تسعى روسيا لتقويض النفوذ الأمريكي في سوريا. وترغب الأخيرة في استعادة أراضيها، تحديدًا في الجانب الشمالي منها، للاستفادة من ثرواته، في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصف بدول العالم. في حين تخطو تركيا نحو إعادة هيكلة ملف سياستها الخارجية، لدعم موقف الرئيس رجب طيب أردوغان قبيل الانتخابات الرئاسية المرتقبة.
أهداف استراتيجية للدول الثلاثة، مهدت للقاء الذي استضافته موسكو بين وزيري الدفاع السوري والتركي علي محمود عباس، وخلوصي أكار، بحضور نظيرهما الروسي، سيرجي شويجو. والذي واجهته الولايات المتحدة بلهجة حادة، عبرت فيها عن استيائها من التقارب بين تركيا وسوريا.
وقد صرح المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس “نحن لا ندعم الدول التي ترفع مستوى علاقاتها أو تعرب عن دعمها لإعادة الديكتاتور بشار الأسد”. في إشارة فيما يبدو لإعادة تنشيط دوره في التفاعلات الإقليمية.
تصريحات أطلقها برايس، أشارت ضمنيًا إلى التلويح بسلاح العقوبات أو ممارسة بعض الضغوط لأجل عرقلة تمرير اتفاقيات التطبيع المحتملة بين تركيا أو غيرها من الدول العربية وسوريا. لكنها حملت -بشكل أكبر- التخوفات الأمريكية على مصالحها في سوريا. لاسيما مستقبل حلفائها الأكراد في إطار المصالحة المتوقعة بين الرئيس التركي ونظيره السوري بشار الأسد. وما تحمله معها من صعود للدور الروسي في الشرق الأوسط، على حساب المصالح الأمريكية.
ترتيبات اللقاء
منذ أغسطس/ آب الماضي، مهد أردوغان لرغبته في عودة العلاقات مع سوريا. وأكد تغيير موقفه بشأن النظام، مصرحًا بأن تغيير النظام في دمشق لم يعد سياسة تركية. كما شدد على أهمية الدبلوماسية بين الحكومتين لتقريب وجهات النظر. وفي 15 ديسمبر/ كانون الأول العام الماضي، أكد رغبته في لقاء الرئيس الأسد.
وتعمل روسيا على إعادة هندسة المشهد السوري من خلال رعاية تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا. حيث شكل اجتماع وزيري الدفاع ورؤساء الاستخبارات لسوريا وتركيا تحولا نوعيا في علاقات البلدين باعتباره أول لقاء علني على هذا المستوى بينهما منذ عام 2011، ليعكس خطوات جدية في طريق المصالحة، حيث تباحثت الأطراف بشأن سُبل حل الأزمة السورية.
كما أشار المشاركون في الاجتماع إلى إمكانية العمل المشترك مستقبلًا في مجال مكافحة الإرهاب. ووصفت وزارة الدفاع التركية الاجتماع: “عقد في جو بناء”.
كذلك يجرى الترتيب لعقد لقاء مع وزيري خارجيتي تركيا وسوريا كمرحلة ثانية لخارطة الطريق لعودة العلاقات بين البلدين. كذلك ارتفعت التكهنات حول اقتراب لقاء الأسد وأردوغان. لاسيما بعدما أعلن المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم، عمر جليك، أن لقاء الرئيس التركي أردوغان ونظيره السوري بات على جدول الأعمال.
تهديد المصالح الأمريكية
النقاش حول التواجد الأمريكي وطموحه في المنطقة كان حاضرًا بقوة في الاجتماع. إذ تستهدف التحركات حلحلة الأزمة السورية من وجهة النظر الروسية إقصاء الولايات المتحدة عن المشهد، وتجميد السياسة الأمريكية تجاه سوريا. وهو ما أكدته تركيا، في أعقاب الاجتماع، صرح وزير الخارجية التركي: “على الولايات المتحدة أن تدرك أخيرًا أن سياستها تجاه سوريا لن تؤدي إلى أي شيء”.
كما وصف المعهد العربي بواشنطن اجتماع أنقرة – دمشق بأنه بمثابة تدمير الآمال الكردية في سوريا. فهناك تساؤلات بشأن وضع الأكراد مستقبلًا، في الظرف الذي ستطلب فيه سوريا من تركيا الانسحاب من أراضيها (إدلب وما يسمى بمناطق العمليات)، والتوقف عن دعم الجماعات المسلحة، ستصر تركيا في المقابل على إبعاد وحدات حماية الشعب الكردية عن الحدود.
أكد على ذلك رياض ضرار، الرئيس المشارك لمجلس قوات سوريا الديمقراطية “قسد”. حين قال إن اجتماع موسكو الثلاثي يهدد الوجود الأمريكي في سوريا.
اقرأ أيضًا: أردوغان المفيد وبوتين الأكثر فائدة.. ماذا بعد لقاء أنقرة ودمشق في موسكو؟!
يشير الخبير في شؤون الشرق الأوسط، رامي شفيق، أن روسيا ضغطت على الرئيس السوري الأسد من أجل القبول أو بالأحرى الدخول في مفاوضات مع تركيا بعدما أعلن الأسد رفض الاستجابة لأي انعطافة بعد عقد من الخلاف والصراع إلا بعد انتهاء الانتخابات التركية حتى لا يعزز من موقف أردوغان الانتخابي.
ويضيف أنه يتعين النظر إلى أن أردوغان قدم عرضًا أو بالأحرى طرح الشرط السوري بشأن إعادة المناطق التي تحتلها القوات التركية والميلشيات التابعة لها لسيطرة النظام في دمشق وهو ما يعني تهديدا مباشرة للوجود الأمريكي بهذه المنطقة المتاخمة للحدود الجنوبية التركية السورية بينما تتواجد فيها القوات الكردية، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة
وينوه شفيق، أنه كان من الواضح أنه بعد رفض إيران وروسيا وواشنطن السماح لأردوغان بتنفيذ عملية عسكرية في مناطق “قسد” وتسيير دوريات مشتركة بين تركيا ونظام الأسد للمرة الأولى، فإن المعادلة الجديدة لفض هذه التناقضات هي “تصفير المشكلة في سوريا” وتخفيف الضغط على تركيا بالتزامن مع الانتخابات والتحضير لعودة اللاجئين وتنفيذ المنطقة الآمنة “التي تنادي بها تركيا” بعمق 30 كم. وهنا تكون أنقرة نجحت في تضييق الخناق على الوجود الكردي وحزب العمال الكردستاني.
الصعود الروسي
تلعب الحرب الروسية الأوكرانية دورًا بارزًا في استراتيجية روسيا تجاه الشرق الأوسط. إذ تحاول موسكو توظيف النفور الخليجي والشرق أوسطي من أمريكا لصالحها. وخدمة لهذا، يشكل النجاح في إحلال الأمن في سوريا بجهود روسية خطوة كبيرة ترفع رصيد موسكو في المنطقة.
يرى الباحث في السياسة العربية، حامد فتحي، أن محور روسيا وتركيا وإيران يمثل أهم ثلاثي فاعل في الأزمة السورية. وهو يشير إلى تفاهمات واسعة حاليًا بين البلدان الثلاثة لإدارة النفوذ في سوريا. بينما يلفت إلى الموقف السوري الرسمي باعتباره يأتي في المقام الثاني بعد روسيا وإيران، وإن كان له خصوصيته، كوّنه ملتزمًا بسيادة الدولة السورية.
وفيما يتعلق بلقاء وزراء دفاع روسيا وسوريا وتركيا، يعلق “فتحي” بأن روسيا اعتادت لعب دور الوسيط بين تركيا وسوريا في ظل الأعباء على النظام التركي. خاصة فيما يتعلق بقضايا اللاجئين والتدخلات العسكرية الإقليمية. وهو ما يؤهلها للتدخل في مسألة العلاقات التركية السورية.
اقرأ أيضًا: بعد “مصافحة المونديال”.. هل تتجاوز الخلافات المصرية التركية العقبة الليبية؟
ويرى “فتحي” أنّ واشنطن تدرك خطورة تزايد التنسيق التركي – السوري – الروسي في ظل اشتعال الحرب في أوكرانيا. ذلك لما يوفره لموسكو من مزايا عسكرية تجعلها قادرة على نقل وحدات عسكرية، خصوصًا وحدات الدفاع الجوي؛ للاشتراك في الحرب في أوكرانيا. فضلًا عن رغبة واشنطن في ألا يكون لموسكو دورًا سياسيًا بأي شكل، بعد وصول علاقاتهما الثنائية إلى حد القطيعة شبه التامة.
مستعرضًا دلالة اللقاء، يقول الخبير في شؤون الشرق الأوسط، رامي شفيق، إن سوريا تمثل لحظة فاصلة في رؤية بوتين لمصالح روسيا في الشرق الأوسط، ودورها وموقعها على المسرح العالمي. بما يوفر لها صلاحيات عميقة، خاصة مع تطور الأحداث واحتدام آليات الاشتباك الإقليمي والدولي. الأمر الذي تدركه الولايات المتحدة جيدًا، وتعمل على حلحلته بتعميق عزلة نظام الرئيس بشار الأسد، عبر دعوتها إلى عدم التطبيع مع النظام السوري.
ويرى “شفيق” أن ثمة تحركات تجري على الأرض ضد هذه الدعوة؛ مرة من خلال تركيا برعاية موسكو، وأخرى عبر الزيارات المتبادلة بين دمشق وأبو ظبي، والرغبة في تضمين سوريا داخل الجسد العربي؛ لتحييد علاقاتها مع طهران. الأمر الذي تدرك دول الخليج أهميته في ذلك الظرف الدقيق، حيث تشتبك طهران في أكثر من مسرح للتوترات الإقليمية.
تعارض الموقف الأمريكي
وقد استقبل الرئيس السوري بشار الأسد، أمس الأربعاء، وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان. فيما وصف بأنها زيارة مباركة إماراتية لخطوة التطبيع المرتقبة بين سوريا وتركيا.
وفيما يتعلق بموقف الخليج إجمالًا، يشير الباحث حامد فتحي، إلى ما عبرت عنه الخارجية الأمريكية سابقًا من انزعاج وأسف لاستقبال الرئيس الأسد في الإمارات. وكررت ذلك عند فتح الأردن معبر حدودي بينها وبين سوريا، وما جري من اتصال هاتفي بين ملك الأردن عبد الله الثاني ورئيس سوريا.
ويقول “فتحي”: “إن كانت التصريحات الأمريكية عقب اجتماع موسكو ترقى إلى مستوى التهديد، إلا أن أمريكا لا يمكنها فرض عقوبات على دولة بسبب تطبيع علاقاتها مع نظام الأسد”.
ولم يُفعل قانون “قيصر”، وهو قانون أمريكي يفرض عقوبات على سوريا، إلى الآن بشكل جديّ على النظام السوري. ما يجعل المراقبين على يقين من أنّ موقف واشنطن لن يتعدى التعبير عن الأسف. خاصةً في ظل المستوى الحرج الذي وصلت إليه العلاقات الأمريكية الخليجية، ومحاولة واشنطن إعادة تصحيح موقفها مع دول الشرق الأوسط مجددًا.
وتأسيسًا على ذلك، يؤكد الخبير في شؤون الشرق الأوسط، رامي شفيق، أنه ينبغي النظر إلى تلك التحركات الخليجية صوب سوريا حاليًا باعتبارها أوراق ضغط متاحة في تعامل هذه الدول مع واشنطن. لاسيما وأن العالم يشهد متغيرات عميقة في بنيته الدولية، تسمح بهامش حركة ينبغي توظيفه لصالح الأهداف الاستراتيجية.
كما أنه من الصعوبة بمكان تصور وصول أي من الطرفين (الخليج وواشنطن) إلى الحد الأقصى من سوء العلاقات، في المدى المنظور. وذلك لجملة من العوامل لا ينبغي إغفالها. فمن ناحية دول الخليج، هي تدرك بعمق أن أمنها الحيوي يستند في مجمله على الولايات المتحدة الأمريكية. بينما الأخيرة تتفهم الأوراق المتاحة لدول الخليج نحو الانفتاح على القوى الطموحة -الصين نموذجًا-. فضلًا عن معادلة الطاقة التي تتعاظم آلياتها مع تطور الأحداث في أوكرانيا وسخونة وتيرتها خلال العام الجاري.
احتمالية العقوبات
ويرى الخبير في الشؤون التركية، جوان سوز، أن الاعتراض الأمريكي على التطبيع مع دمشق، ينحصر في إطار الحرب الكلامية وحرب البيانات.
ويوضح فيقول إنه رغم بديهية هذه الاعتراضات، نجد واشنطن على تعاون وتنسيق كبير مع تركيا. خاصة في ظل الدور الذي تلعبه الأخيرة في الحرب الروسية، وإمدادها أوكرانيا بـ”درونز بيرقدار”. هذا فضلًا عن دورها في الوساطة بشأن اتفاقية تمرير الحبوب.
ويعتقد “سوز” أنه حتى بالنسبة لسوريا، لن تفرض الولايات المتحدة المزيد من العقوبات في الوقت الحالي، إذا ما وصل النظام السوري للتطبيع مع أنقرة. خاصة وأن دمشق استطاعت في السابق الالتفاف على العقوبات الأمريكية وبطرق كثيرة.
لذا، من المستبعد أن تكون هناك عقوبات جديدة؛ لا على دمشق أو الدول التي أعادت علاقاتها مع الحكومة السورية. في حين من المتوقع أن تعمل دول أخرى على إعادة علاقاتها مع سوريا الأسد.
هنا، يبدو أن روسيا تخطو خطوات استباقية لتعطيل الطموحات الأمريكية في الشرق الأوسط. ذلك عبر نهج براجماتي يحاول استغلال كل الفرص المتاحة في ظل حاجة النظام التركي في الوقت الراهن إلى تصفية خلافاته في منطقة الشرق الأوسط تمهيدًا للانتخابات التركية القادمة، باعتبار أن ملف السياسة الخارجية من أهم أوراق الضغط لدى القيادة التركية أمام المعارضة. كما تبين في عودة العلاقات التركية مع دول الخليج، وكذلك توطيد العلاقات المستمر مع إسرائيل. بالإضافة إلى الطموحات التركية لعودة العلاقات مع مصر.
ومن المتوقع -في هذا الاتجاه- أن تلعب روسيا أدوارًا فاعلة في حل العديد من القضايا العالقة في المنطقة.