قررت مجموعة أوبك+ -التي تضم دول الخليج وروسيا- خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميًا للحفاظ على الأسعار مرتفعة. وسط مخاوف من حدوث ركود.
وأثار القرار رد فعل قويًا من الولايات المتحدة -خاصة أنه جاء بعد زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للسعودية هذا الصيف. في محاولة لإصلاح العلاقات مع الخليج وتأمين الطاقة بجانب ملفات شرق أوسطية أخرى. بينها العلاقة مع إسرائيل وقضايا الأمن والإرهاب.
وينظر إلى القرار باعتباره تحديا من جانب دول الخليج لأمريكا من ناحية واصطفافا مع روسيا في صراعها مع أوروبا في مشهد الحرب الأوكرانية.
سياقات ودلالات القرار
يأتي القرار في سياقين مترابطين. أولا سياسة دول الخليج وعلاقتها مع الولايات المتحدة. وثانيا التنافس الروسي الأمريكي. كما تحيط بالقرار تحديات عديدة تواجه الولايات المتحدة ودول أوروبا. فيما يتعلق بتأمين النفط خاصة في ظل الحرب الروسية الأوكرانية. ما يضع الأزمة على طريق الاشتعال.
ويتزامن القرار مع انتخابات التجديد النصف بالكونجرس الأمريكي والوضع الحرج للديمقراطيين. ما يهدد بقاءهم في الحكم إذا لم يستطيعوا حل أزمة الوقود. فضلا عن النظر للقرار بوصفه تغيرا في الجغرافيا السياسية. إذ يبني تكتلا مدفوعا بقوة النفط في مجابهة واشنطن ودول أوروبا.
وحسب مراقبين فإن قرار أوبك+ خفض الإنتاج يعد انحيازًا لروسيا على حساب الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في المواجهة التي تتم بين الجانبين على أرض أوكرانيا.
معركة ما قبل قرار أوبك+
تعددت الأصوات التي تطالب واشنطن بالانسحاب العسكري الأمريكي من الخليج ما دام دوله تظهر انحيازا لجانب روسيا. وإذا حدث ذلك سيبقى الخليج في مواجهة طهران. التي أظهرت منذ 2019 نية لتوسيع الهجمات ضد المنشآت النفطية السعودية. غير استهداف الإمارات. ويبدو أن أمريكا لم تهتم بصد بعض عمليات الهجوم. سواء بالمعلومات الاستخباراتية أو غيرها من الطرق. الأمر الذي يمكن أن يفسر بأنه رسالة مقصودة للخليج.
وتشعل الحرب الأوكرانية الروسية حروبا أخرى فى مجال الطاقة. لذا كان على أوروبا البحث عن بدائل وتحمل تكلفة قرار الحظر المرحلي على النفط الروسي. الذى زود أوروبا سابقا بنحو 27 بالمائة من النفط المستورد للقارة. و 40 في المائة من غازها. وهو ما يعني أن أوروبا في أسر الطاقة الروسية.
أزمة الطاقة وتعديل السياسات الأمريكية
وقبل قرار أوبك+ سعت واشنطن لحل أزمة الطاقة حتى ولو أتى ذلك بتغيرات فى سياساتها الخارجية. وجاء بين جهودها في ذلك استعدادها لرفع بعض العقوبات النفطية عن فنزويلا. ما يسهم في تخفيف أسعار النفط عبر السماح للخام الفنزويلي بدخول الأسواق العالمية. بشرط إقرارات ديمقراطية تتخذها كراكاس. أما الإجراء الثاني يرتبط بالتبعية بتحسين العلاقة مع إيران حليف فنزويلا.
ويمكن لطهران أن تضخ بمقدار 1 إلى 1.5 مليون برميل يوميًا. وربما تتحرك في هذا الاتجاه. بينما تقول إدارة بايدن إن أزمة الطاقة العالمية لا تؤثر في تعاملها مع الملف النووي الإيراني. لكن يبقى ضخ النفط في الأسواق العالمية اليوم ذا أهمية بالغة.
وسبق وأشار سايمون هندرسون في تحليل نشره معهد واشنطن خلال مايو/أيار أن إدارة بايدن تسعى إلى كسر الجمود مع ولي العهد السعودي. لكن تحركات روسيا وإيران ستؤثر في مسار أسواق الطاقة. وتابع أن السعودية التي تقود النفط لم تعد تعتبر أنه ثمة ترتيب يجمعها بالولايات المتحدة لضخ النفط مقابل توفير الأمن. ويبدو محمد بن سلمان (الحاكم الفعلي للمملكة) مصمما على عدم الرضوخ لمطالب واشنطن.
السعودية والإمارات والغضب الأمريكي
كانت السعودية -الدافع الرئيسي نحو هذا الخفض في إنتاج النفط- الذي أيدته روسيا. في وقت تتعقد علاقة الرياض بإدارة بايدن رغم زيارته الأخيرة للمملكة. ومحاولة الوصول إلى اتفاقات تخص إمدادات الطاقة مقابل وعود باستمرار مظلة الحماية لدول الخليج.
يأتي رد الفعل الأمريكي الغاضب متأثرا بقوة كارتل النفط العالمي. وثانيا باستمرار القلق بشأن ارتفاع أسعار الطاقة الذي يحتمل أن يؤدي إلى ركود عالمي في ظل أزمة اقتصادية أشير إليها في تقارير المؤسسات الدولية.
وتبدو الانقسامات والفجوة بين الولايات المتحدة والسعودية حقيقية. وهناك إحباط كبير من توجهات الرياض. ويبدو أن هناك قرارا سعوديا يستهدف إضعاف بايدن والديمقراطيين قبل انتخابات نوفمبر/تشرين الأول في الكونجرس الأمريكي. ومن المرجح أن يتخذ الكونجرس رد فعل. مثل عمليات التصويت على ميزانيات الدفاع والالتزامات تجاه أمن الخليج. وسيرسم قرار “أوبك+” سياسات عقابية ضد أعضاء المنظمة.
خفض النفط وإعلان التحدي لواشنطن
وكانت ردود الفعل الأولية على قرار “أوبك+” هيسترية. إذ سأل صحفي أمريكي وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان عما إذا كان قلقًا بشأن رد الفعل الأمريكي على خفض الإنتاج. فرد ساخرًا أن “تستمتع بالشمس في فيينا”. وهذا التصريح إعلان بالتحدي وتوظيف أزمة الطاقة في حيازة مركز ودور سعودي جديد في الشرق الأوسط وربما يؤهل لقيادتها المنطقة.
وفى السياق يشير تشارلز ليتشفيلد -نائب مدير مركز GeoEconomics التابع للمجلس الأطلسي- أن السعودية والإمارات لم يعودا حليفتين للولايات المتحدة. لذا لم يكن مفاجئًا أن تخفض أوبك+ الإنتاج.
ويضيف: “من وجهة نظر أبوظبي كان هذا رد فعل منطقيًا على الركود العالمي الذي يلوح في الأفق في عام 2023. بالنسبة للرياض ربما يكون الأمر أكثر عاطفية وينطوي على الانزعاج من التحركات الأوروبية لفرض قيود على أسعار واردات النفط الروسية. بينما كانت تنتظر واشنطن حرمان روسيا من عوائد النفط والغاز لا رفع أسعارهما”.
هذا يرسخ لفشل بايدن في إدارة العقوبات ضد روسيا وتفكيك تحالف أوبك+ أو التأثير في قراراته كما حاول باتصالات تليفونية. كما يقوض طموحات الإدارة والخزانة الأمريكية في محاربة التضخم وخفض أسعار الفائدة. ويفسر ما أعلنه مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض -جيك سوليفان- أن بايدن يشعر “بخيبة أمل” من قرار تحالف أوبك+ خفض الإنتاج.
تأثيرات ونتائج القرار
لا تنحصر تأثيرات قرار أوبك في أسعار الطاقة عالميا بالزيادة كتأثير مباشر. لكن من الممكن ان تخلق سلسلة تغيرات على مستوى السياسة الدولية. كما أن الآثار الاقتصادية ستخلق دوامة من أزمات مرتبطة بها. على سبيل المثال ربما تسهم فى زيادة احتمالات حدوث توترات اجتماعية -وهي بدأت بالفعل- في أوروبا على خلفية أزمة الطاقة.
وسيكون الشتاء القادم هو الأصعب على أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وفقًا لتوقعات البنك الدولي. فمن المقرر أن ترتفع أسعار الطاقة أكثر. مع ارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية. ما سيلحق الضرر بالأسر الفقيرة ويمكن أن يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي في جميع أنحاء القارة.
كما يفتح قرار أوبك+ فصلا جديدا في علاقة واشنطن بالخليج -خصوصا السعودية.
في تحليل نشرته atlanticcouncil أشار توماس س. واريك أن تخفيضات الإنتاج ستأتي بنتائج عكسية على المدى البعيد. رغم ما ستحرزه من مكاسب اقتصادية في المدي القصير. وتابع -وهو المسؤول السابق بالخارجية الأمريكية- أن المصالح الأمنية السعودية ستتضرر على المدى الطويل.
جغرافيا سياسية جديدة تتشكل
وتعتبر واشنطن قرار تخفيضات الإنتاج دليلاً على غياب التضامن بين الحلفاء في مواجهة روسيا.
قالتها كارين جان بيير السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض بشكل مباشر إن “أوبك تتحالف مع روسيا”.
لكن بعض التقديرات ترى أن ذلك مبالغ فيه. ويصف فيليب كورنيل -محلل شؤون الطاقة- الوضع فيقول إن السعودية والإمارات لم يعودا حليفين للولايات المتحدة. وعبر النفط تؤكد الدولتان استقلالهما السياسي.
هناك تغيرات تلوح في الجغرافيا السياسية. منها أن المنتجين الخليجيين حريصون على السير في خط دقيق. ويدشنون تواصلًا دافئًا مع الصين.
السعودية والإمارات والاستقلال عن أمريكا
ضمن التغيرات فى الجغرافيا السياسية أثبت تحالف أوبك+ قوته ووحدة دوله رغم التنافس والصراع بين مكوناته. والتي تضم خصوما مثل إيران والسعودية والإمارات.
وتزامن القرار مع نشاط سعودي-إمارتي يخص الملف اليمني وقضايا الأمن في البحر الأحمر. والتهديدات الإيرانية للخليج.
وتنظر السعودية والإمارات إلى اتفاق أوبك كورقة رابحة وإطار عمل شامل يسمح بتفعيل الوساطات في اليمن. خاصة أن هناك ملامح لعدم ثقة دول الخليج العربي بالشريك الأمريكي الذي فشل مرارًا في التعامل مع الملفين اليمني والإيراني.
من يحمي دول الخليج؟
ستدفع المستجدات الولايات المتحدة لإعادة تحديد ملامح علاقتها مع السعودية. وما إذا كانت ستحاول إجبار الرياض على إعادة التواصل مع واشنطن بطريقة استراتيجية أو قبول علاقة تعامل أكثر مرونة. خاصة أن المواقف فيما يخص الأمن الاقتصادي متباينة. فيما تعتبر واشنطن أن أسعار النفط جوهر الأمن القومي.
يشير جوناثان بانيكوف إلى أن السعودية تعتقد أنها ليس لديها ما تخسره إذا تحالفت مع روسيا. وإذا ما اتخذت الولايات المتحدة قرارًا متسرعًا بسحب المظلة الأمنية عن السعودية. فإن واشنطن تخاطر لأن بكين من الممكن أن تملأ هذه الفجوة مستقبلا. رغم أن بكين مترددة في لعب دور الضامن الأمني. ولا تستطيع سد الفجوة إذا غادرت الولايات المتحدة -خاصة في مجال الدفاع الصاروخي. وهو مجال لا تزال الصين تطور فيه قدراتها.
افتراض انسحاب أمريكا يطرح سؤالا إذا ما كانت دول الاتحاد الأوروبي ستحاول القفز لسد فجوة العتاد العسكري. إذ سبق وتوصلت شركة داسو للطيران -الشركة الفرنسية لتصنيع طائرات رافال- إلى اتفاق مع الإمارات لبيع طائراتها بعد أن تلغي أبوظبي صفقة شراء طائرة F-35 أمريكية الصنع.
تأثيرات اقتصادية وسياسية
قرار “أوبك+” سيعمق الجهود المبذولة لإنهاء الاعتماد الغربي على الطاقة في الشرق الأوسط وروسيا. كما أن الرياض تستهدف التأثير في المشهد السياسي الأمريكي. إذ اختارت تنفيذ القرار قبل فترة وجيزة من الانتخابات الأمريكية داخل الكونجرس “بشكل مقصود وليس عملا ساذجا.
ويبدو أن محمد بن سلمان يستخدم المناورات السياسية على غرار الطريقة التي تنخرط بها كل من الصين وروسيا عموما في العالم. بينما واشنطن تدير السياسة الخارجية بمنطق العلاقات الاستراتيجية طويلة الأمد ذات الطابع المستقر.
ويحمل قرار أوبك+ رفع الأسعار وتحولها من إطار تقني إلى إطار اقتصادي وجيوسياسي ناشئ.
وتشير المونيتور إلى سبع ملاحظات أساسية بعد القرار. منها التغيرات في ملف العلاقات الأمريكية السعودية وأمن الطاقة العالمي وتحديات الأمن القومي للشرق الأوسط.
ولم تعلن الولايات المتحدة إلى اليوم تغيرا في علاقاتها الأمنية في المنطقة. إلا أن ذلك ينتظر اختبارا حقيقيا في الانتخابات المقبلة في نوفمبر/تشرين المقبل.
خفض الإنتاج واضطراب الأسواق
ويتوقع سايمون هندرسون وهو متخصص في شؤون الطاقة والخليج حدوث اضطراب في الأسواق العالمية. وفي العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربي. وفي معنويات الناخبين الأمريكيين أيضا.
إجمالا- من المحتمل أن تتعقد علاقة الولايات المتحدة مع دول الخليج. ما يسمح بتقارب روسي صيني مع دول الخليج تؤشر عليه استطلاعات رأي تميل إلى دعم التعاون مع روسيا والصين.
وسيعبر الكونجرس عن نتائج القرار في الانتخابات المقبلة سواء في شكل موقف من الديمقراطيين أو موقف من السعودية ودول الخليج بمزيد من الضغوط ومحاولات استمالة. أما سعوديا فإن الرياض تشعر بالنشوة اليوم من انتصار قصير المدي يوفر أموالا تضخ في اقتصادها وأيضا حيازة دور في الشرق الأوسط عبر سلاح النفط. وربما على حساب فاعلين إقليميين في المنطقة. وفي الوقت نفسه تقابل تحديات أمنية لا يمكن التقليل منها حتى مع الأخذ في الاعتبار التواترات في إيران.