أثار مشروع قانون “صندوق هيئة قناة السويس” الكثير من الجدل والصخب على وسائل التواصل الاجتماعي وفي دوائر النخب السياسية والاقتصادية على حد سواء، فمشروع القانون وما تضمنه من نصوص تطرح إنشاء صندوق استثماري للهيئة وتخصيص جزء من مواردها له، فتح الكثير من النقاش حول مبدأ وحدة وشفافية الموازنة، وبين تخوفات العديد من المواطنين والفاعلين السياسيين من فتح الباب أمام المساس بمرفق قناة السويس الذي يعتز به كل مصري شريف يعرف تاريخ هذه القناة التي حفرت بدماء المصريين، ودفعنا ضريبة سيادتنا الوطنية عليها في حرب العدوان الثلاثي، والتي لا يجرؤ أحد على المساس بها أو التفريط فيها بأي صورة من الصور.

اقرأ أيضا.. القناة.. بين نقص المناعة وضعف الذاكرة!

الحساسية المفرطة التي دفعت الكثيرين للرفض الحاد لذلك المشروع نتيجة عدم اتضاح بعض البنود، وعدم إتاحته لوقت كافي من النقاش العام كما تحدث السيد الرئيس بنفسه، فضلًا عن حالة القلق والضيق العام جراء ضغوط الأزمة الاقتصادية الراهنة التي نعيشها منذ شهور، هي في كل الأحوال مؤشر مطمئن على خوف أبناء الوطن وحرصهم على مقدراته، وهو ما يستحق أن نقف عنده بالتقدير لكل أصحاب هذا الرأي بغض النظر عن المواقف المتباينة والمختلفة من فكرة هذا الصندوق، فكلنا أبناء هذا الوطن نسعى بحق لحماية ثرواته، ومهمومين بتقدمه وتحسن أحواله.

أما في المضمون، فإن وجهة نظر المعترضين على الصندوق نتيجة تخوفات موضوعية ترتبط بمبدأ وحدة وشفافية الموازنة العامة للدولة هي أمر يستحق التوقف عنده كثيرًا لكونه يتناول قضية مهمة تتعلق بسلامة المالية العامة، وضمان كفاءة الإنفاق العام، وهي قضايا في غاية الأهمية وتمس جوهر عمليات الإصلاح الاقتصادي المطلوبة للاقتصاد الوطني.

تمثل قناة السويس مصدرًا ثابتًا وتاريخيًا للنقد الأجنبي حيث ارتفعت حصيلتها في العام الأخير بما يزيد عن 7 مليارات دولار، وهو رقم رغم أهميته لكنه لا يعبر بحق عن القيمة الاقتصادية لقناة السويس وما يمكن أن تصل إليه إذا تم حسن استغلال محيطها بمناطق لوجسيتية وخدمية وتصنيعية، تضيف قيمة اقتصادية أكبر للقناة وللاقتصاد القومي، خاصة مع وجود مشاريع منافسة تستعد على المدى المتوسط والبعيد للمزاحمة الاقتصادية للقناة، مثل قناة بنما وطريق رأس الرجاء الصالح وخط سيبيريا، وغيرها من مشاريع الطرق القديمة التي يتم إحيائها برًا وبحرًا أو الطرق الحديثة التي يتم تحضيرها، فضلًا عن وجود مناطق لوجسيتية بحرية تحقق أضعاف ما تحققه قناة السويس، مثل موانئ دبي التي تحقق 15 مليار دولار سنويًا، أو موانئ سنغافورة التي تحقق 35 مليار دولار، وهو ما يعني وجود أهمية قصوى لتطوير منطقة قناة السويس بشكل سريع ومدروس، وهو غرض منطقي ومشروع ومهم لتطور الاقتصاد القومي، وكل تأخير في هذا الهدف الاستراتيجي يخصم كثيرًا من فرص الاقتصاد المصري في المستقبل.

قناة السويس حققت إيرادات 7 مليارات دولار
قناة السويس حققت إيرادات 7 مليارات دولار

أما عن الموازنة العامة، فإن هيئة قناة السويس هي واحدة من 59 هيئة اقتصادية في هيكل المالية العام المصري، وتمتلك الهيئة 7 شركات تابعة لها، وبحسب موازنة العام الحالي، فإن ضرائب أرباح الهيئة العامة والهيئة الاقتصادية للقناة تساهم بأكثر من 40 مليار جنيه في إيرادات الموازنة، بالإضافة إلى 5.6 مليار جنيه أخرى ضمن بند “الإتاوة على قناة السويس”، فضلًا عن 41 مليار أخرى فوائض من هيئة قناة السويس والمنطقة الاقتصادية للقناة تقدم إلى الموازنة العامة للدولة، أي إجمالي مساهمة بأكثر من 86.6 مليار جنيه مصري، أو حوالي 3.5 مليار دولار أمريكي بافتراض سعر الصرف 25 جنيها.

وبالعودة لنقاط اعتراض الكثيرين حول تقلص ما سيتاح للموازنة العامة من قناة السويس، أمر له الكثير من الوجاهة، فهو يساوي تقريبًا معظم ما يتم تخصيصه لدعم السلع التموينية (90 مليار جنيه)، وبالتالي فإن تحقيق التوازن بين ضرورة تطوير المنطقة الاقتصادية لقناة السويس وحسن استغلال أموالها من جهة، ودعم الموازنة العامة للدولة التي تنفق على الأجور والمرتبات والدعم الاجتماعي وسداد فوائد وأقساط القروض والاستثمارات العامة، هو أمر بالغ الأهمية، واكتفى القانون بوضع هذه النقطة في إطار التشاور بين رئيس هيئة قناة السويس ووزير المالية ورئيس مجلس الوزراء، وهو بند يحتاج لتشاور ونقاش وتفكير أكثر هدوءًا.

أعمال الصندوق واستثماراته ونفقاته والتي ستخضع لمراقبة جمعية عمومية يشكلها رئيس الوزراء بالإضافة لأعمال المراقبة التي يقوم بها الجهاز المركزي للمحاسبات، وتقرير الهيئات الاقتصادية الذي يرد للجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، ربما تحتاج مرة أخرى وضع ضوابط أكبر لمتابعة نتائج أعمال الصندوق ومدى تحقيقه المستهدفات الموضوعة لتنمية أصول هيئة قناة السويس وقيمتها الاقتصادية.

وبالعودة للصورة الكلية فإن وجود هيكل مالية عام يشمل 59 هيئة اقتصادية، بالإضافة لأكثر من 6 آلاف صندوق خاص تقدر إيراداتها 70 مليار جنيه، بالإضافة للوحدات الموازنية الطبيعية من الجهاز الإداري والوحدات المحلية والهيئات الخدمية، يضع أمامنا تحديات حقيقية في ضمان سلامة المالية العامة وتحقيق الانضباط المالي، وتطور تعبئة الموارد، وكيفية الاستخدام الأمثل لها، وهي الأهداف والغايات التي كانت تسعى إليها الحكومة في قانون المالية العامة الموحد رقم 6 لسنة 2022، والذي نص على التحول الضروري لموازنة البرامج والأداء التي تساهم في وضوح أكبر لأهداف الإنفاق العام والحكومي، ووضوح آليات الإنفاق والمحاسبة، وضمان وحدة الموازنة بعدم تخصيص مورد معين لنفقة محددة، وتجميع موارد الدولة ونفقاتها في إطار واحد يسهل متابعته، رغم أنه استثنى في مادته الثالثة الهيئات العامة الاقتصادية وصناديق التمويل ذات الطابع الاقتصادي من تلك الضوابط.

الحجة التي سردها بعض الخبراء والتي تشكك في حسن تخصيص الموارد من الموازنة العامة، أو ترصد وجود شكاوى وتخوفات من تباطؤ تخصيص الموارد من الموازنة العامة لتنمية الهيئات الاقتصادية وشركات قطاع الأعمال العام، بل والإنفاق الجاري على كثير من المنشآت التي لديها موارد ذاتية، هي أيضًا حجة لها وجاهتها وجديرة فعلًا بالنقاش المتمعن ولا ينبغي إغفالها، فهل هناك من وسيلة لتحسين نمط إدارة وتدبير المصروفات والاستخدامات في الموازنة العامة يمكن الاعتماد عليها لضمان عدم تعطل الهيئات والخدمات ؟ وهل هناك في المقابل ما يمكن وضعه من ضوابط تكنولوجية وإدارية ومحاسبية تضمن حسن المراجعة والرقابة للقوائم المالية وللنفقات العامة لكافة الهيئات والوحدات الموازنية ؟ وهل يكون علاج تلك المشكلة سرعة تطبيق موازنة البرامج والأداء أم يظل العلاج الأسهل والأسرع هو تحويل الكثير من المرافق لصناديق خاصة أو هيئات اقتصادية يمكنها تدبير إيراداتها ومصروفاتها بشكل مستقل ؟ وهل وجود صناديق خاصة وهيئات اقتصادية تعمل بمعايير وخبرات الاستثمار الخاص وإدارة الأصول والتمويل، تحقق كفاءة بالفعل في تنمية قدرات الهيئات الاقتصادية ؟ أم لا تحقق المستهدفات نتيجة تشابكات لا نعلم تفاصيلها بدقة؟

كل تلك النقاط في غاية الأهمية وينبغي في وجهة نظري أن تكون محل نقاش حقيقي بين الخبراء في المحور الاقتصادي داخل الحوار الوطني، وفي كافة المناسبات والمنتديات المماثلة، جنبًا إلى جنب مع قضايا التضخم والاستثمار الأجنبي المباشر وزيادة الإنتاجية والتشغيل وتوطين الصناعة وغيرها من القضايا الاقتصادية البارزة، فبدون تنمية لمرافقنا الحيوية لا تقدم اقتصادي حقيقي، وبدون حسن إدارة للمال العام وسلامة المالية العامة، لا وجود لاقتصاد كلي قادر على تحقيق الأهداف العامة في توزيع الثروات وتحسين الدخول والوصول للتنمية.