ثمة حراك سياسي واقتصادي وعسكري تشهده منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي. ذلك في ظل حالة من التنافس الدولي حول إعادة رسم خارطة السيادة والتحالفات الإقليمية والدولية في هذه المنطقة. إلا أن التحركات التركية على وجه الخصوص، باتت تمثل تهديدًا فعليًا للمصالح العربية والخليجية بشكل عام، والمصرية بشكل خاص.
مثلت منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي محورًا جيوستراتيجيًا مهمًا بالنسبة للسياسة الخارجية التركية تجاه إفريقيا منذ عقود. وهي السياسة التي بموجبها دشنت أنقرة عصر انفتاح “تركي-إفريقي” مطلع الألفية الجديدة.
كان ذلك إدراكًا منها بأن تحقيق نهضة اقتصادية تركية لا يمكن من دون وجود أسواق إفريقية تستهلك صادراتها الحيوية من الغذاء والدواء والمنسوجات والصناعات الخفيفة. هذا بخلاف الصناعات العسكرية مؤخرًا. وهنا مبعث القلق في الدور التركي، في ظل التدافع الخليجي المصري الذي تشهده منطقة البحر الأحمر ودول شرق إفريقيا.
أهمية المنطقة
تنبع أهمية منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي من كونها تتحكم في أهم ممرات التجارة العالمية العابرة في مضيق باب المندب. حيث يعبر نحو 4.7 ملايين برميل نفط يوميا من مجمل تجارة النفط العالمية. فضلًا عن 33 ألف رحلة بحرية تتم سنويًا بمحاذاة سواحل الصومال، بالإضافة إلى أهمية موانئه البحرية التي تشهد تدافعًا دوليًّا وخليجيًّا من أجل السيطرة على ممرات التجارة العالمية.
أيضًا، فإن 14% من التجارة البحرية العالمية، بقيمة 1.8 تريليون دولار أميركي، و26% من تجارة النفط وقيمتها 315 مليار دولار أميركي، تتم عبر سواحل الصومال سنويًّا. كما يمتلك القرن الإفريقي مفاتيح الدخول إلى البحر الأحمر، الذي يحظى باهتمام جيوسياسي وعسكري بارزين.
اقرأ أيضًا: مصر وتركيا.. ترسيم تحالفات يعزز الصراع على لقب “ناقل الغاز” إلى أوروبا
وهو ما يدفع القوى الكبرى والصاعدة إلى تأمين قنوات تجارتها العالمية، والبحث عن موطئ قدم لها في منافذ القرن الإفريقي. ويكون ذلك عبر نشر قواعد عسكرية إقليمية أو بناء تحالفات استراتيجية مع دول المنطقة، لتأمين خطوط التجارة بحرًا وجوًّا.
وقد اكتسب البحر الأحمر أهمية عسكرية من المواني العديدة المطلة عليه والصالحة للاستخدام العسكري والتجاري، ومن طبيعته كبحر داخلي يتصل بالبحار والمحيطات المهمة، وتقع بالقرب من سواحله المراكز الاقتصادية ومنابع النفط.
يمتاز البحر الأحمر بطول شواطئه المرتبطة بالطرق البرية والجوية، خاصةً على سواحله الشرقية. كما تمتاز موانئه بعمق مياهها الصالحة لرسو السفن، ونقل المعدات والإمدادات العسكرية. وهو ما يمثل عمقًا لمسرح عمليات كاف لإخفاء الغواصات. حيث يعد ميدانًا مثاليًا للعمليات البحرية، يمكن القطع البحرية الكبيرة من التمركز فيه، مثل حاملات الطائرات. هذا فضلًا عن الجزر التي تتمتع بأهمية عسكرية كبيرة.
تهديد المصالح المصرية
سعت تركيا إلى تعزيز حضورها في منطقة البحر الأحمر والمحيط الهندي. وهو ما ظهر من خلال توقيعها اتفاقًا لتطوير وإدارة جزيرة سواكن السودانية في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2017. فضلًا عن الاتفاق على تأسيس منطقة تجارة حرة في جيبوتي، والتي تم تخصيص مساحة 5 ملايين متر مربع لها في ديسمبر/ كانون الأول 2016. كما أعلنت رسميًا في سبتمبر/ أيلول 2017 عن إنشاء قاعدة عسكرية، وثلاث مدارس عسكرية إلى جانب منشآت أخرى بجنوب العاصمة الصومالية على ساحل المحيط الهندي.
تحاول تركيا -عبر وجودها قرب المنافذ البحرية بمنطقة البحر الأحمر- تحقيق جملة من الأهداف؛ أبرزها تعزيز قدراتها الاستثمارية عبر منافسة بعض القوى الإقليمية التي تبدى اهتمامًا خاصًا بتطوير وبناء مواني المنطقة على المحيط الهندي أو البحر الاحمر، أو الاستثمار فيها، بما قد يحقق لها مكاسب تجارية واستثمارية متعددة.
اقرأ أيضًا: تركيا والناتو.. هل يمكن لأردوغان “الضعيف بالداخل” دعم نفوذه بالخارج
ويرتبط الاهتمام التركي بالصومال على وجه الخصوص بأهمية موقع الأخيرة استراتيجيًا. إذ تحظى بثاني أطول شريط ساحلي على مستوى القارة الإفريقية. والهدف الرئيسي من ذلك التمتع بالقدرة على تقديم تسهيلات عسكرية لأي قوات تركية قد تصل المنطقة مستقبلًا.
كما أن من مهام القاعدة التركية في الصومال الحفاظ على مصالحها هناك. حيث هي قريبة من مطار مقديشيو الذي تديره وتشغله شركات تركية. ذلك بالإضافة إلى مهام إدارة ميناء مقديشيو البحري الدولي، الذي تديره شركة تركية تمتلكها عائلة بيرات ألبيراق وزير المالية والخزانة السابق وصهر الرئيس التركي الحالي. هذا بخلاف حصول تركيا على حق السماح لسفنها بالصيد في مياه الصومال الإقليمية، والاتفاقيات الخاصة بالاستثمار التركي في المجال الزراعي.
هذا الوجود العسكري التركي سواء في منطقة البحر الأحمر أو القرن الإفريقي يشكل مصدر خطر محتمل بالنسبة لمصر. حيث تواجدها بالقرب من مناطق ترتبط بمصالح مصر الأمنية والاقتصادية يمكنها من امتلاك أوراق ضغط على على القاهرة، التي لا تزال على موقفها من المنافسة في شرق البحر المتوسط، تحالفًا مع اليونان وقبرص في مواجهة المصالح التركية هناك.
سد النهضة في الصورة
بالتوازي مع التحرك التركي على ساحة البحر الأحمر، كانت هناك تحركات مكثفة أيضًا من جانب أنقرة على ساحة القرن الإفريقي. ولكن هذه المرة عبر إثيوبيا، التي تكتسب أهمية كبيرة في الاستراتيجية التركية تجاه القارة الإفريقية عمومًا، وشرق إفريقيا والقرن الإفريقي بشكل خاص، لجملة من الأسباب أبرزها:
1. الأهمية الجيوسياسية الكبيرة لإثيوبيا في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا عمومًا. والمتوقع لها أن تتزايد مع اكتمال سد النهضة وتحولها إلى مركز للطاقة في تلك المنطقة.
2. السوق الإثيوبية ذات ميزات كبيرة جاذبة بتعداد سكان يقارب 110 ملايين نسمة، وتحولها إلى أحد أسرع الاقتصادات نموًا في العالم. حيث تعد تركيا المستثمر الثاني بعد الصين في الاقتصاد الإثيوبي.
اقرأ أيضًا: مصر وتركيا: المصالح الاقتصادية كقوة دافعة نحو التطبيع
3. أهمية إثيوبيا في التوازنات داخل حوض النيل في إطار الصراع بين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط. فتحرك تركيا على صعيد الساحة الإثيوبية يمكن أن يكون في إطار مساعيها لإحكام الخناق على القاهرة وامتلاك مزيد من أوراق الضغط. خاصة في ظل رغبة تركية في الانضمام لمنتدى غاز المتوسط بعد استبعادها منه.
ووقَّعت تركيا اتفاقية أمنية مع أديس أبابا، في أغسطس/ آب الماضي 2021. وهي الاتفاقية التي لم يُكشف الستار عن فحواها حتى الآن. ما أثار قلقًا مصريًّا حول حدوث إمكانية تنسيق عسكري “إثيوبي-تركي”. ذلك في ظل فشل المفاوضات حول سد النهضة بين (إثيوبيا والسودان ومصر).
في المقابل، يعد التحالف مع تركيا من جانب إثيوبيا مصدر قلق للقاهرة. لما تمثله تركيا بالنسبة لإثيوبيا من حليف مسلم وشرق أوسطي قوي في مقابل التكتل العربي الداعم للقاهرة.
تقليص نفوذ مصر
مكمن خطورة التحركات التركية في تلك المنطقة ينبع من كونه يحمل أبعادً أكثر عمقًا. حيث الرغبة في استعادة نفوذ الدولة العثمانية القديمة بكل أوجهه. فلا ينحصر الاهتمام التركي بالمنطقة في الجوانب الاقتصادية والأمنية فقط. بل يتعدى ذلك، من خلال تحريك أذرعها الثقافية والإنسانية، المتمثلة في الهلال الأحمر التركي ووكالة التعاون والتنسيق التركية TIKA. وهما ينفذان مشروعات إنسانية وتنموية في كل من الصومال وجيبوتي والسودان.
هذا البعد يمثل أحد أدوات التدخل الناعم التركي في إفريقيا، والتي تهدف لربط الصلات الدينية والثقافية بين دول المشرق الإفريقي وتركيا. وهو التوجه الذي يمثل خصمًا من مساحات امتداد طبيعي للنفوذ المصري. إذ قُدِّر حجم المشاريع التي موَّلتها الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “تيكا” بين 2011 و2018 في الصومال بقرابة 500 مليون دولار. وهي وكالة تنشط في كل من جيبوتي وإثيوبيا والسودان، ولها مشروعات تعليمية وصحية وثقافية، وتلامس تلك المشاريع وجدان شعوب تلك الدول.
وقد أكسبت سياسة القوة الخيِّرة تركيا تعاطفًا وقربًا من شعوب المنطقة، بحكم حجم نشاطها الإنساني اللافت للنظر. ذلك على عكس المشروعات الإنمائية متواضعة الحجم التي تنفذها دول أوروبية أو عربية في تلك الدول.
فرصة مصرية
الوضع بالنسبة لمصر ليس قاتمًا على صعيد التحديات التي تواجهها في إطار تأمين مساحات نفوذها ومصالحها وتحويل الضغوط المفروضة عليها إلى فرص يمكن استغلالها في إعادة رسم خريطة المصالح المصرية. فرغم المخاوف من أن تصبح أنقرة مهددًا حقيقيًّا لأمن مصر المائي بعد توقيع اتفاقية أمنية وعسكرية مع أديس أبابا، تتشارك مع القاهرة المخاوف الإمارات والسعودية، من اقتراب تركي من مداخل البحر الأحمر، ما يجعل أبوظبي تستميت للبقاء في الصومال، كدرع واق لمصالحها الاقتصادية والسياسية. ما يعني أن هناك مصالح مشتركة بين الدول العربية الثلاث.
كذلك تمتلك القاهرة أوراق ضغط على تركيا متمثلة في ملف شرق المتوسط. وهو ما يعني أنه إذا استطاع صانع القرار المصري صياغة رؤية مصرية شاملة توظف إمكانات القاهرة الإقليمية والدولية وما تملكه من أوراق لعب، ليس على صعيد ملف البحر الأحمر أو القرن الإفريقي فقط، ولكن على مستوى باقي الملفات، بشكل متناغم ومتداخل، فسيكون بمقدور القاهرة كسر الطوق الذي تسعى أطراف إقليمية لفرضه عليها.