في تعريفه الكلاسيكي، يقول ماكس فيبر إن الشكل الأمثل للبيروقراطية يتمثل في الهرمية والعقلانية، وتقسيم المهام والعلاقات غير الشخصية. والعقلانية البيروقراطية الغربية هي النظام المهيمن في أغلب الدول الحديثة. وهو وضع لا تعرفه منطقتنا وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي تسعى لتحديث مؤسساتها بينما لا تزال تحتفظ بمكونات النظم ما قبل الحديثة وتعتمد على حكم الفرد المطلق للمؤسسات او النظام التقليدي الذي اطلق عليه فيبر الباتريمونالية،.
النظام السعودي يقترب من النموذج الذي يوصف اليوم بالنيوباتريمونالية حيث يمتزج نمط الهيمنة العقلاني/البيروقراطي مع الهيمنة الباتريمونالية. فالسعودية عالقة بين الرغبة في تحديث مؤسساتها، والاصرار على الاحتفاظ بالحكم الأوتوقراطي التقليدي في نفس الوقت.
ماكس فيبر يراه الكثيرون واحدًا من أبرز المنظّرين في مجال علم الاجتماع خلال القرن العشرين، وهو يُعرف إلى جانب كارل ماركس وإميل دوركايم، بصفته مهندسًا رئيسيًا لعلم الاجتماع المعاصر
الزبونية.. البيروقراطية السعودية
ترجع أزمة البيروقراطية في السعودية إلى عقود سابقة. يقول ستيفن هيرتوج، الأستاذ بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، إنه في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، توسعت البيروقراطية في السعودية بشكل كبير، وجاء هذا التوسع بلا بناء أو خطة واضحة. فتداخلت مهام وأنشطة المؤسسات العامة، وغاب التنسيق بين المؤسسات الحكومية المختلفة. وكانت كل وزارة تنظم ميزانتها على حده، والعديد من المؤسسات الحكومية إما كانت تتأخر في تسليم تقاريرها المالية أو لا تسلمها، ما سبب العديد من المشاكل المالية.
وهو يرجع هذا الأمر إلى أن النظام البيروقراطي الذي أسسه الملك فيصل، اعتمد على “الزبونية” في التعيين وليس الكفاءة، واتسم النظام -آنذاك- بالمركزية الشديدة.
يضيف “هيرتوج” أنه على الرغم من مسئولية الخبراء الأجانب عن التدريب وتقديم الاستشارة. لكن كان تأثيرهم محدود في تحديث البيروقراطية السعودية. فلم يستطيعوا تأسيس نظام بيروقراطي مبني على الكفاءة. ذلك لإصرار الملك فيصل على إدارة البيروقراطية عن طريق “الزبونية”.
ويجادل “هيرتوج” بأن الملك “فيصل” استخدم البيروقراطية كأداة احتواء للقوى الاجتماعية المختلفة، مثل العلماء، عن طريق تعيينهم في جهاز الدولة. وقد منعت هذه الزبونية في النظام البيروقراطي السعودي تشكل طبقة وسطى جديدة ومستقلة. وظلت الطبقة الوسطى محتواة داخل البيروقراطية. كما لم تتشكل طبقة عاملة سعودية، بسبب الاعتماد على العمالة الأجنبية.
إصلاحات خارجية
في السنوات الأخيرة، أدركت السعودية أن البيروقراطية الضعيفة، والاعتماد على الأجانب يضعف الحكم وصناعة السياسات بشكل صحيح، وأن هذا النمط من الحكم لن تكون له نتائج مستدامة. لذلك سعت إلى بناء نخبة من التكنوقراط المحليين. هؤلاء التكنوقراط الجدد أغلبهم من الشباب والحاصلين على تعليم من الخارج في جامعات أوروبا والولايات المتحدة، وفي مجالات متعددة.
كما أسست السعودية “الأكاديمية الوطنية للصناعات العسكرية”؛ لتدريب خبراء سعوديين في مجالات الصناعات العسكرية والأمنية. وبناء النخبة البيروقراطية السعودية هذا إنما يرتبط برؤية “السعودية 2030” -التي تصدر مشهد إعلانها ولي العهد الشاب محمد بن سلمان- وهي تسعى لتنويع الاقتصاد بدلًا من الاعتماد على النفط فقط.
يشير تقرير نُشر في مجلة “المجلة” السعودية في العام 2021، إلى البيروقراطية الجديدة التي تسير المملكة نحوها، فيقول إن السعوديين أصبحوا راضيين عنها لـ”سرعتها وكفائتها”، وإن الإدارة في البيروقراطية الجديدة أصبحت مكونة من شباب سعودي، وإن التعيين والترقية بات يعتمد على الكفاءة والأداء والرقمنة ووسائل التواصل.
الخلل الجوهري في إدارة السعودية
يجب الحذر عند قراءة مثل هذه التقارير التي هي في جوهرها دعاية للنظام السعودي الجديد. لكن مع الرؤية النقدية تتضح عدة نقاط:
- النموذج الذي عرضه كاتب التقرير يوضح ما تطمح السعودية إلى تحقيقه. وهو ينقل الصورة التي تريد الدولة أن تعكسها للعالم. وهذا يتضح أيضًا في ترجمة المقال إلى اللغة الإنجليزية، بما له من دلالة.
- كذلك، يركز التقرير على تبني السعودية الخطاب النيوليبرالي، الذي يربط بين الكفاءة في القطاع الخاص وعدم الكفاءة في القطاع العام. وهذه إحدى التناقضات التي ستتسبب في مشاكل مستقبلًا. خاصة مع اتجاه السعودية نحو اقتصاد ما بعد النفط، وخصخصة شركات الدولة، في ظل عقد اجتماعي يعتمد على اكتساب النظام السعودي الشرعية السياسية بتوزيع ريع النفط على الشعب.
اقرأ أيضًا: محمد بن سلمان.. طموح عابر للجغرافيا العربية والرمزية الدينية
ربما التشبيه الذي اعتمده كاتب التقرير لتعظيم البيروقراطية السعودية أشار بشكل غير مباشر إلى الخلل الجوهري الذي يشوبها منذ سنوات. أو هكذا يرى هادي فتح الله، الباحث في مركز “مالكوم كير-كارنيجي للشرق الأوسط”، حين يقول إن النظام في السعودية يدير الدولة بطريقة إدارة الأعمال الخاصة، وإنه بدلًا من وضع السياسات العامة والبناء عليها، يتم وضع استراتيجيات لتطبيقها، كما هو الحال في الأعمال الخاصة.
ويجادل “فتح الله”، بأن السياسات السعودية هي في الحقيقة مجموعة من وثائق في الاستراتيجيات، كتبها خبراء أجانب، ولا ترتقي لسياسات عامة متماسكة.
ويتسم تطبيق الاستراتيجيات -في هذه الحالة- بالمركزية الشديدة، ويتم الضغط على الموظفين لتنفيذ المشاريع بشكل فوقي في فترات قصيرة بلا استشارتهم. حتى أن المشروعات التي يتم تنفيذها في سياق “رؤية السعودية 2030” تتم تحت الإشراف المباشر لفريق “رؤية 2030” والمؤسسات التابعة لها.
اقرأ أيضًا: الضغط بالنفط.. سعودية بن سلمان واقع مغاير يحير واشنطن
كذلك، تفتقر المؤسسات السعودية إلى الذاكرة المؤسسية، مع استبدال الاستشاريين بشكل دائم، وتغييب الكفاءات عنها، كما يوضح “فتح الله”.
جزء هام من “رؤية 2030” هو إصلاح الجهاز البيروقراطي للسعودية. ذلك بتحسين المؤسسات السعودية لتصبح أكثر مرونة وكفاءة، ولكن تكمن المعضلة في إمكانية تحقيق هذا مع هشاشة المؤسسات السعودية، كما تقول الباحثة جين كينينمونت مدير السياسات في شبكة “القيادة الأوروبية”، التي تشير إلى عوامل هيكلية تصعب تحقيق “رؤية 2030”. وعلى رأسها الضعف النسبي للمؤسسات السعودية، وعدم كفاءة الجهاز البيروقراطي.
حكم صاحب السمو فوق حكم الخبير
تقول كالفرت جونز الأستاذة بجامعة ماريلند، في دراستها عن دور الخبراء في الخليج التناقضات بين ما هو متوقع وما يحدث في الواقع: “نظريًا من المتوقع أن يكون للخبراء من أهم جامعات ومراكز الفكر في العالم الذين يعينهم أمراء الخليج دور فيما يبدو بعملية صناعة القرار هناك من عقلانية وعلمية. ومن ثم المساهمة في زيادة شرعية النظام الحاكم”.
لكن -وكما توضح “جونز”- النظم الأوتوقراطية (سلطة الرجل الواحد) في دول الخليج تحول دون أن يكون ذلك مثمرًا. حيث أن الخبراء الأجانب يميلون نحو عدم مواجهة النخبة الحاكمة بالحقيقة الكاملة. بينما يتوقع حكام الخليج أن يقدم الخبراء الأجانب حلولًا سحرية لتحقيق إنجازات أكبر في فترات وجيزة. وكثير من الخبراء يرضخون ويوافقون ما يؤدي إلى فشلها في النهاية.
اقرأ أيضًا: سعودية بن سلمان.. كل شيء قابل للتحديث إلا نظام الحكم
وتلاحظ “جونز” أنه في النهاية عندما يجد حكام الخليج أن النتائج المطلوبة لا تتحقق، يستبدلون الخبراء بآخرين، وتتكرر العملية نفسها مرارًا وتكرارًا. وهذا يعبر عن ضعف الذاكرة المؤسسية في دول الخليج. إذ أن حكام الخليح لا يتعلمون من أخطائهم، كما تقول.
أما فيما يتعلق بالشرعية، فالخبراء الأجانب يضعفون شرعية النظم الحاكمة عند الشعوب الخليجية، التي ترى بأعينها أنه رغم تعيين الخبراء لا يتحقق التقدم المطلوب.
مع صعود محمد بن سلمان في 2016، ظهرت خلافات بينه وبين وزير البترول على النعيمي، حول تحديد سياسات النفط. رأى “نعيم” أن الاتفاق مع فنزويلا وروسيا وقطر على تجميد إنتاج النفط سيؤدي إلى تحسن السوق. بينما رأى بن سلمان أنه دون موافقة إيران التجميد لن يكون مفيدًا. وبالفعل، قبل المحادثات بين البلدان بساعات، أخبر محمد بن سلمان ممثلي السعودية بالعودة والانسحاب، واستمر تهميش النعيمي حتى تمت إقالته في العام نفسه.
هذا الخلاف مثال حي يعبر عن جوهر الأزمة في النظام السعودي.
فرغم أن السعودية تسعى لتحديث بيروقراطيتها، يظل نظامها الحاكم أوتوقراطيًا يقف سدًا حاجزًا أمام تحقيق المطلوب. ونعيم هنا يمثل التكنوقراطي ذو الخبرة الذي عمل كوزير لما يزيد عن العشرين عامًا، الذي لم يُستجاب لرأيه بفعل طغيان قرار بن سلمان الشخصي على تحليله.
إن محاولات السعودية لبناء نخبة تكنوقراط سعودية بلا جدوى حقيقية، طالما هناك أوتوقراطًا يحكم.
أين الشعب السعودي؟
هناك جدالات في مختلف دول العالم حول حكم الخبراء وحكم الشعب. البعض يرى أن تعظيم دور الخبراء في تحديد السياسات، يضعف الديمقراطية، حيث أن الناس العادية لا يصبح لهم دور في صناعة السياسات. وهم غير مهمي الرأي في هذه المعادلة التي تقوم على الحاكم والخبير.
وهذا الأمر واضح في السعودية بشكل لافت للانتباه. فلا مكان لصوت الشعب السعودي في تحديد السياسات، ومؤسسات وسياسات الدولة تديرها وتحددها العائلة المالكة والخبراء (الذين أغلبهم من الأجانب إلى الآن)، الذين تضعف أرائهم أمام سلطوية النخبة الحاكمة السعودية.
وإلى الآن، استفاد الشعب السعودي من مزايا العقد الاجتماعي الريعي. إذ يقايض تلك المزايا بالتنازل عن الحقوق السياسية، فلا يطالب بالمشاركة في مؤسسات الدولة وصنع سياساتها.
ومع ذلك، فإن نجحت السعودية بالفعل في التحول إلى اقتصاد ما بعد النفط، وخصخصة مؤسسات الدولة، فقد يضعف هذا العقد الاجتماعي الريعي. ما سيجعل الشعب السعودي يبدأ بالمطالبة بمزيد من الحقوق السياسية. خاصة مع صعود التكنوقراط السعوديين الشباب.