في كتابه “الوهم الكبير: صعود وسقوط الطموح الأمريكي في الشرق الأوسط“، يحاول ستيفن سايمون، العضو السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي وخبير الشرق الأوسط المخضرم. شرح كيف تراجع دور الولايات المتحدة في المنطقة، وانهيار العلاقة بين واشنطن وحلفائها، بعد أن كان الشرق الأوسط مشروعا أمريكيا طموحا، حتى وإن حاولت الإدارات الأخيرة المتعاقبة إبداء الاهتمام بالمحور الآخر في آسيا.
تبرز أهمية الكتاب من ماهية صاحبه. فقد شارك سايمون بشكل مباشر في العديد من السياسات والاستراتيجيات التي كتب عنها. فقد عمل في وزارة الخارجية الأمريكية خلال إدارتي ريجان وبوش الأب الأولى، وشغل مناصب رفيعة في مجلس الأمن القومي في إدارتي كلينتون وأوباما. وبين فترات عمله في الحكومة، شغل مناصب رفيعة في العديد من مراكز الفكر والجامعات وألف كتبا عن الإرهاب والشرق الأوسط.
يتتبع سايمون جهود الولايات المتحدة لتشكيل المنطقة، بداية من الثورة الإيرانية في عام 1979، إلى عودة بنيامين نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل في ديسمبر/ كانون الثاني 2022. في تلك الرحلة، يستخلص دروسًا صارخة: كانت استراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط -كما يوحي عنوانه- “وهمية” وملفقة بشكل مستمر.
كتب: هي قصة اختلاط الأفكار العظيمة من قبل صانعي السياسة المقتنعين بنواياهم الفاضلة، تجاه منطقة لا يعرفون عنها إلا القليل، ولا يهتمون بها. إنها قصة سوء فهم جسيم، وأخطاء مروعة، وموت ودمار على نطاق تاريخي.
وخلال عرضها للكتاب في عدد مايو/ أيار- يونيو/ حزيران. طرحت مجلة فورين أفيرز/ Foreign Affairs، السؤال الأكثر إلحاحًا اليوم: كيف يمكن لواشنطن أن تتعلم من هذه الأخطاء الكارثية لصياغة نهج أكثر إيجابية في عصر نفوذ الولايات المتحدة المتضائل؟
لكن، لا يجد سايمون سببًا وجيهًا للإشادة بالسياسات التي ساعد في تشكيلها خلال عمله في الإدارات الأمريكية. بل، يعتقد الآن أنه خلال العقود التي قضاها في واشنطن، كانت جهود الولايات المتحدة في الشرق الأوسط “مهمة حمقاء”.
اقرأ أيضا: الانسحاب “الفوضوي” من أفغانستان.. أحد كروت الصراع في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024
يشير العضو السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي إلى أنه، في كثير من الأحيان، أدت الخطط الطموحة لتأمين الاستقرار، وتعزيز الديمقراطية، وإحباط الإرهاب، إلى النقيض. فقد تم تعزيز الاستبداد، وتفاقم البؤس الاقتصادي، والتحريض على العنف.
وكتب: “الوهم متجذر في الاقتناع بأن الحقائق لا تهم، فقط النوايا. أننا نصنع واقعنا ونعيش فيه، وقدراتنا غير مقيدة، وأهداف سياستنا حرة”.
لكن سايمون لا يتوانى، كما يلاحظ، في تأكيد أن حقيقة أن صانعي السياسة الأمريكيين -بمن فيهم هو نفسه- أرادوا جعل الشرق الأوسط مكانًا أفضل، مع تعزيز المصالح الاستراتيجية لواشنطن، هي “جوهر المشكلة”.
ربما لهذا جاء كتاب “الوهم الكبير” ليروي قصة ثمانية إدارات رئاسية أمريكية متعاقبة. مما أعطي السرد وضوحا زمنيا، حتى لو كان يحجب الاتجاهات التاريخية الأوسع.
ثمانية أنواع من الفشل
يبدأ الكتاب بمفاوضات الرئيس جيمي كارتر حول اتفاقيات “كامب ديفيد”، وهي اتفاقية السلام التاريخية عام 1979 بين إسرائيل ومصر. وفقا لسايمون، كان تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط حتى ذلك الوقت متواضعا نسبيا. فقد “ابتعد” الرؤساء دوايت أيزنهاور، وجون كينيدي، وليندون جونسون عن المنطقة، تاركين التدخل العسكري للبريطانيين.
لكن بعد كامب ديفيد، تغير ذلك بشكل حاسم. أو كما كتب المؤلف: “حقا، بعد عام 1979، نرى أمريكا تعسكر سياستها في الشرق الأوسط”.
يمكن رؤية عواقب هذا التحول -من وجهة نظر سيمون- في كل شيء. بداية من التدخل الفاشل لإدارة ريجان في الحرب الأهلية اللبنانية، في أوائل الثمانينيات. إلى “العرض القذر”، كما وصفه أوباما بنفسه، في ليبيا، حيث حملة الناتو غير المنظمة التي قادتها واشنطن في أعقاب انتفاضة 2011 ضد الدكتاتور الليبي معمر القذافي.
بعد تجاوزه لاتفاقات كامب ديفيد بسرعة، خصص سيمون عدة صفحات لسياسة كارتر التعيسة تجاه إيران، والتي انتهت بجهود كارثية لإنقاذ الرهائن الأمريكيين في طهران. في تقديره، ساهم هذا الخطأ غير القسري في فوز رونالد ريجان في المنافسة الرئاسية عام 1980، وزاد بشكل كبير من دور سياسة الشرق الأوسط في السياسة الانتخابية الأمريكية.
وفي فصله عن ريجان، يستعرض سايمون ردود فعل الرئيس على الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وفضيحة “إيران كونترا” أثناء حرب العراقية- الإيرانية. وخلص إلى أنه “لم يكن هناك أي شيء حاولت الإدارة القيام به في الشرق الأوسط في فترتيها”.
وخلال ولاية الرئيس جورج بوش الأب، طردت الولايات المتحدة القوات العراقية من الكويت. وبعد ذلك، في مؤتمر مدريد عام 1991، ساعدت في الدخول في عدة عقود من المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وأحيانًا الدول العربية الأخرى.
ومع ذلك، من وجهة نظر سايمون، لم تنجز الإدارة أي شيء آخر. فلم يكن الانتصار في حرب الخليج وإطلاق عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، أكثر من مجرد “أوهام مزدوجة” تركها بوش لمن تلاه في السلطة، بيل كلينتون.
أنتجت إدارة كلينتون اتفاقيات أوسلو، وهما زوجان من الاتفاقيات الموقعة عامي 1993 و1995، وشكلت اعترافا متبادلا بإسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. لكن، لم يتم إحراز أي تقدم حقيقي في بناء دولة فلسطينية، ولم تنجح جهود كلينتون في الفترة الثانية لتأمين اتفاق سلام حقيقي.
في النهاية، بعد عدة سنوات من الأمل، كان ما تركه كلينتون للرئيس جورج بوش الابن، أفضل قليلا مما حصل عليه هو نفسه.
عسكرة السياسة الأمريكية
في رواية سايمون، أدت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 التي شنها تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة إلى وصول عسكرة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط إلى ذروتها.
وبقدر ما كانت الهجمات مدهشة، فإن فشل البيت الأبيض في رؤيتها صدم سايمون “بدا لاحقا أنه من غير المعقول أن إدارة بوش يمكن أن تكون غير مكترثة بالتحذير الاستخباراتي من هجوم وشيك”.
بعد ذلك، قام فريق بوش بتحريف طبيعة التهديد الجهادي، مستخدمًا أحداث 11 سبتمبر/ أيلول لتبرير مسعى للانتقام يشرف عليه مسئولون من المحافظين الجدد والصقور، الذين تمت إعادة تدويرهم منذ عهد ريجان وإدارات بوش الأولى.
ببساطة، بدلاً من زعيم القاعدة أسامة بن لادن، سرعان ما أصبح الهدف الرئيسي صدام حسين. وذلك على الرغم من استنتاج مسؤولي مكافحة الإرهاب بأن الدكتاتور العراقي ليس له صلات ذات مغزى مع الجماعة الإرهابية. وكانت النتيجة غزو العراق واحتلاله، حيث تم احتضان جماعة إرهابية معادية للولايات المتحدة بشكل أكثر جذرية. وهي تنظيم الدولة الإسلامية، والمعروف لاحقا باسم “داعش”.
وسط هذا الصراع المكلف، والصراع الموازي الذي يتكشف في أفغانستان، تم إحراز تقدم ضئيل في تأمين المصالح الأمريكية، أو جعل الشرق الأوسط أفضل حالا.
لذلك، جاءت إدارة باراك أوباما إلى السلطة راغبة في الخروج من هذه المياه المضطربة. لكن، وجدت نفسها متورطة مرة أخرى بسبب صعود داعش، الذي أحبط جهود الانسحاب من العراق. ثم حدوث الانتفاضات العربية غير المتوقعة في 2010-2011. حيث تركت ردود إدارته المربكة للثورات الشعبية ضد الأنظمة المتحالفة مع الولايات المتحدة، كلا من الديمقراطيين والمستبدين -على حد سواء- ليشعروا بالخيانة.
بالنسبة إلى سايمون، من المفارقات المريرة أن الإنجاز الاستراتيجي المهم الوحيد لأوباما هو الاتفاق النووي لعام 2015 مع إيران، والمعروف باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة”. لكن، هذه الخطة تنصل منها خليفته دونالد ترامب على الفور. وبدلاً من ذلك، شرعت إدارته في حملة ضغط انتقامية -لكنها غير فعالة- ضد الجمهورية الإسلامية.
في الوقت نفسه، احتضنت إدارة ترامب أنظمة استبدادية كانت واشنطن تعتمد عليها لفترة طويلة. كما تخلت الإدارة عن التظاهر بالدعم الأمريكي لعملية السلام الإسرائيلية- الفلسطينية المستمرة منذ عقود، واختارت بدلاً من ذلك نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهندسة “اتفاقيات إبراهيم”.
هنا، يجادل سايمون بأن صفقات ترامب أدت إلى تفاقم الطبيعة الفوضوية لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وبحلول الوقت الذي وصل فيه جوزيف بايدن إلى منصبه في عام 2021، كانت استراتيجية الولايات المتحدة قد منيت بهزيمة ذاتية، ولم يكن أي من الأصدقاء أو الأعداء، من بين الدول الرائدة في المنطقة، يهتمون كثيرًا بالولايات المتحدة أو لسياستها.
أسوأ الأعداء
بالنظر إلى الحجم الاستثنائي للتدخل الأمريكي في الشرق الأوسط على مدى العقود الأربعة والنصف الماضية، يبرز سؤال: لماذا كانت السياسات الأمريكية شديدة الاتساق؟
يقدم سايمون عدة إجابات، الأول والأكثر حيوية، هو تقييمه للمسؤولين عن إنشائها. يشير إلى أنه كانت الدائرة المقربة من كارتر “مختلة”. بينما كانت إدارة ريجان “تضم ذوي بشرة رقيقة ومراوغين. ومتمردون كانت رؤيتهم لعملية سلام عربية- إسرائيلية سخيفة تمامًا”.
أيضا، أعمى فريق بوش الاب”وهج القوة الأمريكية”، فيما تعثر مستشارو كلينتون في الشرق الأوسط “بسبب الانجذاب إلى العقائد الخاطئة”. وكان بوش الابن “ضيق الأفق بشكل واضح، وغير مبال، ومندفع. مع نهج فظ لمعضلات السياسة الخارجية”.
لم تعكس مشاكل أوباما في ليبيا أي نية خبيثة، بل عكست فقط “عدم الكفاءة”. ثم كان هناك ترامب، الذي عيّن حقيبة الشرق الأوسط لصهره جاريد كوشنر، والذي سعى وراء “رأسمالية المحسوبية القائمة على التعامل الذاتي”.
تقول فورين بوليسي: بعد قراءة هذا الكتالوج، من الصعب مقاومة الاستنتاج القائل بأن دولارات الضرائب الأمريكية كانت تدفع رواتب مجموعة مذهلة من الأوغاد.
على نفس القدر من الأهمية بالنسبة لسايمون، كانت هناك عملية سياسية معيبة للغاية.
بدلاً من الحس السليم أو البصيرة الاستراتيجية، تم تشكيل صنع السياسة الأمريكية في المنطقة دائمًا من خلال الضرورات السياسية، والتثبيتات الأيديولوجية، والدوافع العاطفية، وعملية التنسيق التي تتطلب نوعًا من الإجماع بين الوكالات، والذين -غالبا- ما تكون أولوياتهم غير متوافقة.
ويقترح سايمون أنه “حتى أكثر المحللين الموهوبين سيجدون صعوبة في تنفيذ الأفكار الجيدة”. مذكرا القراء بأنه قبل أكثر من 18 شهرًا من هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، نشر هو وخبير مكافحة الإرهاب دانيال بنجامين مقالًا في صحيفة نيويورك تايمز، يحذر من أنه سيكون هناك قريبًا “هجوم جماعي للخسائر” ضد الولايات المتحدة من قبل المتطرفين السُنّة”.
ومع ذلك، هناك تفسيرات أخرى لفشل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يتجاهلها سايمون. مع انتهاء الحرب الباردة، أعاقت نزعة الانتصار الأمريكية نوع البحث عن الذات في واشنطن، الذي قد ينتج عنه مداولات أكثر جدية حول عواقب السياسات الأمريكية، وما يجب أن تكون عليه المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط بالضبط.
اقرأ أيضا: في السياسة العالمية.. بعض القواعد تهم أكثر من غيرها
حلفاء وخصوم
يشير سايمون إلى أنه عندما بدأت واشنطن في الانغماس في المنطقة في السبعينيات “بدا ضعف المملكة العربية السعودية وإسرائيل مدهشًا”. ولكن مع بداية القرن الحادي والعشرين، وتحت الوصاية والدعم الباهظ من الولايات المتحدة، نما كلا البلدين ليصبحا قوى إقليمية كانت مستعدة بشكل متزايد لتحدي واشنطن عندما تباعدت مصالحهما.
وعلى الرغم من أن رعاية هذه الدول الضعيفة لتصبح لاعبين أقوياء -ومخيبين للآمال عدة مرات- تعتبر نجاحا، وفقا لسيمون، إلا أنه يسأل أيضا “بأي ثمن؟”
تشير فورين أفيرز إلى أن تركيز سايمون على العلاقات الثنائية مع الحلفاء والخصوم “يكشف أيضا عما يتركه في عصر غيّر فيه الابتكار الرقمي وسائل الإعلام، ووسع سلاسل التوريد، وأثري الصناعة المالية، وأعاد تشكيل التكنولوجيا العسكرية، وأحدث ثورة في التجسس والاستبداد، وولد عدم المساواة المتزايدة”.
تقول المجلة: تغير دور ومصالح أقوى دولة في العالم بالضرورة أيضا. ومع ذلك، فهو -سايمون- لا يناقش أنواع القوى الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية. من اختراق الإنترنت، ومعدلات معرفة القراءة والكتابة، إلى النمو السكاني وبطالة الشباب. وهي الأمور التي شكلت الحياة اليومية في الشرق الأوسط لفترة طويلة.
تضيف: يبدو من الصعب تبرير إغفال هذه القضايا، لا سيما وأن العديد من دوافع التغيير قد تم تطويرها في الولايات المتحدة وربطها بها.
يشكو سايمون من أن محللي الاستخبارات يجيدون الكشف عن نقاط الضعف في مقترحات السياسة “لكنهم لا يقدمون أبدًا أي أفكار حول كيفية تحسينها”. بالمثل، يعاني كتاب سايمون “الوهم العظيم” من بعض القيود نفسها، كما يرى محرر المجلة الأمريكية.
إذن. هل يمكن لصانعي السياسة الأكثر ذكاء، غير المثقلين بالغطرسة أو التفاهات البيروقراطية، أن يصنعوا سياسة أفضل؟
على الرغم من أن سايمون يناقش الطرق التي لم يتم اتباعها، والتي قد تؤدي إلى نتائج أفضل في نقاط محددة من قصته. إلا أن السرعة التكتيكية ليست رؤية استراتيجية، وهو لا يطرح رؤية لاستراتيجية أمريكية أكثر فاعلية تجاه المنطقة.