عبثي هو المشهد في ليبيا في ظل التشبث بصدارته من جانب كيانات انتهت صلاحيتها بعدما انتهت صلاحية الاتفاقات التي حصلت على شرعيتها بموجبها، فيما تعتبر تلك الكيانات أن بقاءها بات أمرًا واقعًا تفرضه تجاذبات الأطراف الدولية والجهوية والعسكرية، في وقت تتراجع فيه فرص إيجاد أطر دستورية وقانونية لحسم النزاع الدائر في البلاد.
وجاء الثاني والعشرون من يونيو الماضي، والذي انتهت فيه صلاحية الاتفاق السياسي الذي أنشئت بموجبه السلطة التنفيذية الحالية في ليبيا، ممثلة في حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي، ليزيد من تعقيدات المشهد المأزوم، خاصة بعدما تمسك عبد الحميد الدبيبة رئيس الحكومة القائمة في طرابلس بعدم تسليم صلاحياته إلى الحكومة المكلفة من مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا، وفشل البرلمان والمجلس الأعلى للدولة في التوصل لاتفاق بشأن الوثيقة الدستورية.
اقرأ أيضًا.. “حديث التسوية والمصالحة” مع الإخوان.. “ليس متفقا عليه” والإشارات متضاربة
ويتمسك باشاغا ومن خلفه معسكر الشرق الليبي بانتهاء صلاحية حكومة الوحدة الوطنية، في الثاني والعشرين من يونيو الماضي، بسبب انتهاء الـ18 شهرًا، وهي فترة خارطة الطريق التي حددها اتفاق جنيف في 2020 وجاءت بالدبيبة رئيسًا للحكومة. في المقابل يرى الدبيبة أنه لا يمكن الاستناد إلى هذا الترويج كون دوره بالأساس مرتبط بإجراء الاستحقاقات الانتخابية، والتي لم تتم بعد. إذ اعتبر في السياق ذاته أنه بنفس منطق باشاغا فإن مجلس النواب الذي كلفه لقيادة حكومة جديدة (منتهي الصلاحية) حيث انتخب لفترة ثمانية عشر شهرًا، وها هو يقبل على عامه الثامن كسلطة تشريعية دون أساس دستوري أو قانوني، تحت دفع أنه جسم منتخب وهو ما يقدح في شرعية مجلس النواب أيضًا.
حالة التشبث بالمواقف من جانب الفرقاء الليبيين، وسط استناد كل منهم على شرعية الأمر الواقع، أو دعم أطراف خارجية تجعل ليبيا أمام عدد من سيناريوهات مشوهة تقود إلى إطالة أمد الأزمة ومعاناة الليبيين.
مزيد من الفوضى
قد يدفع إطالة أمد الأزمة في ليبيا إلى العودة إلى المربع صفر مجددًا حيث الفوضى، لكن هذه المرة على نطاق أوسع كثيرًا، في ظرف دولي وإقليمي لا يمكن معه للقوى الدولية، وجيران ليبيا تحمله، فيما أنهى رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، الخميس الماضي، لقائهما في جنيف الذي عرف بـ”لقاء الفرصة الأخيرة”، دون توقيع الوثيقة الدستورية؛ بسبب استمرار الخلافات، حول شروط الترشح للرئاسة وصلاحيات الرئيس في القاعدة الدستورية الواجب إقرارها كونها بمثابة الخطوة الأولية لإجراء الاستحقاقات الانتخابية المعطلة.
كما ظهرت مؤشرات لتشكل حكومة ثالثة موازية في الجنوب الليبي “تتولى العمل على تلبية احتياجات ومتطلبات منطقتهم، أسوة بالمنطقتين الشرقية والغربية” بحسب البيان الذي أصدره خليط من أهالي وأعيان مدن الجنوب، وأنصار الرئيس السابق معمر القذافي، الذين الذين دعوا المنتسبين للجيش من أبناء الجنوب العسكريين إلى الانسحاب من المؤسسة العسكرية وتشكيل قوة موازية في الجنوب لتأمينه وحمايته”، دون أن يتناسوا المطالبة بـ”إنهاء جميع المراحل الانتقالية في ليبيا، وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية دون إقصاء، بعد الإفراج عن القائمة النهائية لمترشحي الرئاسة” والتي يتواجد بها اسم سيف الإسلام القذافي.
عقب إصدار البيان سرعان ما دخل مجلس فزان الأعلى على الخط، واصفًا تلك الخطوة بالتمرد، معتبرًا أنها محاولة لتقسيم ليبيا عبر إعلان حكومة موازية في الجنوب.
اقرأ أيضًا.. سيناريوهات ما بعد أبو مازن
خطورة الخطوة التي أعلنها أنصار القذافي في الجنوب، رغم كونها مجرد ورقة ضغط حتى الآن، تكمن فيما قد يستتبعها من صدام مسلح بين أنصار المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي (قوات الشرق)، والذي لن يفرط في انفصال الجنوب عنه كونه يمثل توازنًا جغرافيًا واجتماعًا، وبين أتباع سيف الإسلام القذافي الذي يحظى بقاعدة شعبية كبيرة في إقليم فزان.
وما يزيد من فرص الصدام العسكري إذا ما وجدت الحكومة المزعومة الجديدة طريقا لها إلى أرض الواقع، هو الشعور المتنامي لدى القذافي وأنصاره بفائض القوة، اعتمادًا على القوة البشرية الكبيرة لقبائل التبو والطوارق المساندة لهم، إضافة إلى قوة السلاح والعتاد، التي تمكنت من تجميعها خلال أعوام الصراع الماضية، وبخلاف قبائل التبو والطوارق، يميل موقف دول الحزام الحدودي الجنوبي لليبيا، على غرار النيجر وتشاد وبدرجة أقل الجزائر، إلى سيف في مواجهة حفتر.
هذا الصدام حال حدوثه لن يكون محليًا، نظرًا لطبيعة الموقع الاستراتيجي لإقليم فزان في الجنوب، الذي يطل على أكثر من دولة أفريقية، كالجزائر وتشاد والنيجر، كما يزخر بثروات طبيعية ومنجمية عدة، إذ تتركز فيه أهم الحقول النفطية من حيث الإنتاج على غرار حقل الشرارة النفطي، أكبر الحقول الليبية من حيث القدرة الإنتاجية التي تتجاوز 300 ألف برميل يوميًا، إضافة إلى أحواض المياه الجوفية، وجميعها عناصر كفيلة، بتداعي القوى الخارجية على الصراع.
سيناريو الجمود
في مقابل سيناريو الفوضى، يظل سيناريو جمود الأوضاع قائمًا ومرشحا بقوة للاستمرار، بحيث يظل رئيس حكومة الوحدة الوطنية في موقعه، مستندًا على عدة عوامل، هي الاعتراف الأممي، ودعم بعض الأطراف الدولية والإقليمية ذات التأثير الكبير في المشهد الليبي، ومحافظ البنك المركزي بطرابلس الصديق الكبير، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، بالإضافة إلى المليشيات الأكبر في العاصمة.
في المقابل سيستمر رئيس الحكومة المكلفة “باشاغا”من مجلس النواب في محاولاته الرامية لإزاحة غريمه (الدبيبة)، مستندًا على دعم مجلس النواب، وقوات شرق ليبيا وقائدها حفتر.
وما يعزز من تلك الاحتمالية الخاصة ببقاء الأوضاع على ما هي عليه، هو الوضع الدولي الراهن الذي خيم على المشهد في ليبيا، في وقت لا ترغب فيه الإدارة الأمريكية والقوى الغربية الكبرى في تفجير أزمة جديدة تزيد من أوجاع سوق الطاقة العالمي، الذي تعد ليبيا أحد مصادره المهمة.
إضافة لذلك لا يوجد رؤية دولية موحدة متفق عليها فيما يخص الأزمة الليبية، ولعل أبرز ما يدلل على ذلك، هو الخلاف الدائر بشأن اختيار مبعوث جديد لليبيا خلال الفترة القادمة، وهو ما ظهر جليًا خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي بشأن ليبيا الأسبوع الماضي، عندما عرقلت الإمارات العضو غير الدائم والتي تعد بمثابة ممثل المجموعة العربية، مقترح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرش لتعيين وزير الخارجية الجزائري الأسبق صبري بوقادوم مبعوثًا أمميًّا إلى ليبيا، وساندها في ذلك روسيا التي دعا ممثلها خلال الاجتماع إلى “اتباع نهج مدروس ومتوازن” في بحث الأمين العام عن مبعوث جديد، مشدّدًا على ضرورة أن يراعي في خياره آراء الأطراف الليبية والفاعلين الإقليميين.
حكومة جديدة دون الدبيبة وباشاغا
فتح البيان الصادر عن الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، في الخامس والعشرين من يونيو الماضي، والذي أعلنو فيه دعمهم لتشكيل حكومة ليبية موحّدة قادرة على الحكم وإجراء الانتخابات، وتأكيد رفض أي إجراء قد يؤدي للانقسام في ليبيا مثل إنشاء مؤسسات موازية أو الاستيلاء على السلطة بالقوة، باب التكهن واسعًا بشأن إمكانية التوافق بين القوى الكبرى اللاعبة في المشهد الليبي حول تشكيل حكومة جديدة موحدة، تعمل على تهيئة المشهد لإجراء الاستحقاقات الانتخابية المعطلة.
بيان الدول الخمس كان واضحًا ودقيقًا في عباراته واختيار مفردات لا تحتمل التأويل، فالقول بأن “الانتخابات لم تقع”، يفهم منه بأنها هي الحاكم في تحديد أجل اتفاق جنيف وليس تاريخه، والنص على رفض المؤسسات الموازية والاستيلاء على السلطة بالقوة موجه إلى الحكومة الليبية بقيادة باشاغا – الذي حاول دخول العاصمة في وقت سابق تحت حراسة بعض المليشيات ما أدى لوقوع مصادمات مسلحة قبل أن يضطر للخروج سريعًا – والتوجيه بأن ليبيا في حاجة إلى حكومة موحدة قادرة على إجراء الانتخابات في كل أنحاء البلاد، يحمل إشارة واضحة الدلالة بأن الإدارة الأمريكية والدول الأوروبية الفاعلة تؤيد خيار حكومة جديدة، كون حكومة الدبيبة أو حكومة باشاغا غير قادرتين على تنفيذ الانتخابات في كل أنحاء ليبيا.
ورغم أن البيان يحمل مفردات موجهة بالأساس ضد الرجلين (باشاغا والدبيبة) إلا أن كليهما أخذ منه ما يعوم به موقفه المتردي، فرئيس حكومة الوحدة رأي فيه أنه “ينسجم مع موقف حكومته الرافض للعنف، أو الاستيلاء على السلطة بالقوة أو خلق أي أجسام موازية”، فيما اعتبر باشاغا أنه حكومته هي المقصودة بما يتعلق بالدعوة إلى حكومة ليبية موحدة قادرة على الحكم، وإجراء الانتخابات في جميع أنحاء البلاد.
ختامًا يمكن القول أن مستقبل ليبيا سيظل رهن حدوث توافق دولي وإقليمي حول رؤية تراعي مصالح كافة الأطراف الدولية والإقليمية ودول الجوار، وهو الأمر الذي سيضع حدا لممارسات المكونات الداخلية التي تستند بالأساس على دعم أطراف خارجية.