إصدار شهادات دولارية بعائد مرتفع، وبعدها إصدار قانون يسمح باستيراد السيارات من الخارج معفاة من الضرائب مقابل وديعة في حساب وزارة المالية لمدة 5 سنوات دون عائد، وصولا لطرح أراض ووحدات سكنية مخصصة للمقيمين في الخارج على أن يتم شرائها بالعملة الأجنبية. كانت هذه جملة من الخطوات الحكومية، خلال الآونة الأخيرة؛ لتحفيز المصريين بالخارج على زيادة التحويلات.
تعد تحويلات المصريين بالخارج “يقدر عددهم بـ14 مليونا” المصدر الرئيس للعملة الصعبة في البلاد. وزادت أهميتها خلال الفترة الأخيرة مع الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر متأثرةً بسوء إدارة الأولويات الاقتصادية، والتداعيات السلبية للحرب الروسية في أوكرانيا. ومع ارتفاع أسعار السلع المستوردة وتقلبات الأسواق وارتفاع أسعار الفائدة، عزز ذلك الضغوط على احتياطيات النقد الأجنبي.
خلال العام المالي 2021-2022، تصدرت تحويلات المصريين بالخارج مصادر الدخل بالدولار بما يقارب 32 مليار دولار بالتساوي تقريبا مع الصادرات غير النفطية (32.5 مليار دولار). تليهما السياحة ثم إيرادات قناة السويس. وفي رقمٍ دالٍ -على سبيل المثال- فإن البنك المركزي أعلن أن صافي الاحتياطات الدولية يصل إلى 33.4 مليار دولار نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
اقرأ أيضًا: خلال 10 أعوام بلغت نحو 236 مليار دولار: كيف ارتفعت تحويلات المصريين بالخارج؟
وفي وقت سابق من العام الجاري، توقع البنك الدولي ارتفاع تحويلات المصريين العاملين بالخارج بنحو 8% في عام 2022 مقارنة بـ6.4% في عام 2021؛ لتصل إلى نحو 32.3 مليار دولار. أي ما يُوازي 6.9% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
وبنى البنك الدولي توقعاته على “التجاوب الإيثاري والعاطفي” من جانب المغتربين تجاه الصعوبات التي يشهدها الاقتصاد المحلي. علاوة على النمو الاقتصادي بالخارج، الذي على الرغم من التوقعات بأن يتباطأ فإنه قد يظل داعما للتحويلات.
القاهرة تحتل المركز الخامس كأكبر متلق للتحويلات الخارجية عالميا خلف الهند والصين والمكسيك والفلبين، بعد أن نمت تحويلات المصريين بالخارج في السنوات الأخيرة على الرغم من جائحة “كورونا” والتأثيرات الاقتصادية العالمية التالية لها. فقد ارتفعت من 26.4 مليار دولار في العام المالي 2017-2018 إلى 31.9 مليار دولار في 2021-2022. أي نسبة زيادة تقارب 21%.
وقد توقع بنك الاستثمار الأهلي فاروس أن تواصل تحويلات المصريين بالخارج نموها التدريجي علي المدى المتوسط لتصل إلى 35.5 مليار دولار بحلول العام المالي 2023-2024.
متى بدأت التحويلات كمورد اقتصادي؟
منذ منتصف السبعينيات أصبحت مصر دولة مرسلة للمهاجرين من أجل العمل تزامنا مع النهضة الاقتصادية في الخليج وليبيا بعد ارتفاع أسعار النفط عقب حرب 1973، وتزامنا مع المشكلات الاقتصادية التي واجهتها مصر عقب الحرب وعدم قدرة الاقتصاد على استيعاب الخريجيين، وفقا للباحث في دراسات الهجرة، أيمن زهري، في ورقته الصادرة عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا).
كما شهدت الثمانينيات موجة هجرة كبيرة إلى العراق لسد العجز في السوق العراقي نتيجة تجنيد الغالبية العظمى من الشباب خلال الحرب مع إيران. ولكنها كذلك شهدت هجرة عائدة خلال حربي الخليج، وليبيا بعد التغيرات السياسية التي طالتها في 2011.
وقد سعت الدولة لربط هؤلاء المهاجرين من خلال استحداث وزارة الدولة للهجرة والمصرين بالخارج عام 1981 التي انتقلت تبعيتها لاحقا إلى وزارة الخارجية ثم إلى وزارة الهجرة وشئون المصريين بالخارج حاليا.
وبحسب زهري، فقد ساهمت تحويلات المصريين منذ بداية عصر الهجرة الكثيفة في دور هام في دعم الاقتصاد سواء على المستوى الكلي من خلال توفير العملة الصعبة ودعم ميزان المدفوعات. أو على المستوى الجزئي من خلال توفير الموارد المالية اللازمة للإنفاق على احتياجات أسرهم وخدمات الصحة والتعليم وتحسين ظروف السكن والاستثمار.
اقرأ أيضًا: الدولار والفائدة والديون بعد قرض الصندوق.. 3 أشهر صعبة تنتظر الاقتصاد
وقد حققت مصر متوسط زيادة سنوية للتحويلات وصلت إلى 11 %خلال الفترة من 1991 إلى 2012. وكان أعلى معدل زيادة سنوية في عام 2010 حينما ارتفعت التحويلات بمقدار 74% (من 7.1 إلى 12.5 مليار دولار)، بحسب الدكتورة غادة إمام عبد المتعال في ورقتها “تحليل الأهمية الاقتصادية لتحويلات المصريين العاملين بالخارج“.
ووفقا للحسابات التي أجرتها الباحثة فإن أعلى نسبة للتحويلات إلى الناتج المحلي كانت عام 1992، مع بدء برنامج الإصلاح الاقتصادي لأول مرة. إذ وصلت إلى 15% من الناتج المحلي تقريبا، قبل أن تبدأ في الانخفاض لتصل إلى 7.32% في عام 2012 (آخر أعوام الدراسة). بينما تصل نسبتها حاليا -كما سلف الذكر- إلى 6.9%.
كما مثل حجم التحويلات نسبة 166% من الاستثمار الأجنبي المباشر في أعلى تدفق نقدي لهما بين 1991 و2012. ونسبة 355% من حجم المساعدات الإنمائية، طبقا لحسابات عبد المتعال.
التحويلات لخفض مستويات الفقر
بحسب البنك الدولي “تُعد التحويلات مصدرا حيويا لدخل الأسر المعيشية للبلدان منخفضة الدخل. كما أنها تخفف من حدة الفقر، وتحسن نواتج التغذية، وترتبط بزيادة وزن المواليد وارتفاع معدلات الالتحاق بالمدارس للأطفال في الأسر المحرومة”. وتساعد التحويلات الأسر المستفيدة على بناء القدرة على الصمود في وجه الأزمات. على سبيل المثال، من خلال تمويل تحسين ظروف السكن وتحمل الخسائر في أعقاب وقوع الكوارث.
وتشير دراسة -صادرة عن ثلاثة باحثين في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة- إلى أن تلقي العائلات لمبالغ مالية إضافية، خاصة تلك التي تقع تحت مستوى خط الفقر، يسمح لهم بتحسين مستوياتهم المعيشية وزيادة استهلاكهم اليومي. كما تمنحهم القدرة على توفير الاحتياجات اليومية الأساسية كالصحة والتعليم.
وتضيف الدراسة “تستحوذ التحويلات المالية للعاملين بالخارج على أهمية خاصة للدول النامية وخاصة إذا كانت دولة ذات كثافة سكانية مرتفعة مثل مصر، حيث أنها لا تمثل فقط مصدرا آخر للدخل بل إنها قد تكون مصدر رئيسي لدخول بعض الأسر”.
اقرأ أيضًا: البنك الدولي: الفوائد تعادل 56% من إيرادات الحكومة المصرية.. والفقر عند 29.7%
لكن أهمية التحويلات -داخل البنية الاقتصادية- تتوقف على سياسات الإدخار التي تتبعها الدولة المستقبلة للتحويلات. وعلى السياسات الاقتصادية المختلفة، وبكفاءة قناة تحويل التدفقات النقدية، والتغير في أسعار الصرف بين الحين والآخر والوضع الاقتصادي.
تقرير البنك الدولي أشار إلى أن البلدان التي عانت من قلة العملات الأجنبية وتعدد أسعار الصرف، انخفضت تدفقات التحويلات المسجلة رسميا مع تحول تلك التدفقات إلى قنوات بديلة تقدم أسعارا أفضل.
وهي الحالة المرشحة لها مصر مع ثبات سعر الصرف الحالي وارتفاعه في الأسواق الموازية، وسط الحديث عن تعويم “مرن” مستقبلا. ومع وجود السوق الموازية “السوداء” يؤدي ذلك إلى وجود سعرين للدولار ما يدفع البعض لتحويل أموالهم خارج القنوات الرسمية -للاستفادة من فارق السعر- أو الإحجام عن التحويل.
العلاقة بين التحويلات ونمو الاقتصاد
وجدت دراسة “العلاقة بين تحويلات العاملين بالخارج والاستثمار المحلي” -الصادرة عن كلية التجارة جامعة طنطا- أن تحويلات العاملين في الخارج تؤثر إيجابيا في الاستثمار، حيث أن زيادتها 1% يؤدي إلى زيادة الاستثمار بنسبة 0.13% في الأجل الطويل و0.11% في الأجل القصير.
كما أن تأثيرها يتحقق بزيادة التطور المالي الذي يؤدي إلى زيادة حجم الاستثمار بـ 0.33% و0.39% في الأجل القصير والأجل الطويل على الترتيب. كذلك، فإن العلاقة طردية مع الناتج المحلي فكلما حدثت زيادة في قيمة التحويلات رافقتها زيادة في قيمة الناتج المحلي الإجمالي والعكس صحيح.
لكن ورغم ذكر دراسة أخرى أن التحويلات تؤثر على معدلات الاستهلاك والاستثمار ومن ثم على معدل النمو الاقتصادي إلا أنه تأثير طفيف للتحويلات على التراكم الرأسمالي، كمؤشر للاستثمار، نتيجة عدم وضوح سياسات الاستثمار في مصر وعدم ترابط الخطة الاقتصادية بباقي الظواهر والتغيرات الاقتصادية الأخرى.
فنظرا لعدم توافر فرص الاستثمار المغرية أمام العمالة المصرية المهاجرة فإنهم يوجهون مدخراتهم غالبا إلى المضاربة على الأراضي والعقارات. كما تؤدي إلى زيادة الطلب على السلع المستوردة على حساب المحلية. وبالتالي -بحسب الدراسة- تؤثر إيجابيا على الناتج المحلي بينما يضعف التأثير على الاستثمار لتركزه في جوانب غير إنتاجية متدنية القيمة كالأراضي والعقارات.
ورغم ذلك فإنه مع التغيرات الاقتصادية التي شهدتها مصر آخر عقدين سواء داخليا أو خارجيا، برز أن التحويلات المالية للعاميلن بالخارج مصدر مستقر وثابت للنقد الأجنبي عن باقي مصادر النقد الأجنبي الأخرى مثل الصادرات ورسوم المرور بقناة السويس والإيرادات السياحية والاستثمار الأجنبي المباشر.
وتقول الدراسة الصادرة عن جامعة القاهرة إن التحويلات المالية تؤثر في تمويل المشاريع الصغيرة الخاصة حيث يقوم المهاجر بإدخال جزء من أمواله واستعداده للعودة إلى بلد الأصلي لإنشاء مؤسسة مصغرة يستطيع من خلالها استثمار الأموال عند العودة. وهنا تنبع أهمية التحويلات المالية في إزالة قيود التمويل للمشاريع الخاصة الصغيرة.
محاولات الدولة القاصرة
يرى بعض الاقتصاديين أن تعزيز هذه التحويلات قد يقلل من اتجاه الدولة للقروض الخارجية، خاصة أنها تضمن حصول الدولة المصرية علي التمويل المطلوب من العملة الصعبة بصورة مستمرة ودورية وبدون فوائد. مما يعني عدم اللجوء إلي الجهات التمويلية الدولية وعلي رأسهم صندوق النقد الدولي.
وحاولت الحكومة تعزيز مواردها من النقد الأجنبي من خلال اتفاقات لإرسال 5 آلاف عامل زراعي إلى اليونان وإعلان للوظائف في الدول الخليجية ومحاولة الحصول على نصيب من إعادة الإعمار في ليبيا والعراق. وفي بداية مايو/ أيار 2022، وبمناسبة عيد العمال، احتفت وزارة القوى العاملة بإنجازاتها في تسفير المصريين للعمل، معلنة أنها استطاعت توفير أكثر من 320 ألف عقد عمل للمصريين خارج الحدود.
يقول الباحث جمال بخاري “على الرغم من هذا السعي الحثيث إلى جني دولارات المصريين في الخارج وإرسال المزيد منهم للعمل في دول أخرى، لا تضع الحكومة في بالها المخاطر الجمة التي تواجه العمالة المصرية في هذه الدول، أو الظروف غير الآدمية التي ترسلهم إليها، كما لا توفّر مظلة حماية قانونية وصحية تمنع استغلالهم”.
والاتجاه الذي حاولت الدولة مواكبته، من خلال مبادراتها الأخيرة بقى بلا أثر حقيقي حتى الآن. تجلى ذلك ربما في شكله الأوضح بفشل مبادرة استيراد السيارات في تحقيق المبالغ المستهدف جمعها. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، منها: قصور المبادرات عن تيسير الإجراءات وفهم طبيعة العاملين بالخارج وتنوعهم الوظيفي (نظرا لطبيعة اتخاذ القرار بمركزية مفرطة)، وغياب الثقة في الاقتصاد المصري من أجل الاستثمار خاصة في ظل ضعف البنية القانونية -وفق ما يتطرق له الباحث أيمن زهري. وكذلك طبيعة التنافس الاستثماري مع جهات في الدولة تستأثر بأوضاع تفضيلية.
وقدّر محمود الجراحي، رجل أعمال وأحد أبرز أعضاء الجالية المصرية بالسعودية، مدخرات المصريين في الخارج بنحو 142 مليار دولار، قائلًا إن تسهيل استثمار المصريين في الخارج في مصر قد يجذب هذه المبالغ، عبر الترويج لمشروعات منافسة وجيدة.
وتستحوذ دول الخليج العربي على العدد الأكبر من المصريين في الخارج، وبفعل ارتفاع أسعار النفط، وانتعاش اقتصاد الدول الخليجية كانت سببا في قفزة التحويلات من المصريين في الخارج، بجانب ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه. وتتصدر المملكة العربية السعودية تحويلات المصريين في الخارج تليها الكويت، ثم دولة الإمارات العربية المتحدة ثم قطر.
غياب التنظيم القانوني
توضح الدراسة الصادرة عن “الإسكوا” أنه لا توجد وثيقة رسمية معلنة، بخلاف قانون الهجرة رقم 111 لسنة 1983، تلخص رؤية الحكومة حول الهجرة رغم عدم وجود استراتيجية رسمية أو خطة عمل حول سياسات الهجرة. وتعمل السياسات الحكومية على تشجيع هجرة العمالة لضمان توازن السوق الداخلي وخفض معدلات البطالة وتعظيم الفوائد الاقتصادية وزيادة التحويلات.
“على الرغم من كون زيادة التحويلات من ركائز سياسة الهجرة المصرية إلا أنها لم تحظ بالاهتمام الكافي في مواد القانون.. وتركز اهتمام القانون بالأساس على اجتذاب مدخرات المصريين في التنمية ولم يتطرق إلى الوسائل المناسبة لزيادة حجم التحويلات أو تخفيض تكلفتها”، يقول أيمن زهري.
وينبّه الباحث أنه رغم مطالبة أحد مواد القانون البنوك بفتح مكاتب لها في المدن التي يقيم بها المصريون بالخارج وإعداد مشروعات ودراسات جدوى لتُطرح عليهم. إلا أن القانون لم يوضح تلك الجهات المختصة بتيسير تلك الخدمات أو آليات التنفيذ. أضف إلى ذلك أن السياق العام لتلك التشريعات يخاطب بالأساس المستثمرين المصريين المغتربين ولا يخاطب أبناء الجالية المصرية بشكل عام.
ويضيف “الغالبية العظمى من المصريين بالخارج، خاصة في دول الخليج، ليسوا مستثمرين بالمعنى الاقتصادي المجرد. ولكنهم من أصحاب المدخرات المتراكمة من عائد العمل بالخارج وإن لم يجدوا السبل الآمنة لاستثمار تلك المدخرات لاتجهت لإنفاق غير استثماري”.
الباحث في دراسات الهجرة يلفت كذلك إلى أنه بعكس منظمات المجتمع المدني التي تلعب دورا هاما في جذب مدخرات المهاجرين في تونس والمغرب مثلا فإنه لا يوجد أي دور مماثل في مصر. ويعزى ذلك بالأساس إلى قلة عمل المنظمات العاملة في الهجرة والقيود المفروضة على عمل الجمعيات الأهلية، بجانب تخوف المصريين من التعامل بأموالهم مع كيانات غير حكومية.
وأوصت الدراسة باستحداث هيئة تنسيقية حول التحويلات -بسبب تعدد الأطر والتشريعات والكيانات ما يشتت الجهود- لاجتذاب أصحاب المدخرات الصغيرة في المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر. على أن تضم ممثلين من الجهات الحكومية وغير الحكومية وممثلين عن أصحاب الأعمال. إضافة إلى توسيع الشبكات البنكية بالخارج وخفض تكلفة التحويل.
وتشير تجارب الدول الأخرى -تونس والمغرب مثالا- إلى أن توافر قدر مناسب من الحماية الاجتماعية (الرعاية الصحية والتعليمية) يقلل من الإنفاق على هذه الخدمات ما يخلق وفورات مالية يمكن توجيهها للاستثمار.
يظل السياق الأوسع على المدى القريب غير قادر على تعزيز تلك التحويلات بشكل منهجي، فمع غياب الشفافية وقصور أداء الدولة خاصة حين يتعرض المصريون بالخارج لتجاوزات، ستبقى جميع الإجراءات حبر على ورق تحتاج لتغير المناخ العام إلى الانفتاح؛ بحثا عن الثقة والفعالية.