نادرةٌ كانت المقالات التي أُتيح لقارئ العربية غير المُتخصص أن يطالعها مطبوعةً أو على الشبكة العنكبوتية عن الفتى المعجزة الذي يحلو لمتابعيه أن ينادونه بالأحرف الأولى من إسمه “SBF” إلى أن وقعت الواقعة. إنه الملياردير الأمريكي السابق “سامويل بانكمان فرايد” البالغ من العمر ثلاثين عامًا، خريج معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والمؤسس والرئيس التنفيذي السابق لشركة FTX وهي شركة بورصة العملات الرقمية المُشَفرة والتي يقع مقرها في دولة “أنتيجوا وبربورادا” البالغة مساحتها الإجمالية عشرة كيلومترات في الكاريبي ومالك شركة “ألاميدا للأبحاث” وهي شركة أمريكية لتداول العملات الرقمية.
اقرأ أيضا.. بيتهوفن ضد بيتهوفن
انهارت ثروة الفتى المعجزة التي رَاكمها من التجارة بالأموال الرقمية المُشَفرة فجأة من 15.2 مليار دولار إلى 991.5 مليون دولار في مطلع الشهر الماضي، لتبدأ الوقائع المثيرة في الانكشاف شيئًا فشيئًا حتى أتانا اليقين يوم الثلاثاء الماضي على وَقْعِ زلزالٍ مُدوٍ حين وَجَه “داميان ويليامز” المُدعى العام الأمريكي لمنطقة جنوب نيويورك “لبانكمان” اتهاماتٍ بالتزوير والتآمر لارتكاب جرائم لغسل الأموال والتآمر للاحتيال على الولايات المتحدة وانتهاك قوانين تمويل الحملات الانتخابية.
كان “بانكمان” الذي أُلقي القبض عليه قبل ذلك بساعات في “ناسو” عاصمة جزر “الباهاما”، قد تبرع لحملة “جو بايدن” الرئاسية بتمويل بلغ 5.2 مليون دولار ثم 40 مليون دولار أخرى لتمويل الحزب الديمقراطي الأمريكي في انتخابات التجديد النصفي الفائتة.
جاءت اتهامات المُدعي العام الأمريكي “الجنائية” إِثر اتهاماتٍ “مدنية” وجهتها هيئة الأوراق المالية الأمريكية للفتى المعجزة بالاحتيال على المستثمرين من خلال إنشائه لشركة كانت “بيتًا من ورق” حسب نص مذكرة الهيئة، حيث صرح المدعي العام للصحافة: “نحن لم ننتهِ بعد، لكن يمكنني القول بإن تلك القضية هي واحدة من أكبر عمليات الاحتيال المالي في التاريخ الأمريكى”.
وقال “جون راي” الرئيس التنفيذي الجديد لشركة FTX وهو صاحب تاريخ عريق في الإشراف على تسوية حالات إفلاس تاريخية مثل شركة إنرون للطاقة في جلسة استماع عُقدت خلال الأسبوع الماضي بالكونجرس أنه لم يشهد في حياته المهنية التي تزيد عن الأربعين عامًا مثل هذه الفوضى العارمة بالحسابات وهذا الغياب الكامل بالرقابة الداخلية في شركة FTX لينهى شهادته بقوله: “كان مجرمو شركة إنرون أكثر تعقيدًا بينما شارك المسئولون التنفيذيون لشركة FTX في عملية اختلاس على الطراز القديم”.
في ذات جلسة الاستماع، أدلى النائب الديمقراطي “براد شيرمان” بتصريحٍ في غاية البلاغة: “أخشى ألا يكون “بانكمان” ثُعبانًا وحيدًا بجنة عدن، لكن الحقيقة هي أن العملات الورقية المُشفرة ليست سوى جنة من الثعابين”.
من الزاوية المالية، يمكننا القول بأن هناك خطرا عظيما أثبتت الأحداث الجسام مَدى كُمُونِه مُتأصِلًا بالأسواق المالية الأمريكية -على وجه الخصوص- تطور ليشمل أوهامًا تحت أسماء براقة كالمشتقات وغيرها، ثم ازداد تطورًا بمرور الزمن حين اختُرِعَت العملات الرقمية المُشفرة التي ازدهرت في فوضى تاريخية أظنها ستؤول قريبًا إلى مأساةٍ كبرى. كنت قد كَتَبتُ كثيرًا بمقالاتٍ سابقة عن الاقتصادي الأمريكي الفذ “هايمان مينسكي” الذى توفي في العام 1996، وكان له أبحاثًا تتعلق بهشاشة الأسواق المالية الأمريكية ومَيلِهَا لتكوين فقاعات تقوم على المضاربة مما يترتب عليه مستوى عالٍ من المخاطر التي تفضي إلى حالة من عدم الاستقرار المالي.
كانت رؤية “مينسكي” مبنية على تقييمه لحال أسواق المال في نهاية القرن الماضي قبل اختراع وهم العملات الرقمية المُشفرة بعقود فاتُهم بالهرطقة الاقتصادية والخروج عن مِلة ميلتون فريدمان وتابعيه، وإن رَدْت الأزمة المالية في 2008 له اعتباره وأثبتت صحة أبحاثه.
كان “مينسكي” يُحذر من نوعٍ من المُضاربة يعرف باسم “مُخَطط بونزي” Ponzi Scheme تأسس وفق أسلوب ابتكره المُحتال الإيطالي “تشارلز بونزي” يقوم على الحصول على أموال من المستثمرين لتشغيلها نيابة عنهم مقابل عائد مجزٍ جدًا يدفعه لهم من أموال مستثمرين لاحقين، وهو أسلوب اتبعته بعض شركات توظيف الأموال بمصر في ثمانينات القرن الماضي كتطبيق عملي للتعبير الشعبي المصري الشهير “بيلَبِس طاقية دَه لِده”.
كانت المشكلة التى تعمق “مينسكي” في دراستها وحذر منها بشأن “مخطط بونزي” تشير إلى قيام بعض المستثمرين المُغامرين بالإقتراض لأجل استثمار ما اقترضوه في شراء أصول ملموسة كالعقارات والمزارع، وأخرى غير ملموسة كالأسهم والسندات (مجرد أوراق فقط) تحت اعتقاد بأن قيمتها تتزايد باستمرار بالصورة التي تسمح لهم بسداد التزامات قروضهم من فوائد وأقساط والاستفادة بما يتبقى لهم بعد هذا السداد. كان الانهيار العظيم في 2008 مثالًا عمليًا لما حذر منه “مينسكي” حين انهارت قيم الأصول -وبالذات غير الملموسة منها- فتعثر من تعثر وأفلس من أفلس وتهاوت صروحٌ شُيدت من ورق.
من الزاوية السياسية، فإن هناك أسرارًا خفية يغمض القانون الأمريكي عينًا إزاءها ويفتح الأخرى بوسائل يتداخل فيها المال بالسياسة في أعرق الديمقراطيات وأكثرها رسوخًا وتمسكًا بتقاليد وأعراف حاسمة. مليئ بالتناقضات الحادة هو جوهر المنظومة السياسية هناك وإن بدت في مظهرها الخارجي مخالفة لذلك، فما بالنا وقد ارتبطت تلك التناقضات بسوق كبير لتداول أوراق وهمية لا وجود لها.
أثبتت التحقيقات التي لم تنته بعد، أن الفتى المعجزة قد شارك بتمويل الحملات السياسية الرئاسية والبرلمانية الأخيرة من “المال المُظلِم” Dark Money، وهو مصطلح يُقصد به المال المَخفيُ الذي لا يعلم أحدٌ مصدره، بغرض التأثير على المُشَرِعِين لتعطيل تنظيم أعمال “العملات الرقمية المُشفرة”.
ينص القانون الأمريكي بصفة عامة على ضرورة الإفصاح عن مصادر الأموال التي تتلقاها أي مؤسسة أمريكية لكنه استثنى نوعًا من المؤسسات، وهي المؤسسات التي لا تهدف لتحقيق الأرباح، فأتاح لها تلقى تبرعات لأعمال خيرية دون الإفصاح عن أسماء المتبرعين، وكانت تلك هي لُعبة “بانكمان” التي استغل فيها عين القانون المُغمضة.
أفصح “بانكمان” عن تبرعاته المباشرة باسمه للحملات الانتخابية بشكل شرعيٍ جدًا، لكنه في نفس الوقت قام بالتبرع بأموال هائلة لبعض المؤسسات المُستثناة من الإفصاح عن أسماء مُتبرعيها، كي تقوم هي لاحقًا بالتبرع للحملات الانتخابية دون أن يظهر اسمه وليقتصر تبرعه للتلك الحملات على ما أفصح شخصيًا عنه فتتوه في الظلام تبرعاته المَخفية غير الشرعية.
كانت “العملات الرقمية المُشفرة” هي التعويذة السحرية التي انفتح بها صندوق الأسرار الأمريكية الذي لا أظنه سينغلق قريبًا، ليخرج “بانكمان” كأول ثعابين جنة عدن كاشفًا العلاقة بين المال المُظلم وبيت الورق، بين ألاعيب الانتخابات وهشاشة الأسواق، لتبقى القضية مفتوحة أو كما قال “داميان ويليامز”: “نحن لم ننتهِ بعد”.