية بشكل كامل في عصر ما بعد “كورونا”، بعدما اكتشفت مخاطر الاعتماد على بكين فقط في توفير احتياجاتها، خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية التي اكتشفت أثناء مواجهتها الوباء أن الاحتياطي من الاقنعة والمضادات الحيوية التي تعتمد على مصانع صينية في إنتاجها غير كافٍ على الإطلاق، ولا يمكن تعزيزه بعد إغلاق الحدود بين الدول.

وتعتمد الشركات الأمريكية على الصين في إنتاج نحو 95% من المضادات الحيوية التي تبيعها في العالم كله، و50% من كمامات “إن 95” التي يعتمد عليها العاملون بالقطاع الصحي، ومع اندلاع الأزمة لم يتضمن مخزون أمريكا من الإمدادات الطبية إلا 5 فقط من الأقنعة وأجهزة التنفس، وكان يتعين تعويض الباقي من الواردات من الصين أو زيادة التصنيع المحلي بسرعة.

اقرأ أيضًا:

“الصينوفوبيا”.. كيف أدى كورونا إلى تفشي “رُهاب الصين”؟

تجد الشركات الأجنبية العاملة في الصين ضغوطا من حكوماتها حاليًا للانتقال، خاصة أمريكا التي أعادت استفادة بكين أكثر من أمريكا من الاستثمار المشترك، وتدخل مجلس الشيوخ الأمريكي، الذي يسيطر عليه الجمهوريون أو حزب الرئيس دونالد ترامب في الأزمة، واعتبر أن الاعتماد على بكين في التصنيع أصبح يمثل خطًرا على الأمن القومي ويتطلب التدخل.

تفيد التقارير الصحفية العربية حاليًا عن تعاون بين أوروبا وأمريكا واليابان لإعادة إنشاء سلاسل صناعية عالمية عبر الشركات متعددة الجنسيات المملوكة لها عبر نموذج “الصين +” (أو الصين بالإضافة لدول أخرى)ـ والذي سيعطي إشارات سلبية حول السوق الصينية، ويدفع المستثمرون الأجانب الآخرين إلى اتخاذ حذوها، وتخفيف استثماراهم داخلها.

تخشى الدول الغربية من توقعات متشائمة لعلماء مرموقين حول ظهور “عصور الأوبئة” التي تتطلب حيطة وحذر باستمرار ووجود إمدادات جاهزة في أي وقت للتعاطي معها، كما وجدت الفرصة سانحة أيضًا في تحجيم نفوذ الصين على المستوى العالمي وصعودها كقوة مؤشرة تتنافس على قيادة العالم على المستويين السياسي والعسكري.

ويعزز من موقف المستثمرين الأجانب توقعاتهم بأن تفقد الصين جاذبيتها الاستثمارية على المدى المتوسط، فأجور العمالة التي ظلت متدنية للغاية آخذة في الارتفاع، والمستهلكون في العالم حتى أشد البلدان فقرًا أصبحوا أكثر قدرة على التمييز في الشراء وبدأوا يتطلعون إلى سلع ذات عمر أطول، ما يجعل دول أخرى مرشحة لدخول حيز الاهتمام العالمي مثل فيتنام والفلبين وتايلاند وماليزيا وأندونيسيا.

وووجدت سياسة إدارة ترامب الساعية لعودة الصناعات التحويلية عبر وضع سياسات ضريبية ومالية تتضمن تخفيض الضرائب على الشركات لمستوى 20%، رافعاً شعاراً براقًا عن انتهاء عصر الاستسلام الاقتصادي للصين وعودة الصناعة الأمريكية.

وأعدت الهند هي الأخرى خطة إغراء لمستثمريها في الصين بمجال الإلكترونيات والأجهزة الطبية للعودة إليها أو توسيع أنشطتهم بين أسواق مختلفة، وخصصت طوكيو 2,2 مليار دولار لمساعدة شركاتها على نقل عمليات التصنيع من الصين لتكون الصناعات “الأكثر تعقيدًا” داخل اليابان والأقل في جنوب شرق آسيا.

وتبدو الهند مرشحة بقوة لجذب الاستثمارات الأجنبية، فالعمالة لديها فقيرة وعملتها شديدة الضعف، وأجرت أخيرًا تعديلات على بنية الاستثمار لجعها أكثر جاذبية للاستثمار الأجنبي الذي ارتفع خلال العام الأخير بنحو 6%، كما توجد المكسيك التي وقعت اتفاقية تجارة حرة مع أمريكا وأصبحت على بؤرة اهتمام واشنطن خاصة مع قرب حركة الشحن بين البلدين، لكنها تعاني من مشكلة وحيدة هي غياب الأمن.

اقرأ أيضًا:

المكسيك بديلًا.. كورونا يشعل الحرب التجارية بين أمريكا والصين

كما تظهر في الصورة ماليزيا التي تتسم بنظام مالي مرن وسلس، حيث يسهل نقل الأموال داخل وخارج البلد، وبعدها عن الأزمات الدولية وسهولة إجراءات الاستثمار والتقدم التكنولوجي الكبير والعمالة مرتفعة الأجر نسبيا لكنها شديدة التدريب والكفاءة، علاوة على تجارب على ما يزيد عن 5000 شركة أجنبية تعود ملكيتها إلى أشخاص أو هيئات تمارس عملها دون أي تدخل من الدولة في نشاطها.

لكن لا تزال الصين، التي تنتج ربع السلع المصنعة عالميًا، تمتلك مزايا في مقدمتها قدرتها على الإنتاج بجودة عالية تتناسب قيمة السلعة، على عكس كثير من المنافسين لها الذين يعانون من إشكاليات التشطيب النهائي على مستوى الشكل أو عيوب الصناعة الطفيفة التي تضيع معها قيمة السلعة، كدولة مثل “كمبوديا” التي يتم رفض 40% من إنتاجها بسبب الجودة السيئة.

تربط الشركات العالمية استثماراتها في الصين بالنفعية الشديدة، فشركة مثل “باربي” العالمية المتخصصة في صناعة عرائس الدمى البلاستيكية، تعتمد على مصانع صينية في إنتاجها بشكل كامل، وتحصل على العائد الأكبر من البيع بنسبة 80% باعتبارها صاحب العلامة التجارية والباقي يتوزع بين المصانع والدولة الصينية والنقل، وحال وجود نفس المؤهلات في دولة أخرى فلن تتردد في سحب استثماراتها فورًا.

يؤمن الدكتور فخري الفقي، مستشار صندوق النقد السابق، بتلك النظرية، فيرى أن الصين لن تحتكر دور مصنع العالم بعد الآن وستتحول إلى شريك في التصنيع، مع دخول دول أخرى لساحة المنافسة مثل الهند والمكسيك والبرازيل وفي الشرق الأوسط ستحصل مصر وتونس والمغرب على جزء من نلك الاستثمارات.

ويضيف الفقي، في تصريحات خاصة، أن دول العالم الكبرى لن تترك حلقات التصنيع العالمية في يد دولة واحدة بعد الآن، فكورونا أثبتت ضرورة أن يكون التصنيع في أماكن مختلفة تجنبا للأزمات القارية وليس على مستوى الدولة الواحدة فقط، ما يخدم الدول النامية في الحصول على كمية أكبر من الاستثمار الأجنبي المباشر.