وافق كل من مجلس الدوما والمجلس الفيدرالي الروسيين على مشروع القانون الذي قدمه الرئيس فلاديمير بوتين بشأن تعليق مشاركة روسيا في معاهدة تخفيض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية (ستارت). حيث أعلن بوتين أن بلاده “ستعلق مشاركتها في تلك المعاهدة، لكنها لن تنسحب منها”.
يعني ذلك، حسب تفسير الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف، أن موسكو لن تنسحب من معاهدة تخفيض الأسلحة الاستراتيجية (ستارت)، وأن الحديث يدور عن تعليق العمل بها. غير أن الأهم هو ما حاول بيسكوف تمريره بشكل سريع، مشيرا إلى أن “الهدف الرئيسي هو التأكد من استمرار احترام التكافؤ النووي”.
إن معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية تم تمديها في يناير/ كانون الثاني 2021 لمدة 5 سنوات. وسينتهي مفعولها في يناير/ كانون الثاني 2026. ما يعني أن هناك ما لا يقل عن عامين ونصف العام للتفاهم حول هذه المعاهدة، وصياغة النسخة الجديدة منها. والمعروف أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أراد تجميد هذه المعاهدة، انطلاقا من فكرة أن الصراع المقبل سيكون بين الولايات المتحدة والصين، وان روسيا خارج هذا الصراع.
وفكرة ترامب خطيرة بحد ذاتها، لأنها تحتمل أيضا أن روسيا أصبحت ضعيفة بالقدر الذي لم تعد تشكل معه أي خطر على الولايات المتحدة. ولكن بمجيء الإدارة الديمقراطية، تم توقيع المعاهدة لمدة 5 سنوات وليس لمدة 10 سنوات كما هو معمول به منذ توقيعها لأول مرة عام 1991.
اقرأ أيضا: المفرمة الأوكرانية.. الغزو الروسي على مشارف العام الثاني
من الواضح أن “تعليق” روسيا العمل بالمعاهدة، مع إعلانها في الوقت نفسه بأنها “لن تتركها أو تنسحب منها، لكنها ستعلق العمل بها، لأن ما تريده الولايات المتحدة ودول أخرى من عمليات تفتيش ليس ممكنا في ظل المواجهة الحالية، التي ينخرط فيها الناتو بشكل أعمق. إضافة إلى أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار القدرات النووية لبريطانيا وفرنسا”، هو شكل من أشكال الضغط المستميت للخروج بأقل الخسائر من الورطة العسكرية والاقتصادية الحالية، سواء كانت الحرب في أوكرانيا أو العقوبات الاقتصادية الغربية على موسكو.
إن موسكو تواصل طرح سردياتها بشكل فوري ومتوتر وغير مسبوق. فمن تعدد القطبية إلى تهديد الغرب بإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا إلى بدء الغرب باحتلال أوكرانيا وشن الحرب أولا ضد روسيا بينما الأخيرة تحاول وقف هذه الحرب بقوة السلاح إلى مقاومة روسيا الاستعمار الأمريكي للشعوب السلافية إلى محافظة روسيا على الديانات السماوية ومسؤوليتها التاريخية عن الأرثوذكسية السلافية… كل هذه السرديات تتجه نحو تبرير أي خطوات مقبلة، أو حتى سابقة لروسيا، سواء في أوكرانيا أو في أوروبا الشرقية أو في كل أوروبا.
بعد إعلان بوتين تعليق العمل بمعاهدة “ستارت”، اتهمت وزارة الخارجية الروسية مجددا الولايات المتحدة بتقويض الأمن القومي لروسيا، وبدلا من طرح وقائع على أرض الواقع، أشارت إلى أن “موسكو تملك كل الأسباب للاعتقاد في هذا الأمر”. ثم قال الناطق باسم الكرملين إن موسكو “ستكون مستعدة للعودة إلى تطبيق معاهدة ستارت حالما يصبح الغرب مستعدا لمراعاة مخاوف روسيا المشروعة. ولكن رد فعل الغرب على تعليق روسيا مشاركتها في المعاهدة لا يجعلنا نأمل في استعداده للمفاوضات. ومع ذلك ستتحلى روسيا بالصبر في انتظار أن ينضج الغرب لإجراء حوار طبيعي حول ستارت”.
لكن بيان الخارجية الروسية كان أكثر وضوحا إذا ذكر بأنه “من أجل الحفاظ على درجة كافية من القدرة على التنبؤ والاستقرار في مجال القذائف النووية، تعتزم روسيا مواصلة الامتثال الصارم للقيود الكمية المفروضة على الأسلحة الهجومية الاستراتيجية التي نصت عليها المعاهدة. كما أعلنت بأنها ستواصل تبادل البلاغات مع واشنطن بشأن إطلاق الصواريخ الباليستية العابرة للقارات وإطلاق الصواريخ الباليستية من الغواصات، بناء على الاتفاقية ذات الشأن الموقعة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة عام 1988”. وأكدت الوزارة أيضا بأن “قرار تعليق العمل بمعاهدة ستارت قد يكون قابلاً للتراجع، ولهذا يجب على الولايات المتحدة إظهار الإرادة السياسية وبذل الجهود لوقف التصعيد وتهيئة الظروف لاستئناف العمل الكامل بالمعاهدة”.
إن موسكو تحاول الإمساك بأكثر من بطيخة بيد واحدة. ولكن الأوضح هو أنها تحاول قدر الإمكان وبعد مرور عام كامل على شنها الحرب في أوكرانيا أن تقلل خسائرها إلى الحد الأدنى ولو حتى إعلاميا. فهي قد ضمت 4 مناطق أوكرانية إلى قوامها ولم تسيطر عليها بالكامل حتى بداية العام الثاني في أكبر مجزرة في مطلع القرن الواحد والعشرين والتي لم يكن يتوقعها أحد في الشرق أو الغرب بعد مآسي وكوارث الحربين العالميتين في القرن العشرين. وما يدعم هذا الكلام هو التهديدات المتواصلة من جانب موسكو باستخدام “الأسلحة النووية” والتي تتأسس على سردية اتهام الغرب بأنه يريد إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا. فبعد تصديق مجلس الدوما الروسي على تعليق العمل بالمعاهدة، عاد نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي دميتري ميدفيديف لتصريحاته الحادة، حيث قال إنه “إذا ما أوقفت روسيا عملياتها العسكرية في أوكرانيا دون تحقيق النصر فلن تبقى روسيا موجودة، وسيمزقونها إلى أشلاء. وإذا أرادت الولايات المتحدة هزيمة روسيا، فيحق لنا الدفاع عن أنفسنا بأي سلاح، بما في ذلك السلاح النووي”.
اقرأ ايضا: حربان مختلفتان.. ما كشفه غزو أوكرانيا عن صراع العقل والعضلات
إن فشل روسيا طوال عام كامل من تحقيق مقاربة مشابهة لما حدث في أزمة الكاريبي عام 1962، يدفعها تدريجيا ليس فقط إلى تصريحات متطرفة ومثيرة للرعب، بل وللجنوح نحو حالة من التطرف، والتلويح العلني المباشر بالعصا النووية. بل وتسير الأمور بشكل سيء للغاية، إذ تتصرف موسكو من موقع المنتصر في حرب لم يحقق فيها أحد أي انتصارات. فهي بتعليقها المشاركة في معاهدة ستارت، أضافت شروطا جديدة للغاية، ألا وهي ضم حلف الناتو إلى المعاهدة، وجمع الرؤوس النووية لدى كل من فرنسا وبريطانيا مع الترسانة الأمريكية. وهذه هي فكرة “احترام التكافؤ النووي” التي يريد الكرملين تمريرها لتصبح أحد فروع السردية الروسية التي تكاد تقترب من “الرسالة الدينية” الغيبية.
إن كل الشواهد تشير إلى أن الحرب الحقيقية على الأرض تبدأ الآن مع بداية العام الثاني، حيث حجم الدمار المقبل لا يمكن تحديده أو حساب نطاقاته. فمع الأيام الأخيرة من العام الأول زار الرئيس الأمريكي جو بايدن أوكرانيا وبولندا. وربما تكون زيارة أوكرانيا مهمة من حيث رمزيتها وتوقيتها، وبالطبع دعمها للإدارة الأوكرانية. ولكن الأهم تاريخيا ورمزيا وسياسيا وعلى مستوى المواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا، هي زيارة بايدن إلى بولندا، ولقاء الرئيس البولندي أندريه دودا في العاصمة وارسو. ولم يقتصر الأمر على لقاء الرئيس البولندي، وإنما لقاء بايدن، وفي وارسو نفسها، مع زعماء قمة “بوخارست للدول التسع” (بلغاريا والمجر ولاتفيا وليتوانيا وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك وإستونيا).
إن بايدن، وبعد انهيار حلف وارسو والاتحاد السوفيتي قبل أكثر من 30 عاما، يصل إلى مقر الحلف في “وارسو” ويلتقي زعماء دول كانت في حلف وارسو وهي الآن في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، ليوجه من هناك رسالة مهمة، ربما تضمنت أفكارا لسنوات عديدة مقبلة من القرن الحالي. ومن ضمن تلك الرسائل، رسالة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يدخل عامه الثاني من الحرب في أوكرانيا وهو لم يسيطر بعد على أي من المناطق الأوكرانية الأربع التي أعلن عن ضمها إلى قوام روسيا الاتحادية. وفي الحقيقة، فزيارة بايدن إلى “وارسو”، التي لا تقتصر فقط على كونها عاصمة لبولندا وإنما مركز حلف وارسو السابق وما يحمله من تداعيات تاريخية، هي زيارة خطيرة ومهمة من حيث رمزيتها وتاريخيتها ودلالاتها السياسية و”العسكرية” أيضا. وما يعزز ذلك، هو تصريحات أمين عام حلف الناتو الذي أعلن بأن الرئيس بوتين “لا يريد السلام”. ما يعني أن الحرب الأوكرانية مستمرة من جهة، والمواجهة الروسية- الغربية متواصلة لسنوات طويلة مقبلة من جهة أخرى. وهنا لا يمكن تجاهل أحد التلميحات الخطيرة التي أشار إليها الرئيس الأمريكي جو بايدن في وارسو، ألا وهو أن قمة الناتو الاستثنائية في الولايات المتحدة ستحمل “مفاجأة” تاريخية. والحديث يدور هنا ربما عن تغييرات هيكلية في حلف الناتو، أو استحداث أشكال دفاعية أخرى تضم دول الناتو أو دول من الناتو.
وعلى الجانب الآخر، حشد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مظاهرة ضخمة في العاصمة الروسية في شكل فعالية أقيمت في استاد “لوجنيكي” بموسكو، خصصت ليوم “حماة الوطن”، ودعما للعمليات العسكرية الروسية بأوكرانيا. وقال أمام آلاف المحتشدين إن “القتال يجري الآن على أراضينا التاريخية دفاعا عن مواطنينا”.. و”إننا بينما نحمي مصالحنا، ونحمي شعبنا وثقافتنا ولغتنا وبلادنا، يصبح الشعب بأجمعه هو المدافع عن الوطن”. ودعا بوتين الحشود التي حضرت الاحتفال إلى الوحدة والاصطفاف لدعم العمليات العسكرية في أوكرانيا ومساندة المقاتلين الروس هناك. وتأتي كلمة الرئيس الروسي بمناسبة يوم “حماة الوطن” وقبل يومين فقط من بداية العام الثاني للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا. ما يعني أن الكرملين يسير قدما نحو تطوير العمليات العسكرية، وهذا ما سنشهده خلال الأسابيع المقبلة.
إن الحرب تتسع تدريجيا، ولكن “القتال” لا يزال في حدود أوكرانيا. وروسيا تريد- من موقع المنتصر- مراجعة الترسانات النووية للغرب كله وليس فقط للولايات المتحدة. بينما الغرب يوسع من إمدادات السلاح كما وكيفا لأوكرانيا، ويوسع أيضا من عقوباته على روسيا. ولا شك أن نخبة الكرملين لا تزال تعول على “ثورات” غربية في أمريكا وأوروبا، وتدهور الأحوال المعيشية هناك، وأن تؤثر زيادة ميزانيات الدفاع على مستوى معيشة الأفراد وحرمان الأوروبيين من حياة الراحة والبحبوحة التي اعتادوا عليها بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي. ولكن يبدو أنه على الرغم من الضغوط الكثيرة على الحكومات الغربية، فإن الاستعدادات على قدم وساق للدخول في مواجهات مع روسيا. وربما يكون من السابق لأوانه الحديث عن مواجهات عسكرية مباشرة، ولكن لا يمكن استبعادها في ظل هذا التصعيد غير المسبوق. غير أن الفارق بين حجم اقتصادات دول الغرب مجتمعه وبين الاقتصاد الروسي واضح وضخم، ولا يمكن مقارنة الاقتصادين أصلا. وهو ما سيلعب دورا مهما في الحسابات النهائية. وربما ينطبق ذلك أيضا على القدرات العسكرية والحالة النوعية للأسلحة. ما يعيدنا مرة أخرى إلى بعض المقاربات السابقة إبان الحرب الباردة التي انتهت لصالح الاقتصادات والعلوم الغربية ولصالح الترسانات العسكرية والتكنولوجية في الغرب أيضا.