تعيش مصر حاليا لحظة وطنية حرجة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، وهي لحظة تتطلب عميق التفكير في الفاعلين في المعادلات الداخلية المصرية، من هم؟ وكيف يفكرون؟ وهل يمكن للجميع الوصول للحظة نجاة للوطن من سيناريوهات لحظة غير محسوبة يختلط بها الحابل بالنابل الذي يسعى له الإخوان المسلمون أصحاب الثأر من النظام السياسي الراهن؟.
اقرأ أيضا.. كيف يستفيد الأفارقة من التموضع الأمريكي في إفريقيا؟
أطراف المعادلة أقواهم سلطة سياسية متمرسة تعلم حرج اللحظة ووضعت استراتيجيات الاحتواء لهذه اللحظة الحرجة منذ ربيع هذا العام، وذلك مع تصاعد معدلات التضخم ووجود احتقان سياسي واجتماعي باتت مهددة لغالبية النظم السياسية للدول المتوسطة.
آلية الاحتواء التي تم التفكير فيها واللجوء إليها هي الحوار الوطني، الذي تمت هندسته ليكون فضفاضا غير محدد، وتمت مأسسته بطريقة بيروقراطية تضمن انخراط نخب متنوعة بعناوين فرعية دون عنوان جامع كان من المفترض أن يكون الإصلاح السياسي والاقتصادي، وأيضا دون آليات تنفيذ محددة ودون التزام من جانب السلطة بتنفيذ مخرجات الحوار ولكن مع الوعد بالنظر فيها طبقا لمنطوق كلمات الرئيس الذي قال في ختام المؤتمر الاقتصادي إن ماتم طرحه هو ما يعرفه طلبة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وأنه دون آليات ومناهج تنفيذ واقعية.
في المقابل لدينا حزمة من الأحزاب هي فريقان: أحزاب مصنوعة تمت هندستها من جانب أجهزة سيادية بعد تولي الرئيس عبد الفتاح السياسي كي تقوم بأدوار الروافع السياسية للنظام،وأحزاب موجودة على الساحة السياسية المصرية قبل وبعد ثورة يناير متنوعة القوة والتأثير والكفاءة السياسية، لها أطروحات معارضة فيما يتعلق بالسياسيات الحكومية على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ولكنها لا تجد المنصات المناسبة للإعلام عن مواقفها، والتعريف بأطروحاتها، وذلك نظرا لحقيقة انخفاض الأسقف السياسية وفقدان الحريات الإعلامية والصحفية التي ينفتح فيها الهامش وينغلق بفروق بسيطة جدا وبتوجيهات سلطوية.
أما مراكز القوة في المجتمع المصري فهي بالأساس من رجال الأعمال الذين ينقسمون فرقا بعضها له علاقات مباشرة بعواصم عالمية، والآخر في علاقة عضوية بالسلطة وفريق ثالث رمزه المتحرك جمال مبارك في الواجهة السياسية والإعلامية وبديل يسعى وراءه من يراهنون على أن ذاكرة المصريين قد تنسى جرائم ارتكبها والده في الناس وحق المصالح الاستراتيجية للدولة المصرية ليس أقلها فقدان الأدوات المناسبة في التعامل مع تحدي سد النهضة منذ تسعينيات القرن الماضي.
وبحكم غياب آليات التفاعل السياسي الصحيحة والصحية في مصر حاليا برزت الأطراف الخارجية كفاعل في المعادلة الداخلية منتهزة فرصة أزمة النظام السياسي، وطبيعة الاحتقان السياسي والاقتصادي الداخلي، فضلا عن الآليات المعتادة في ملف انتهاكات حقوق الإنسان بعنوانه الأبرز قانون الحبس الاحتياطي.
وقد بلورت الأطراف الخارجية مشروعها باستراتيجيات تحقيق الفوضى وبأدوات التحريض الإعلامي، وهو ما تطلب تدشين محطتين فضائيتين جديدتين بتمويل مجهول تكثر حولة الشائعات، وكذلك توظيف رموز لا قيمة سياسية لها، ولا تطرح مشروع سياسيات بديلة عن المسارات الراهنة مثل المقاول والسيدة والفنان وغيرهم ممن يتناوبون الأدوار للتحريض في تواريخ متنوعة.
هذه الاستراتيجية تراهن على أنه مهما كان حجم التجاهل لهذه الدعوات في أي تاريخ مطروح، فإنه تحت مرجل الضغط السياسي، والتضخم الاقتصادي، والجنوح السلطوي لعدم الولوج نحو إصلاح حقيقي لابد وأن تشتعل شرارة الفوضى التي سوف يكون وقودَها الأساسي المهمشون والجياع.
وحسابات الأطراف السياسية هنا أمرين الأول: أن هذه الفوضى هي دون قوى سياسية منافسة ولا طلائع شبابية متعلمة، وطبقا لذلك ستكون دون مشروع محدد للتغيير، بما قد يجعل ثمرة السلطة دانية للأطراف الساعية للسلطة في مصر أما الأمر الثاني فهو خطابات المظلومية من جانب الإخوان المسلمين التي مازالت مطروحة، وتملك وجاهة وجود سجناء، وغياب رموز في المهاجر، فضلا مع ما يملكونه من قواعد اجتماعية على الأرض سواء المحسوبة على تنظيم الإخوان المسليمن أو دوائر المتعاطفين دينيا وليس سياسيا بما يجعلهم وقودا إضافيا للفوضى المطلوبة.
في هذا التوقيت وتحت ضغط الأزمة تجنح استراتيجيات نخب السلطة وأجهزتها نحو محاولة ترميم العلاقة مع قوى 30 يونيو التي أهدرتها دون روية ولا استبصار بطبيعة المعركة ضد الإخوان المسلمين ولا أدواتها السياسية المطلوبة، وفيما يتعلق بمراكز القوى الاقتصادية المناوئة فإن السلطة هنا تراهن في مناوئتها على قوى سياسية بعينها تملك أيدولوجيات بطبيعتها تنحاز لسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج وفي القلب منهم الناصريون الذين مازالوا يملكون رصيدا في الشارع بزعيمهم الأبرز جمال عبد الناصر.
وهكذا فإن تفاعلات في المشهد الراهن في مصر تشير بوضوح إلى احتياج السلطة للقوى السياسية الراهنة في مواجهة أعدائها على الصعيدين الداخلي والخارجي ولكن هذا الاحتياج لم يتبلور في اتجاه تغيير السياسيات الراهنة خصوصا على الصعيد الاقتصادي، وهو مابرز من خطابات الرئيس في المؤتمر الاقتصادي وعلى المنصات الإعلامية التي قدم فيها تبريرا للسياسيات أكثر ماعبر عن نية في تغييرها بكلمات واضحة.
أما على الصعيد السياسي فقد قدمت السلطة السياسية تنازلات محدودة جدا تبلورت في الإفراج عن مجموعة كبيرة من السجناء السياسيين دون تغيير قانون الحبس الاحتياطي حتى الآن وبغياب إرادة سياسية تجعل المعارضة جزءا من المعادلة السياسية.. أي وجود مؤثر في البرلمان وقدرة على طرح الرؤى السياسية والاقتصادية في المجال العام المصري.
المأزق الحقيقي هو ما تواجهه حاليا قوى 30 يونيو سواء قواها السياسية أو نخبها الاقتصادية والاجتماعية المناهضة للإخوان المسلمين وللفوضى معا، فهي لا تستطيع ولا يجب أن تنخرط بالكامل مع سلطة ثبت فشل سياستها في تحقيق الاستقرار السياسي، وكانت جزءا كبيرا من المأزق الاقتصادي في مواجهة أعداء هذه السلطة كما فعلت عام 2013 حين كان يحدوها الأمل في تحول ديمقراطي خصوصا وأن ماتطرحه هذه السلطة حاليا هو استراتيجيات للاحتواء والإشغال السياسي أكثر ما تطرح رؤى لسياسات بديلة على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
قوى 30 يونيو أيضا لا تستطيع أن تكون جزءا من سيناريو الفوضى الذي يخطط له الإخوان المسلمون ومن وراءهم من قوى خارجية، خصوصا وهم من خبروا كيف باعهم الإخوان للدخول في صفقة مع المجلس العسكري، وذلك رغم أن هذه القوى ونخبها كانت تدعو طوال عقود إلى إدماج الإخوان المسلمين في العملية السياسية، كما تحالف معهم بعض الأحزاب.
قوى 30 يونيو أيضا لن تستطيع أخلاقيا ولاسياسيا إدانة خروج الناس للشوارع وهم يأنون من غائلة فقر وعوز، ولن تستطيع أن تكون معهم وتشارك في سيناريو الفوضى المخطط.
هذا المأزق يتطلب إدراكا سياسيا يمكن بلورته في النقاط التالية:
أن الصفقات الجزئية المطروحة حاليا لن تكون مفيدة لا للسلطة ولا للقوى السياسية ولا لمستقبل هذا الوطن.
أن التفاهمات الثنائية بين س أو ص من القوى السياسية يعني أن هذه القوى معرضة لحالة توظيف واستعمال أكثر منها قادرة على إحداث تأثير من شأنه إحداث تغيير ويجب على الجميع أن يتعلم من درس 2012 مع الإخوان.
إن التحالف الواسع المخلص بين القوى السياسية على أسس برنامج سياسي متفق عليه هو مايجعل هذه القوى وازنة في أي عملية تفاوض سياسي مع السلطة، وقادرة عبر هذا التحالف فقط على الضغط لتحقيق الإصلاح السياسي والاقتصادي بآليات سلمية وتفاوضية قبل حدوث الشرارة التي يريدها الإخوان ومن وراءهم.
إن خطأ السياسيات له تكاليف يجب أن يسعى النظام والقوى السياسية معا أن تكون تكلفتها إصلاحا متفقا عليه، وليس معارك دوكيشوتية لإبراء الذمة من ناحية وتضخيم قدرات أعداء النظام من ناحية أخرى.
وأخيرا إن قوى 30 يونيو لو انتبهت في التوقيت المناسب لضرورة وحدة موقفها ومصداقية طرحها سوف تجد كل دعم جماهيري يساعد في عملية إصلاح بلا تكلفة باهظة بما يعني الحفاظ على مؤسسات الدولة، ويصون مقدرات الشعب المصري ويتجنب فوضى لا يريدها أحد.