في إبريل، شهدت جامعة كولومبيا العريقة تظاهرات، واعتصامات طلابية، اجتاحت الحرم الجامعي، فبادر رئيس الجامعة بإدخال قوات الأمن للحرم الجامعي، مدججين بأدوات مكافحة الشغب لفض الاحتجاج، وسرعان ما بدأ رجال الأمن مهمتهم، مستخدمين العنف المفرط ضد الطلاب المعتصمين.
أسفر الفض عن اعتقال ما يقارب الـ 700 طالب، وإصابة العشرات، لكن القصة لم تنته هنا، فالواقعة زلزلت الولايات المتحدة بأكملها، واندلعت نتيجتها موجة من التظاهرات بين الطلاب في أرجاء المدن الأمريكية المختلفة.
كقارئ/ ة لهذه القصة، قد يتبادر لذهنك، أن السطور تروي ما حدث في إبريل الجاري مع التظاهرات الطلابية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني. ولكن الواقعة المشار إليها تعود إلى إبريل من العام 1968، عندما سيطر طلاب جامعة كولومبيا على خمسة مبان جامعية.
حينها تنوعت أسباب الحراك، فمجموعات من الطلاب، كانت تحتج على تورط الجامعة في أبحاث، تتعلق بحرب أمريكا في فيتنام، وآخرين يتظاهرون ضد المعاملة العنصرية التي تتعرض لها الأقليات العرقية، وبشكل خاص السود في الولايات المتحدة.
التشابه بين الإبريلين مذهل، فلم تكتف الصدفة بحدوثهما في نفس الجامعة والشهر فقط، بل أن ردة فعل إدارة الجامعة والشرطة الأمريكية، كانا مماثلين.
كما أن كلا الواقعتين ألهبتا مشاعر السخط والصمود بين الطلاب، وساهمتا في تمدد التظاهرات إلى مزيد من الجامعات والمدن الأمريكية.
مقارنة الإبريلين في جامعة كولومبيا، يمنحنا لمحة عن سلسلة طويلة من النضال الطلابي الأمريكي.
إبريل 2024.. لا للإبادة الجماعية
مع استمرار عدوان الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة، نظم طلاب جامعة كولومبيا تظاهرات تضامنية مع الشعب الفلسطيني، فاستدعى الكونجرس نعمت شفيق، “رئيسة الجامعة” لاستجوابها.
شفيق قالت أمام الكونجرس، إن التظاهرات خالفت قواعد الأمن والسلامة، وأنه لا مكان لمعاداة السامية في الجامعة.
وشددت على أن “انتهاك قواعدنا سيكون له تبعاته” على حد تعبيرها.
كان الكونغرس سبق، واستجواب رئيستي جامعتا، بنسلفانيا، وهارفرد لنفس الأسباب، ولكن تصريحاتهما في جلسات الاستماع، أثارت ردود أفعال سلبية، واتهمهما البعض بمعاداة السامية، ولهذا قدمتا استقالتيهما في النهاية.
من الواضح، أن شفيق لم ترد أن تلقى مصير نظيرتيها، وبالفعل سهلت دخول الشرطة إلى الجامعة، واعتقال أكثر من 700 طالب، وهو ما يعد أكبر اعتقال جماعي في تاريخ جامعة كولومبيا، منذ حرب فيتنام.
رد الفعل العنيف ضد الطلاب في جامعة كولومبيا، أشعل موجة من الاحتجاجات الطلابية في أنحاء الولايات المتحدة، وامتدت التظاهرات إلى جامعات ييل، ونيويورك، ومينيسوتا، وبرينستون، وكارولاينا الجنوبية، والعديد من الجامعات الأخرى.
إدارات أغلب الجامعات، تعاملت مع التظاهرات، كما تعاملت شفيق، حيث اللجوء إلى الشرطة لفض المظاهرات والاعتصامات، ليصل عدد الطلاب الذين تم اعتقالهم إلى ما يزيد عن الـ 1700 طالب، حسب الواشنطن بوست.
الاتهامات.. وقائع وأكاذيب
قبل التطرق إلى مطالب التظاهرات من الضروري مناقشة الاتهامات التي توجه للحراك الطلابي.
يوجه المعارضون للتظاهرات– خاصة إدارات الجامعات والسياسيين الجمهوريين– للطلاب اتهامين رئيسيين، الأول هو معاداة السامية، والتحريض على العنف ضد الطلاب اليهود.
ومن المؤكد، أن الطلاب اليهود في الجامعات الأمريكية يتعرضون لمضايقات، وتهديدات وتحريض على العنف، لكن هذا ليس مرتبطا بالتظاهرات الدائرة حاليا، فخلال الشهور الماضية، أججت أحداث غزة بعض الأصوات العنصرية في أمريكا، فضلا عن أن معاداة السامية مشكلة متجذرة في المجتمع الأمريكي منذ عقود طويلة، حيث يعاني اليهود الأمريكيون من مضايقات، وتحريض على العنف من متطرفين خارج وداخل الجامعات.
بالعودة إلى التظاهرات الأخيرة، شهدت الاحتجاجات الطلابية حضور قوي للطلاب اليهود، شارك عدد في التظاهرات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، وطالبوا بوقف إطلاق النار، بل وبإنهاء سياسات الاحتلال الإسرائيلي بشكل كامل، خاصة الطلاب المنتمين لمجموعات يهودية مناهضة لسياسات الاحتلال الإسرائيلي مثل “الصوت اليهودي من أجل السلام”، و”يهود جامعة ييل من أجل وقف إطلاق النار”.
يقول إيان برلين (أحد الطلاب اليهود المنظمين للتظاهرات المتضامنة مع غزة في جامعة ييل) في مقال على “سي إن إن”، إن مشاركته في التظاهرات تنبع من إيمانه بالقيم اليهودية التي تقف في صف المقهورين، وترفض بشكل قاطع بيع الأسلحة التي تقتل الأبرياء في غزة.
كما عبرت حركة “الصوت اليهودي من أجل السلام” عن دعمها للحراك الطلابي، وأشادت بشجاعة الطلاب، معتبرة أن معارضة حرب إسرائيل على غزة، ليست معاداة للسامية.
الاتهام الثاني الذي يوجه للتظاهرات، هو ادعاءات بأنهم يلجأون للعنف، دون رصد أي حالة استخدم فيها الطلاب العنف، فطوال الاحتجاجات التزم الطلاب السلمية الكاملة، وهو ما تؤكده شهادات أعضاء هيئات التدريس في الجامعات المختلفة.
أعضاء هيئات التدريس عبروا أيضا عن تضامنهم مع الطلاب، ودافعوا عن حقهم في التعبير عن رأيهم، بل أن هناك أساتذة تظاهروا جنبا إلى جنب مع الطلاب، وتعرضوا للاعتقال والتهديد بالفصل.
وفي واقع الأمر، إدارات الجامعات هي من تلجأ للعنف، عندما تهرع لطلب للشرطة وقمع التظاهرات، بدلا من الاستماع للطلاب والحوار معهم.
مطالب متعددة وتظاهرات تعددية
المحتجون لا يطالبون بوقف إطلاق النار، وإنهاء الحرب على غزة فقط، ولهم مطالب أخرى محددة، تختلف من جامعة إلى أخرى- نظرا لاختلاف علاقات الجامعة نفسها مع إسرائيل- ولكنها تتمحور حول:
ـ سحب استثمارات الجامعات مع الشركات المتعاونة مع حكومة إسرائيل (مثل أمازون ومايكرسوفت وجوجل وكاتربيلر واير بي إن بي)
– وقف التعاون الأكاديمي مع الجامعات الإسرائيلية.
– تحقيق الشفافية بشأن أبحاث الحرب التي تجريها الجامعات بتمويل من وزارة الدفاع الأمريكي؛ نظرا لأن الحكومة الأمريكية ترسل أسلحة لدعم إسرائيل خلال حرب غزة.
تشابكت أيضا الحركة المطالبة بسحب الاستثمارات مع إسرائيل، مع حركات احتجاج آخر حاضر بقوة على الساحة الطلابية، ومنها الحركات البيئية الرافضة للوقود الأحفوري، والتي تعد من أبرز الحركات الطلابية حاليا.
جهود تلك الحركات في السنوات الأخيرة، تمحورت حول الضغط على إدارات الجامعات لقطع الاستثمارات مع شركات الفحم والغاز والنفط، وبالفعل حققت الحركة إنجازات واضحة، حيث إن ما يقارب الـ 250 مؤسسة تعليمية، تعهدت بقطع العلاقات المالية مع الشركات الملوثة للبيئة.
ناشطو الحركات البيئية من أبرز المشاركين في التظاهرات الأخيرة، حيث إن الحرب على غزة، لا تقتل الآلاف من الأبرياء فقط، ولكن عمليات الجيش الإسرائيلي تفاقم أيضا من أزمة المناخ؛ نتيجة لتدمير البيئة في فلسطين، وارتفاع الانبعاثات الناتجة من الأسلحة والطائرات والقنابل.
هناك أيضا تحركات طلابية مؤيدة للقضية الفلسطينية متواجدة بالفعل في الجامعات، تشارك في التظاهرات مثل “طلاب من أجل العدالة في فلسطين”، ونشطاء من “حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات”.
كما أن هناك تحالفات طلابية تكونت خلال الأحداث الأخيرة مثل، تحالف “احتلوا بينيكي” في جامعة ييل الذي يجمع الحركات، والنشطاء المتضامنين مع فلسطين، بما فيهم الطلاب اليهود والنشطاء البيئيين وغيرهم.
بعيدا عن التحركات الطلابية المنظمة، تتسم التظاهرات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني في الجامعات الأمريكية بالعفوية الشديدة، ورغم أن الحركات المؤيدة لفلسطين، طالما كانت نشطة في الجامعات الأمريكية، إلا أن القضية الفلسطينية لم تحظ بهذا القدر من التضامن مسبقا.
التظاهرات الطلابية الدائرة حاليا، تنبع من تضامن حقيقي مع الشعب الفلسطيني، وتعاطف مع أهل غزة، لما يتعرضون له من ظلم يومي؛ نتيجة الحرب، كما أنه حراك متعدد ومتنوع، فلا يجمع المشاركون لون أو تنظيم أو أيدولوجيا، وهذا ليس غريبا على الحركة الطلابية الأمريكية.
أصداء تاريخية.. السلطة في مواجهة الطلاب
عرض أعضاء هيئة التدريس على مجالس تأديب، وتهديد الطلاب بالفصل، واستدعاء الكونغرس لرؤساء الجامعات له أصداء في التاريخ الأمريكي المعاصر، وبشكل خاص في عصر المكارثية سيئ السمعة.
فخلال الحرب الباردة، قاد عضو مجلس الشيوخ الجمهوري جوزيف مكارثي، حملة موسعة تتهم كل من له ميول يسارية في الولايات المتحدة بالتخابر، والعمالة للاتحاد السوفيتي، وأسفر العهد المكارثي عن اعتقال المئات، وفصل الآلاف من عملهم، وبالطبع عرضت تلك الفترة حرية التعبير في الجامعات، والحريات الأكاديمية للخطر والتهديد.
الأحداث الجارية تعيد إلى الأذهان أيضا صفحة أخرى من التاريخ الأمريكي المعاصر، صفحة متعلقة بنضال الطلاب ضد الإجحاف والظلم.
وصل نشاط الحركة الطلابية في الولايات المتحدة ذروته خلال الستينات والسبعينات، حين أشعل الزخم السياسي في ذلك الوقت فتيل الحركة الطلابية، الذي لم يقتصر على تظاهرات محدودة داخل الجامعة، بل اتسع نطاقه، وتحول لمظاهرات هائلة، واعتصامات طويلة المدى في مباني الجامعة التي كان يحتلها الطلاب.
تنوعت أسباب الاحتجاج في ذاك الوقت. فهجوم المكارثية على الحريات الأكاديمية، أدى لاندلاع احتجاجات طلابية، تناضل من أجل حرية التعبير، وتطالب بالتوقف عن قمع الآراء.
كما أن تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام أثار سخط الطلاب، وأشعل احتجاجات واسعة مناهضة للحرب، تنادي بتوقف الجامعات عن إجراء أبحاث السلاح مع وزارة الدفاع التي تساهم في قتل الشعب الفيتنامي. إضافة إلى أن حركة الحقوق المدنية التي كانت في أوجها.
ومثل الحراك الطلابي جزءا أصيلا في تاريخ النضال المطالب بحقوق السود، والمناهض للعنصرية والتمييز في الولايات المتحدة.
فيتنام لم تكن القضية الخارجية الوحيدة التي شغلت الحركة الطلابية الأمريكية، فالحراك الطلابي كان فاعلا في الاحتجاج، ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
ضغطت الحركة الطلابية على إدارات الجامعات؛ لوقف العلاقات الاستثمارية مع الشركات المتعاونة مع حكومة الفصل العنصري، و نجح الضغط الطلابي، وبالفعل أوقفت الجامعات الاستثمارات مع تلك الشركات، وكانت كولومبيا من أوائل تلك الجامعات.
وكما كانت الحركة الطلابية على أشدها، عنف الشرطة أيضا كان على أشده. فغالبا ما تدخلت الشرطة الأمريكية لفض التظاهرات والاعتصامات الطلابية بالعنف، ووصلت الاعتقالات الجماعية أحيانا إلى المئات.
في عام 1970، في كلية ولاية جاكسون، حدثت واقعة كانت من الأكثر فظاعة، وتركت ذكرى مؤلمة لسنوات لاحقة.
نظم الطلاب السود تظاهرة احتجاجا على ممارسات سائقي السيارات البيض خلال مرورهم من الشارع القريب من الحرم الجامعي، حيث كان السائقون البيض يسرعون عمدا، عند مرورهم فيه بسياراتهم لإصابة الطلاب السود العابرين.
كما أن السائقين البيض كانوا يلقون بأشياء على الطلاب السود، وينعتونهم بإهانات عنصرية، ولهذا نظم الطلاب السود مظاهرة مطالبين بغلق الشارع لحماية الطلاب.
وذات يوم اندلع حريق غامض، فذهبت قوة مكافحة شغب مكونة من 75 فردا للمنطقة، وتحركت نحو سكن جامعي، كان يتظاهر أمامه 100 طالب أسود، وبدون مقدمات أطلقت قوات الأمن مئات الطلقات، ما أسفر عن وابل مصرع طالبين.
يمر الزمان.. ولا تتغيير السلطة ولا الطلاب
رغم مرور عقود، السلطات الأمريكية لم تتغير كثيرا، السلطة في واشنطن- بالتعاون مع إدارات الجامعات- مستمرة في محاولة إسكات صوت النضال الطلابى.
وفي المقابل صلابة وبأس الحراك الطلابي الأمريكي لم يتغير، أو يهتز رغم مرور السنوات، التظاهرات المتضامنة مع غزة، خرجت من رحم تاريخ نضالي مديد.
الحركة الطلابية الأمريكية لها باع طويل في النضال ضد القهر والظلم، سواء كان ظلما يتعرض له المستضعفين في الولايات المتحدة، أو تتعرض له شعوب أخرى خارج البلاد.
لطالما كانت مشاعر التضامن، والتآزر مع المظلومين حول العالم محركا لنضال الطلاب في الولايات المتحدة، وتؤكد أحداث اليوم، كما أثبتت أحداث الأمس، أن الحراك الطلابي يمثل طليعة الأفكار، والممارسات التقدمية في المجتمع الأمريكي.
بل، ويمثل حراك الطلاب الأمريكيين نموذجا، يحتذى به في الشجاعة، والتضامن الدولي، والنضال من أجل العدل لكل البشر بغض النظر عن خلفيتهم أو هويتهم أو موقعهم الجغرافي.