يتصدر ملف أمن البحر الأحمر الشواغل الرئيسة للإدارة السياسية المصرية،في الوقت الراهن خاصة في ظلّ إعادة رسم خريطة السيادة والتوازنات في المنطقة من جهة، ومن جهة أخرى لارتباطه بأبعاد اقتصادية يأتي في مقدمتها التأثير على حركة التجارة المارة في قناة السويس بما تمثله من أهمية لمصر حيث كونها موردا رئيسيا للعملات الأجنبية.
اقرأ أيضا.. مصر وإيران ومراوحة المكان.. الرغبة باستعادة العلاقات لا تزال رهن التفاعلات الإقليمية
وتشهد منطقة البحر الأحمر تنافسا دوليا وإقليميا للتموضع “التمركز” الاقتصادي والأمني من خلال مختلف الاتفاقيات الموقعة بين قوى إقليمية ودول نامية على ضفتيه.
ولطالما كان البحر الأحمر موقع صراع القوى العالمية، بداية من البعثات المصرية القديمة إلى أرض بونت “الصومال حاليا”، واستخدام الرومان للبحر كشريان مهم للتجارة مع الشرق.
وتملك مصر معظم المواني المدنية المطلة على البحر الأحمر بـ 20 ميناء، بواقع 8 موان تجارية، بما في ذلك ميناء السخنة الذي تديره شركة مواني دبي العالمية، و5 مواني بترولية وتعدين وسياحية، و3 مواني صيد وصناعية.
أبعاد المنطقة
تقع منطقة البحر الأحمر وخليج عدن في قلب الكتلة الجغرافية التي تمتد من مضيق جبل طارق مرورا بقناة السويس والبحر الأحمر ثم مضيق باب المندب وخليج عدن ومضيق هرمز والخليج العربي وبحر العرب، وكأنها كتلة جغرافية واحدة، فالتهديدات الأمنية التي تطال جزءا منها تطال باقي أجزاء الممر المائي.
ويقع في البحر الأحمر وخليج عدن، ثلاثة من الممرات المائية، هي مضيق باب المندب، وقناة السويس، ومضيق تيران جنوبي خليج العقبة.
تحديات تهدد المصالح المصرية
يمثل التنامي المستمر في حجم القوات التابعة للدول المتنافسة على النفوذ في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن تهديدا مباشرا للمصالح المصرية، حيث إنه قد يقود إلى نشوب توترات ربما تنشأ عنها محاور صراع تستقطب إليها دول المنطقة، وما قد يترتب على ذلك من عنف دولي واسع النطاق، تتجمَّد بفعله حركة الملاحة البحرية في باب المندب وقناة السويس، والانعكاسات الخطيرة على الأمن الاقتصادي، وأمن الطاقة، وحرية الملاحة البحرية، والقضايا الأخرى المنضوية تحت مفهوم الأمن البحري.
تحد آخر يهدد المصالح المصرية المباشرة، يتمثل في جماعات العنف التي أفرزتها الصراعات المسلحة على ضفتي البحر الأحمر وخليج عدن، والتي باتت تنازع الدول وظائفها على الأرض، وتحتكر القوة، وفي الوقت ذاته رهنت نفسها لدى قوى خارجية تقاسمها المصالح وعداء الخصوم، كما يمثله الوضع الراهن في الصومال واليمن، في حين يبدو وضع اليمن أكثر وضوحا، بعدما انتجت الحرب هناك معادلة ثلاثية للوكلاء المحليين الداخليين الذين يبسطون سيطرتهم على البلاد، خصوصا المناطق الساحلية، ومن خلفهم الداعمون الخارجيون، وهم: الإمارات، والسعودية، وإيران.
ويتمركز نفوذ وكلاء الإمارات في الساحل الغربي للبلاد (ساحل تِهامة)، بين مضيق باب المندب، ومدينة الخوخة، شمالي ميناء المخا، عبر مجموعة من التشكيلات المسلحة القوية التي تضم قوات المقاومة الوطنية (حراس الجمهورية والمقاومة التهامية)، والعمالقة التي أعادت تموضعها نهاية عام 2021.
وعُززت هذه القوات بمقومات عديدة للنهوض بأدوارها، بحرا وبرا، عبر بناء قدرات خفر السواحل، وإنشاء مهبط جديد للطائرات بمدينة (ميناء) المخا، وتطوير مينائها، واتخذت عدد من الجزر القريبة من باب المندب، مراكز للدعم اللوجستي العسكري للإمارات.
أما المنطقة الساحلية الممتدة بين مضيق باب المندب ومحافظة المهرة المجاورة لسلطنة عمان، شاملًا ذلك أرخبيل سقطرى، فيتقاسمها وكلاء الإمارات والسعودية، مع نفوذ محدود للحكومة، ويتصدر هؤلاء الوكلاء المجلس الانتقالي الجنوبي (انفصالي)، عبر تشكيلاته المسلحة.
أما وكلاء إيران وهم الحوثيون، فهم يسيطرون على القطاع الساحلي الذي يمتد شمالًا، من منطقة الخوخة إلى الأطراف الجنوبية من منطقة ميدي، جنوب غربي محافظة حجة، شاملا ثلاثة موان، هي: الحُديِّدة، والصليف، ورأس عيسى.
أما وكلاء السعودية فيسيطرون على المنطقة الساحلية الغربية، حيث تتمركز قواتهم شمالي الحديدة، بين ميدي، التي تضم ميناء صغيرا، حتى الحدود البرية-البحرية مع السعودية نفسها، عند منطقة الموسَّم، شاملا ذلك الجزر الواقعة قبالتها، وهي منطقة نفوذ بحرية صغيرة، قياسًا بمنطقتي نفوذ وكلاء إيران والإمارات.
أطر التحرك المصرية
في إطار التحرك لتأمين مصالحها المباشرة في منطقة البحر الأحمر،عملت مصر على أكثر من مسار لعل أبرزها كان في عام 2017 عندما قامت بتدشين قيادة الأسطول الجنوبي ،والذي جاء بالقرب من مضيق باب المندب بعد افتتاح قاعدة برنيس العسكرية الواقعة على البحر الأحمر، ما جعل مصر تمتلك ميزة استراتيجية نسبية تؤهلها لأن تكون رقمًا فاعلًا في معادلة البحر الأحمر، كما تُمكنها من فاعلية الوجود العسكري بالبحر الأحمر بالتعاون مع الشركاء الإقليميين حال تطلب الأمر ذلك.
وفي ذات الاتجاه، عملت مصر مع السعودية على خلق تحالف أمني، غير تقليدي يكون معني بالأساس بأمن البحر الأحمر ، من الدول العربية والإفريقية المطلة عليه وعلى خليج عدن، وهو التجمع الذي أعلن عن إنشائه بالرياض، في يناير/كانون الثاني 2020، في محاولة أمنية إقليمية جديدة ، ويضم في عضويته ، إلى جانب السعودية ومصر كل من الأردن، وجيبوتي، والصومال، وإريتريا، واليمن، والسودان.
وأمام عدم تجاوز هذا المجلس صيغته النظرية إلى الممارسة الفاعلة، رغم مرور أكثر من عام على تأسيسه ، تحركت القاهرة للانضمام إلى تحالف الأمن البحري في عام 2021 لتكن العضو الرابع والثلاثين فيه ، وتتولى بعد ذلك قيادة القوة الدولية المشتركة 153، والتي تعد واحدة من أربع فرق عمل تم تشكيلها رسميًا من قبل القوات البحرية المشتركة في إبريل 2022 لمكافحة تهديدات الأمن البحري، مثل التهريب والأنشطة غير المشروعة الأخرى ، وتوفير بناء القدرات في البحر الأحمر وباب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن.
وعلى نفس المسار الأمني عززت مصر أطر تعاونية مثل تمرين “الموج الأحمر”، الذي نُفِّذ التمرين الخامس منه في نهاية مايو/أيار 2022، وبمشاركة ست دول، هي الأردن، وجيبوتي، والسعودية، والسودان، ومصر، واليمن.
رؤية مصرية لأمن الملاحة
تواصل التنافس العسكري والصراع على النفوذ لن يقود المنطقة إلا لمزيد من الاحتقان الذي يهدد التجارة العالمية، وليس المصالح المصرية فقط، لذلك فإن تحويل البحر الأحمر من منطقة نفوذ وتوازنات عسكرية إلى ممرّ للتنمية والاستثمار في المقومات الاقتصادية، من شأنه أن يضمن معادلة أمن دائمة ومستقرة، ولذلك فإن الأمر يقتضي على مصر باعتبارها معنية بمصالحها في المقام الأول بلعب دور في هذا الإطار بمحازاة الأدوار والعسكرية والأمنية.
ولنجاح نموذج التعاون الإقليمي في البحر الأحمر وخليج عدن، فإنه توجد عدة عوامل يجب توافرها حتى ينجح ويقوم بوظائفه تجاه الإقليم ويحقق أهدافه والتي يأتي على رأسها تحقيق الاستقرار والأمن بين دول المنطقة.
أول تلك العوامل يتمثل في ضرورة التوافق حول المصالح المشتركة ومصادر ومفهوم المخاطر التي تهدد مصالح الجميع في المجرى الملاحي.
فأحد أسباب فشل التجارب السابقة لحفظ الأمن في الإقليم هي عدم التوافق حول مفهوم الخطر الذي يهدد أمن المجرى الملاحي وسيطرة مفهوم الأمن القُطري على التعاون والمصالح المشتركة لدول الإقليم.
أما ثاني العوامل فيتمثل في ضرورة تنسيق المصالح الاقتصادية، في ظل تمتع إقليم البحر الأحمر وخليج عدن بثروات طبيعية غير مستغلة بالإضافة إلى وجود وفرة مالية في الجانب الخليجي المشاطئ له، وثروات طبيعية وبشرية في الجانب الإفريقي وبما قد يتيح إقامة نموذج إقليمي اقتصادي ناجح.
لذا فإن تبني حزم من المشروعات الاقتصادية بين دول الإقليم البحري تقوم على توظيف قدراتها المختلفة من قدرات مالية وثروات طبيعية وبشرية قد تمثل عنصر تحفيز لدول المنطقة على الحرص على نجاح ذلك التصور .
أما ثالث العوامل يتمثل في إطلاق أدوار أمنية في إطار الهيئات القائمة والتي يأتي في مقدمتها مجلس الدول المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن ، بحيث يكون هناك هيئة امنية تابعة له تختص بصياغة أدوار دول الإقليم تجاه مهددات أمن المنطقة.
على أن تقوم هذه الهيئة بوضع السياسات الأمنية والتنسيق المشترك بين أجهزة الأمن في دول المجرى الملاحي.
في الخلاصة يمكن القول أن بإمكان مصر وهي تسعى للحفاظ على مصالحها المباشرة في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن ، أن تعمل على صياغة دور إقليمي أوسع، بحكم طبيعة موقعها وحالة التنافس الإقليمي والدولي على تلك المنطقة التي تعد الطريق الرئيسي لمرور الطاقة للأسواق العالمية.