بات العالم على أعتاب خطوات قليلة، فقط، من الدخول في حالة الركود التضخمي. ليعيد للأذهان تجربة السبعينيات، وفترات من العلاج تضمنت أشد الحبوب الاقتصادية مرارة. حينما شهدت الأسعار ارتفاعات بوتيرة سريعة، في ظل انكماش حركة النشاط الاقتصادي، وتراجع إنتاج السلع والخدمات. وتفاقم معدلات البطالة.

يرسم تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، الصادر عن مجموعة البنك الدولي في يونيو/حزيران الحالي. صورة سلبية للاقتصاد العالمي، بعدما تزايدت آثار الغزو الروسي لأوكرانيا على أسواق السلع الأولية، وسلاسل الإمداد، والتضخم. مع تفاقم تباطؤ النمو العالمي، وتواصل التشديد الحاد للسياسة النقدية في الاقتصاديات المتقدمة. وتسببها في ضغوط مالية ببعض اقتصاديات الأسواق الصاعدة والنامية.

تشديد السياسة النقدية يرتبط برفع البنوك المركزية الفائدة لمواجهة معدل التضخم المرتفع. ما يزيد من أعباء الاقتراض على المستثمرين، فيحجمون عن التوسع في السوق. وتتكبد الموازنات -في الوقت ذاته- أعباء أكثر في تمويل عجز الموازنة. مع ارتفاع تكاليف العائد على أذون وسندات الخزانة.

ارتفاع معدل التضخم العالمي

بحسب التقرير، فقد ارتفع معدل التضخم العالمي بصورة حادة من أدنى مستوياته منتصف عام 2020. وسط توقعات بأن يصل ذروته في منتصف العام الحالي. وتحرك النمو الاقتصاد في الاتجاه المعاكس، متراجعًا بشدة منذ بداية العام. ومن المرجح أن يبقى حتى نهاية العقد الحالي أقل من المتوسط الذي كان عليه خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

تطلب التحرر من مخاطر الركود التضخمي، الذي يمثل مزيجًا من ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو في سبعينيات القرن العشرين. زيادات كبيرة في أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية في الاقتصاديات المتقدمة. ما سبب ركودًا اقتصاديًا، وتسبب في سلسلة من الأزمات المالية في اقتصاديات الأسواق الناشئة. وهو ما يتكرر بحذافيره حاليًا.

خلال السبعينيات، تضاعفت أسعار النفط أربع مرات في 1973-1974. قبل أن تتضاعف مجددًا في 1979-1980. وسط الإطاحة بشاه إيران. تكرر هذا بسبب أزمة روسيا وأوكرانيا، والحصار المفروض على موانئ الأخيرة المطلة على البحر الأسود. واحتلال واحدة من أكبر مناطق إنتاج الحبوب في العالم، التي يعتمد العديد من البلدان الفقيرة عليها من أجل الغذاء. كما أثر تغير المناخ على الإمدادات الجديدة ولا يمكن التنبؤ بها.

الطوابير الطويلة والتضخم والبطالة.. ذكريات الماضي تعود

بالنسبة للأمريكيين كبار السن، تستحضر لهم فترة السبعينات ذكريات الطوابير الطويلة في محطات الوقود والمصانع المغلقة. وعجز الرئيس جيرالد فورد -الذي سخروا منه بسبب أزرار ملابسه الغريبة- أمام جان الاقتصاد الكئيب الذي يتسم بالتضخم والبطالة المرتفعتين. خاصة بعدما قالت وزيرة الخزانة جانيت يلين، إن التوقعات الاقتصادية على الصعيد العالمي “مليئة بالتحديات وغير مؤكدة”.

إذا زادت ضغوط الركود التضخمي، حاليًا، فستواجه الاقتصاديات الصاعدة على الأرجح تحديات جسيمة مرة أخرى. بسبب مواطن الضعف المالية المرتفعة فيما يتعلق بأساسيات النمو. ومن ثم، سيكون من الضروري دعم هوامش الأمان المالي، والأمان الخارجي. وتنفيذ إصلاحات، من بينها تقديم الدعم لفئات السكان الأكثر احتياجا والأولى بالرعاية.

تعاني الاقتصاديات الناشئة من ضعف نشاط قطاع الاقتصاد الحقيقي وتراجع تدفق رؤوس الأموال الاستثمارية، وتسجيل الكثير منها نموًا عبر الاقتراض، ما يجعلها تعاني من ارتفاع عبء الديون بعد رفع الفائدة عالميًا، بجانب الارتفاع الكبير في عجز الحساب الجاري.

ووفق قاعدة بيانات الدين العالمي لدى صندوق النقد الدولي، قفز الاقتراض بمقدار 28 نقطة مئوية وبلغ 256% من إجمالي الناتج المحلي في 2020. وساهمت الحكومات بنحو نصف هذه الزيادة، وساهمت الشركات غير المالية والأسر بالبقية. وأصبح الدين العام يمثل ما يقرب من 40% من مجموع الدين العالمي، وهي أعلى نسبة بلغها على مدار حوالي ستة عقود.

الركود التضخمي مقلق للجميع، لكنه أسوأ بالنسبة للبلدان الفقيرة التي تعتمد على الصادرات إلى الدول الغنية وكذلك تلك التي ربطت نفسها بديون سيادية هائلة، فمع ارتفاع أسعار الفائدة واستمرار النمو الاقتصادي المنخفض يصبح سداد هذا الدين مستحيلًا.

شبح التخلف عن سداد الديون يعود للواجهة

في المرة الأخيرة التي ضرب فيها التضخم المصحوب بالركود قبل عقود، توقفت 16 دولة في أمريكا اللاتينية عن سداد مدفوعات ديونها – مما أدى إلى تدهور في مستويات المعيشة، وهذه المرة، تخلفت سريلانكا بالفعل عن سداد ديونها، مما أثار احتجاجات في الشوارع وانهيار الحكومة، من دون تدخل، ويعتقد البنك الدولي أن الآخرين سيتخلفون عن السداد أيضًا.ستيفان دانينجر وكينيث كانج وهيلين بوارسون، خبراء صندوق النقد الدولي، سبق أن حذروا  قبل الحرب الروسية من أن رفع الفائدة في أمريكا من شأنه إحداث فترات من الاضطراب الاقتصادي بالدول النامية، خاصة وأن هذه البلدان تواجه بالفعل “تضخمًا مرتفعًا” إلى جانب “دين عام أعلى بكثير”.

ارتفع معدل التضخم بالولايات المتحدة الأمريكية ليسجل أعلى مستوى له منذ ديسمبر 1981، لترتفع أسعار المستهلك بنسبة 8.6% في مايو 2022 مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، بينما قفز التضخم في بريطانيا لأعلى معدل سنوي له منذ العام 1982، ليبلغ 9٪ في إبريل/نيسان، متجاوزًا حتى قمم الركود في أوائل التسعينيات التي يتذكرها العديد من البريطانيين بسبب أسعار الفائدة المرتفعة للغاية والتخلف عن سداد الرهن العقاري على نطاق واسع.

وطبقا لبيانات المركزي الألماني التي أعلنها أمس، فقد قفز معدل التضخم في شهر مايو/أيار الماضي إلى أعلى معدل تشهده السوق ألألمانية منذ خمسين عاما، فقد بلغ 7,9 % طبقا لمؤشر أسعار المستهلكين، مع توقعات بأن يصل المعدل السنوي إلى 7,1 % نهاية العام الحالي.

تؤدي التداعيات الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تعجيل وتيرة تباطؤ النشاط الاقتصادي العالمي الذي يُتوقع أن يتراجع إلى 2.9% عام 2022، فالتقديرات المعتمدة على النماذج السابقة لصدمات النفط، تشير إلى أن ارتفاع أسعار الطاقة نتيجة الحرب من الممكن أن تخفض الناتج المحلي بنحو 0.8% حتى بعد سنتين.

جرى تعديل تقديرات النمو لعام 2022 بالخفض في نحو 70% من اقتصاديات الأسواق الصاعدة والنامية، ويشمل ذلك أغلب البلدان المستوردة للسلع الأولية، علاوة على 80% من البلدان منخفضة الدخل.

تداعيات الحرب أكثر قسوة على أوروبا وآسيا الوسطى

بحسب البنك الدولي فإن تداعيات الحرب ستكون أكثر قسوة على أوروبا وآسيا الوسطى لتسجل انكماشاً بنسبة 2.9% في عام 2022 قبل أن ينمو بنسبة 1.5% في عام 2023، أما في شرق آسيا والمحيط الهادئ، فمن المتوقع أن يتباطأ معدل النمو إلى 4.4% العام الحالي على أن يرتفع إلى 5.2%  العام المقبل.

يتوقع البنك أيضًا تباطؤ نمو أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي إلى 2.5% عام 2022 و0.91% عام 2023، وبالنسبة لجنوب آسيا، فمن المتوقع أن يتباطأ معدل النمو إلى 6.8% العام الحالي  و5.8% في عام 2023.

كانت الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (الدول المصدرة للطاقة) الأسعد حظا بسبب الحرب الروسية إذ يتسارع معدل النمو إلى 5.3% في 2022 قبل أن يتراجع إلى 3.6% في 2023 فالحرب ستعمل على تشجيع الحد من الطلب على النفط مستقبلاً مع الانتقال لاستخدام أنواع أخرى من الوقود وتطوير مصادر جديدة للإمداد بالطاقة.

تتوسع أوروبا حاليًا تجاه الطاقة النظيفة، إذ تعتزم شركتا أتالايا ماينينج القبرصية والمرافق إنديسا إكس الإسبانية بناء أكبر محطات الطاقة الشمسية للاستهلاك الذاتي، لتوفير الكهرباء لعمليات تعدين النحاس في إسبانيا بقدرة 50 ميجاواط، كما يتم التجهيز لبناء أكبر محطة للطاقة الشمسية في أوروبا بقدرة تصل إلى 650 ميجاواط على بحيرة هاينر بالقرب من مدينة لايبزيج بشمال ألمانيا، لتصبح أكبر محطة طاقة شمسية في أوروبا فور الانتهاء من بنائه.

يطالب البنك الدولي واضعي السياسات الحد من السياسات التشوهية مثل ضوابط الأسعار، وإعانات الدعم، وفرض الحظر على الصادرات، التي يمكن أن تفاقم الوضع السيئ الناجم عن الزيادة الأخيرة في أسعار السلع الأولية، كما سيتعين على الحكومات إعادة ترتيب أولويات الإنفاق لصالح المساعدات الإغاثية الموجهة للفئات السكانية الأكثر احتياجا.

مصر وتونس في قلب الأزمة

يشير التقرير فيما يتعلق بالآفاق الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط، إلى التأثيرات التي عانت منها الدول غير النفطية، فمصر شهدت تباطؤ النمو القوي الذي تحقق في النصف الأول من السنة المالیة في ظل تصاعد معدل التضخم وعودته في أسعار المستهلكین إلى المعدلات السنوية ثنائیة الرقم (10 فيما فوق)  مما أدى إلى انخفاض دخل الأسر وضعف القدرة التنافسیة للشركات.

وبينما يواجه المغرب موجة جفاف شدیدة أخرى ستؤثر على الإنتاج الزراعي، لم تشهد تونس سوى تعافٍ طفیف عام 2021 وتواجه صدمات اقتصادية متعددة مع عدم قدرتها على الحصول على تمويل من الأسواق الدولیة، فیما تمر بعملیة تحول سیاسي معقدة. ولا تزال نسبة البطالة في تونس مرتفعة عند 16.1%مع عدم وجود حیز متاح لتطبیق سیاسات تحفیزية.