خلال لقاء جمعه بقادة الفصائل الفلسطينية في العاصمة السورية دمشق، السبت الماضي، قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إن “طهران ترحب بتعزيز وتوسيع العلاقات مع مصر”. بدت تصريحات المسئول الإيراني لافتة في وقت تتسارع فيه الأحداث والتحركات في الإقليم، لكنّها لم تكن مُفاجئة.
فقبل أسبوع من ذلك اللقاء، خرج “عبد اللهيان” بتصريحات مُشابهة، غازل فيها أيضًا القاهرة، بعد فترة كُمون، في لقاء جمعه برئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، بعد جولة مكوكية للأخير بين الرياض وطهران، يسعى فيها للوساطة والتهدئة بين البلدين المتنافسَيْن.
وفي لقائه “الكاظمي”، لفت وزير الخارجية الإيراني إلى “القواسم المشتركة بين إيران ومصر”. قال إن “تعزيز العلاقات الثنائية بين طهران والقاهرة يصب بمصلحة المنطقة والعالم الإسلامي”، حسب وكالة الأنباء الإيرانية (إرنا).
مغازلة القاهرة.. ليست الأولى ولكن
التصريحات الأخيرة التي خرجت من المسئول الإيراني الرفيع ليست الأولى من نوعها. فعلى الرغم من قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لأكثر من 40 عامًا، ثمّة تصريحات وإشارات إيرانية عديدة، خلال السنوات القليلة الماضية، كانت تُعيد قضية استئناف العلاقات بين البلدين إلى الواجهة من وقت إلى آخر.
العلاقات بين البلدين مرّت بتحولات عديدة بين التوتر أحيانًا والفتور أحيانًا أخرى. في الجزء الأول من سيرته الذاتية “كِتَابِيَهْ”، روي الدبلوماسي المخضرم عمرو موسى، تفاصيل نقاش مع الرئيس الأسبق حسني مبارك حول إيران، حين كان الأول وزيرًا لخارجية مصر. قال “موسى” إن مبارك رفض إقامة علاقات طبيعية مع إيران، التي تعاديها دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
وفي حين رحب الرئيس الأسبق بالانفتاح على تركيا، باعتبارها حليفًا للولايات المتحدة الأمريكية، وعضوًا في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، كما لم يكن -وقتها- بينها وبين دول الخليج مُشكلات، فإنه لم يكن يريد أن “يخاطر” بالتقارب مع إيران بسبب دول الخليج، حسب رواية “موسى”، الذي كان يحاول إقناع مبارك بفتح مجال للعلاقات مع طهران “دون التنازل عن حقوق الأشقاء في الخليج”.
ومضى وزير الخارجية الأسبق قائلًا: “في أكثر من مرة راح مبارك يفكر معي بصوت عالٍ: افرض يعني إن إحنا عملنا علاقات مع إيران. هناخد إيه منها؟ مش هناخد حاجة غير زعل السعودية والإمارات والكويت وأمريكا. يا راجل سيبك من الموضوع دا”، على ما جاء في “كِتَابِيَهْ”.
كان “مبارك” يخشى تقارب مصر مع إيران، والأخيرة “قوة إقليمية كبرى ترابض إلى جوار العالم العربي الجغرافي”، حسب وصف “موسى”. وقد وضَع الرئيس الراحل في اعتباره “غضب” دول الخليج، و”ردة فعل” أمريكا وإسرائيل.
علاقة القاهرة وطهران.. ما تغير إقليميًا
مرت السنوات، وجرت مياه كثيرة في نهر مصر وجوارها. دخل الإقليم في حالة غليان وأزمات وصراعات وانقلابات استراتيجية وحروب لا تزال تدور رحاها. فيما بدا أن رؤية مصر لعلاقتها مع إيران لا تزال محكومة بنظرة مبارك السابق ذكرها. لكن في الوقت نفسه كان مشروع نفوذ إيران يتوسع بشكل لافت في السنوات الماضية. لقد توغلت بقوة حتى باتت لاعبًا رئيسيًا لا يمكن تجاهله، في ملفات وأزمات عديدة، بداية من الأزمة اليمنية المتصاعدة على حدود السعودية، وحرب الأخيرة ضد الحوثيين المدعومين من إيران، الذين تتواصل تهديداتهم للسعودية والإمارات، إلى سوريا ولبنان والعراق والدعم الإيراني لجماعات وميليشيات شيعية. وهو ما يسبب قلقًا لدول الخليج، ويدفعها للبحث عن “التوازن” مع إيران وحلفائها.
لكن الآن، ثمّة مستجدات ومتغيّرات إقليمية ودولية تلقي بظلالها على ملف العلاقات بين مصر وإيران، المعقّد والمتشابك في آن معًا. يشير الكاتب الصحفي عبد الله السنّاوي، في حديث مع “مصر 360″، إلى أن هناك مساران مترابطان واكبا سؤال “الحديث مع إيران” هذه المرة؛ الأول يتعلق بالمباحثات الأمريكية – الإيرانية التي أجريت في قطر مؤخرًا لإحياء الاتفاق النووي. “هناك بعض التعسر لكن بشكل أو بآخر سوف يتم الاتفاق على إحياء الاتفاق النووي. لأن أمريكا في هذه اللحظة في حاجة ماسة إلى النفط الإيراني، في ظل أزمة الطاقة التي تهدد أوروبا. إلى جانب حاجتها أيضًا إلى النفط السعودي والنفط الفنزويلي.
والمصالح تستدعي إنهاء الملفات السياسية من أجل قضية على درجة عالية من الأهمية والخطورة في الشتاء المقبل بالنسبة لأوروبا والغرب”، وفق “السنّاوي”.
أما المسار الثاني، فيتعلق بجهود الوساطة العراقية الرامية إلى إعادة العلاقات بين السعودية وإيران. وقد قطع هذا المسار مسافة كبيرة عبر جولات سابقة من المباحثات، استؤنفت من جديد. وأجرى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، مؤخرًا، لقاءات مع المسئولين في كل من الرياض وطهران. و”أسفرت عن حسم العديد من الملفات التي كانت عالقة بين البلدين”، حسب ما نقلت صحيفة “الشرق الأوسط” عن مصدر عراقي مطلع.
إشارة النقب
في رأي “السنّاوي”، فإن المسار الثاني يتوقف على المسار الأول، وخاصة الانتهاء من إحياء الاتفاق النووي، “لأن القضية الأساسية هي الترتيبات الإقليمية والالتزامات التي سوف تحدث في المنطقة بعد إحياء الاتفاق النووي، فالقضية ليست في الاتفاق نفسه لأنه لا مشكلة فيه، لكن فيما بعده”.
ثمّة إشارات وشواهد أخرى يعرج عليها الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلاقات الدولية في حديثه لـ”مصر 360″. أول هذه الإشارات إعلان الخارجية الإيرانية، في 27 يونيو/حزيران الماضي، تعيين ناصر كنعاني، متحدثًا باسم الخارجية الإيرانية. وهو الذي تولى رئاسة مكتب رعاية المصالح الإيرانية في القاهرة منذ إبريل/نيسان 2018، قبل تعيينه في منصبه الجديد. “هذه رسالة مهمة تريد طهران إرسالها إلى القاهرة. وقد تزامنت مع تصريحات وزير الخارجية الإيراني الإيجابية عن تعزيز العلاقات بين البلدين”.
في وقتٍ لم يصدر فيه أي تصريح مصري رسمي تعليقًا على “المغازلة” الإيرانية الأخيرة أو حول العلاقات بين البلدين وإمكانية تعزيزها، فإن “فهمي” يرى أن هناك تقدير وترحيب من جانب الإيرانيين لما ذكره سامح شكري وزير الخارجية عقب عودته من “قمة النقب”، حين أكد أن مصر لم تشارك بالقمة في إسرائيل، لتشكيل تحالفات ضد أي طرف.
اقرأ أيضًا: لماذا فشل.. وسيفشل مشروع الناتو العربي؟
مشروع “الناتو العربي”
وسط الحراك السياسي الإقليمي اللافت في الأيام القليلة الماضية، لا يتوقف الحديث عن مشروع إنشاء “الناتو العربي” المفترض، بعد تصريحات للعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، في 24 يونيو/حزيران الماضي، أعلن فيها تأييده إنشاء حلف “ناتو شرق أوسطي”. وهو ما طرح فيضًا من الأسئلة حول توقيت تلك التصريحات التي تأتي قبل الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي جو بايدن إلى السعودية، منتصف الشهر الجاري، للمشاركة في قمة جدة، المقرر أن تضم قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق.
وحسب ما هو متواتر فإن “الناتو الشرق أوسطي” هو تحالف عسكري يضم دولًا عربية -بينها مصر- مع إسرائيل لمواجهة إيران وحلفاؤها في الإقليم. لكن مصر ومعها السعودية تحفظتا على فكرة إنشاء التحالف، رغم التأييد الإماراتي، حسب ما تحدثت مصادر مطلعة في وقت سابق لـ”مصر 360″. فيما يقول الكاتب الصحفي عبد الله السنّاوي “في كل الأحوال إيران ليست عدوًا لمصر. هي منافس أو خصم إقليمي. لكنّ إسرائيل هي العدو الاستراتيجي التاريخي، ولابد أن تكون الفروق واضحة”.
وبدا لافتًا، بعد أيام قليلة من تصريحات العاهل الأردني، التشديد المصري – البحريني على دعم “التوصل إلى حلول سياسية دائمة لأزمات المنطقة”، في ختام زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى البحرين. وهو ما يعزز موقف القاهرة الرافض المشاركة في تحالفات عسكرية لمواجهة أي طرف. وربما يُعد “رسالة” طمأنة إلى إيران، تعكس رغبة القاهرة في علاقات هادئة مع طهران، بعيدًا عن التوتر.
لكن إيران تنتظر ما هو أبعد من ذلك.
القاهرة وطهران.. أين الفرصة؟
في حين أن هناك اتصالات وتفاهمات طوال الوقت تجرى بشكل أو بآخر بين مصر وإيران حول قضايا وأزمات إقليمية عديدة، أبرزها سوريا واليمن، فإنها تتم عبر قنوات حوار خلفية، ولم تخرج إلى العلن الدبلوماسي، حسب الكاتب الصحفي عبد الله السنّاوي. يضيف أن “إيران لها حساباتها كدولة كبيرة في الإقليم. وهي ترى مصر لاعبًا رئيسيًا. لذلك تطرق الأبواب المصرية منذ فترة طويلة جدًا. مشكلة السياسة المصرية أنها تفهم وتدرك أهمية مد اتصالات مع إيران. لكن دون العلن الدبلوماسي، الذي تطلبه إيران، وهنا تكمن المشكلة”.
يعتقد الكاتب الصحفي أن مصر تحتاج إلى الحديث مع إيران، في ظلّ الأوضاع الإقليمية المُلتبسة. وكثيرًا ما دعا إلى ذلك خلال السنوات الماضية عبر مقالات عديدة. يقول: “يجب أن تخطو مصر خطوة واضحة وصريحة إلى الأمام في علاقتها مع إيران، وتُنهي القطيعة الدبلوماسية الممتدة منذ إطاحة شاه إيران قبل أكثر من 40 عامًا. لابد أن نفتح معها قنوات حوار، ولا يجب أن يتم التعامل مع الأمر على أنه سيغضب دول الخليج. خاصة وأن كل دول الخليج لديها علاقات دبلوماسية واتصالات معلنة مع إيران. فمصر يجب أن تتقدم خطوة إلى الأمام لأنها مرشحة في هذه الحالة أن تتحدث باسم العالم العربي وتكون محامي الخليج إذا صح التعبير”.
يرى “السنّاوي” أنه إذا كنّا نتحدث عن خروج مصر إلى الإقليم بحثًا عن فرص مفتوحة وأدوار ممكنة. ففي كل الحسابات نجد أن إيران لاعبًا رئيسيًا لا يمكن تجاهله. وللحديث معه ضروراته الملحة، دون أن نغفل حدة الخلافات ومواضع الاتفاق والاختلاف.
“الحديث مع إيران لا يعني القفز إلى المصالحة قبل استكمال مقوماتها. ولا يعني غضّ الطرف عن أي أزمات في ميادين المواجهات في سوريا والعراق ولبنان واليمن. وأظن أنه ينبغي أن نسرع في فتح الحديث مع إيران بما هو ضروري حتى تكون لدينا أوراق حقيقية في التفاوض، وأن نكون طرفًا فاعلًا في إعادة ترتيبات المنطقة من جديد”، على ما يؤكد الكاتب الصحفي.