رحل إلى رحمة مولاه القيادي الإسلامي الدكتور كمال الهلباوي، وقد بدا لافتا وربما مستغربًا من قطاعات مهمة من الرأي العام مسارعة مئات من أبناء ورموز التيار المدني -المختلف اختلافا مبدئيا وقاطعا مع مشروع الإسلام السياسي عامة ومشروع الإخوان المسلمين خصوصا – إلى الكتابة المُحبة عن الهلباوي والتأسي الشديد على رحيله وغيابه.
وتزيد أسباب الاستغراب من ملاحظة أن الرجل لم يتخل يوما عن قناعته بمشروع حسن البنا الفكري وكان يجاهر بذلك طوال الوقت.
إذن لماذا كان الهلباوي رغم إخوانيته الفكرية أقرب إلى التيار الأساسي في الوطنية المصرية من إسلاميين آخرين كانوا قد سجلوا كمشروع فكري أو كحركة سياسية اختلافات قليلة أو كثيرة مع مشروع «البنا» الفكري، ووصل الأمر بالبعض إلى الإيحاء أو الإيهام منذ منتصف تسعينات القرن الماضي بأنهم خرجوا تماما عن عباءة البنا والإخوان الفكرية وليس فقط التنظيمية.
الجواب في رأيي يتلخص في عدة جوانب شخصية ومواقف عامة وشجاعة اتخذها الهلباوي خاصة منذ ثورة 25 يناير وإن كانت تراكماتها في وعيه كانت قد اختمرت على مدى عقود عديدة سبقتها.
الانحياز لثورة يناير والمواجهة مع الإخوان:
منذ اللحظة الأولي مثلت ثورة 25 يناير -في تقديري- فرصة تاريخية للهلباوي للانعتاق من كل القيود التي كانت تؤرقه لفترة طويلة، وأول هذه القيود «الغربة الطويلة عن الوطن» التي امتدت في المنافي الاختيارية والإجبارية لتشمل تقريبا معظم القارات.
لم ينس أبدا الهلباوي فضل ثورة يناير في إزالة سدود كانت تمنعه من حلم العودة لمصر «ولمّا قامت ثورة كانون الثاني (يناير) العظيمة، حملت حقائبي وعدت إلى مصر من بريطانيا رغبة في مشاركة الشعب فرحته ومستقبله المشرق».
وانتقلت عدوى حماس الشباب الذين اندمج كثيرا معهم بعد عودته سواء شباب الإخوان المتمردين على القيادة أو شباب الثورة من التيارات المدنية، فبدأ في التخلص من القيد الأكبر الذي طوق معصمه نحو 60 عاما كاملة، وهو قيد التنظيم الإخواني الحديدي الذي سيطر عليه القطبيون ورجال النظام الخاص ذوي الجذور المغروسة في العنف بشكل متصاعد منذ وفاة عمر التلمساني وتولي مصطفى مشهور موقع المرشد وصولا إلي محمد بديع.
سجل الرجل نقده الشديد لقرار القيادة الإخوانية بالتخلف عن النزول للميدان واضطرارها للنزول لكي تقفز عليها، وسجل نقده لدخولها في مفاوضات للانسحاب من الثورة والميدان مع نظام مبارك في صفقة سياسية، ولم يتردد لحظة في الانضمام علنا لرأي الثوار في أن الإخوان تصرفوا بـ «ميكافيلية» فكانوا آخر من نزل للميدان وأول من خرج منه.
وبينما كان الإصلاحيون الإسلاميون من المفكرين أو الحركيين والذين ملأوا الدنيا ضجيجا في مرحلة مبارك عن القطيعة مع الإخوان يعودون صاغرين إلي الحظيرة الإخوانية علي أمل الحصول على قطعة معتبرة من كعكة السلطة، وبينما كان البعض من الجهاديين الذين تعهدوا للمجتمع في مراجعاتهم بالتوبة عن العنف يلتحقون بما سمي بتحالف دعم الشريعة والشرعية الذي أرعبت تهديداته في «جمعة قندهار» المجتمع المصري، وقف الهلباوي في مواجهة للإخوان في عز صعودهم للسلطة في انتخابات البرلمان، بل واستقال من تنظيم الإخوان علنا وعلى الهواء مباشرة، «تقدمت باستقالتي من تنظيم الإخوان يوم 31 مارس 2012 لأسباب عدة من أهمها؛ موقف قيادة الإخوان من الثورة، حيث تأخروا في الانضمام إليها رسمياً، وتركوها في وقت مبكر، وحضروا المليونيات التي تهمهم فقط»، قال الهلباوي.
وبعد تأكده من مغالبة الإخوان وسعيهم إلى الهيمنة والإستئثار بالسلطة وإزاحة كل القوي السياسية عندما نكصوا كالعادة بعهدهم بعدم الترشح لرئاسة الجمهورية وأعلنوا خيرت الشاطر -المهيمن الحقيقي على الاخوان تنظيميا وماليا – مرشحا لهم، وحتى بعد وصول مرشحهم البديل د.محمد مرسي لرئاسة مصر بعد رفض ترشيح الشاطر، لم يتراجع الهلباوي قيد أنملة بل انخرط بالكلية في نضال المصريين لمواجهة الإعلان الدستوري الكارثي وصولا لإسقاط حكمهم في 30 يونيو.
ورغم أن 30 يونيو سرقت لاحقا بشكل سلطوي مطلق كما سرقت يناير من قبلها فإن الهلباوي لم يعتذر يوما عن موقفه المنحاز أخلاقيا للجماعة الوطنية المصرية والصحيح تاريخيا من جماعته السابقة .
قد يقول البعض ولكن الهلباوي لم يكن متفردا في هذا الموقف فقد كان معه بعض الكوادر الإخوانية السابقة، والجواب هو أن موقف الهلباوي كان استثنائيا وتأثيره في نزع جزء مهم وحاسم من الغطاء الأخلاقي عن الإخوان كان بالغا لعدة أسباب:
– وزن الهلباوي المعنوي والسياسي المحلي والدولي في ساحة ما عرف اصطلاحا بالإسلام السياسي كان أثقل بكثير من الكوادر الوسيطة المشار إليها سواء لتاريخه الطويل منذ خمسينات القرن الماضي أو مناصبه التي حصل عليها في الإخوان أو في منظمات دولية- بالغة الغني بالغة التأثير علي الشباب من آسيا إلى إفريقيا ومن أمريكا الشمالية إلي أوروبا، كانت قد بنيت في مرحلة التنسيق السعودي – الإخواني العالمي كمنظمة الندوة العالمية للشباب التي عمل مديرا تنفيذيا لها. وربما كان الهلباوي على المستوى الدولي من أهم عشرة قيادات إخوانية في مجال العلاقات الدولية في تركيا وماليزيا وأفغانستان وباكستان ومنطقة الخليج وأوروبا كلها .
– تأثيره الكبير حركيا وإنسانيا علي تيار شبابي -كبر فيما بعد -يمكن اختصاره في تيار عبد المنعم أبو الفتوح المعارض للطبيعة السرية التآمرية التي صبغت ولازالت التنظيم الإخواني المعزول شعوريا بأفراده في «جيتو خاص» .
– تحمله ما لا يطاق إنسانيا نتيجة موقفه الشجاع من تنظيمه القديم والتي بدأت بإنكار أنه عضو في الإخوان أصلا من شخصيات دخلت بعده للتنظيم بثلاثة عقود علي الأقل -كنت شاهدا على نزول الدموع من عين الرجل في برنامج كنت أقدمه على قناة النهار عندما دخل علي الهاتف عضو في مكتب الإرشاد قائلا إنه لا يعرف شخصا في الإخوان اسمه كمال الهلباوي-.
– وتدرجت الحملة حتى وصلت في تجاوزاتها لاستخدام الإخوان السلاح الخبيث المتكرر والمتهافت منذ الأربعينيات وهي إتهام كل من ينشق عنها بالتعاون مع الأمن وبما أن الهلباوي كان في الخارج معظم الوقت فقد أعادوا صياغتها هذه المرة بأن لديهم الدليل والبرهان على العمل لصالح المخابرات الأمريكية، وهي نفسها أمريكا التي منعته من دخول أراضيها كشخص غير مرغوب فيه وهي نفسها أمريكا التي كان معظم إنتاجه ككاتب موجها ضد سياستها التوسعية المعادية لمنطقتنا!!
– لم يمتحن الباقون بما أمتحن به بل وأعتصر به الهلباوي عصرا من جراء موقفه فقد عارضت السيدة الفاضلة زوجته وأم أولاده موقفه الكاشف لحقيقة جماعة الإخوان -التي كانت سببا في جمعهما معا- أي أن صدع الخلاف وصل إلى بيته نفسه، الأشجع من ذلك كان قبوله الجريء والتقدمي بأن يظهر هذا الخلاف للعلن فظهر ورفيقة عمره في برنامج تلفزيوني دافع فيه كل عن وجهة نظره ولم يثنه ذلك عن موقفه قيد أنملة.
وإضافة لحملة الشتم والاغتيال المعنوي الإخواني التي تجاوزت كل الحدود قوطع الهلباوي اجتماعيا من كثير من أصدقائه وتلاميذه وحاول التنظيم صاحب التاريخ في الفُجر في الخصومة كعادته فرض عزلة اجتماعية عليه كما فعلوا مع كل منشق عنهم، لكن قماشة الهلباوي الواسعة مع تيارات الحركة الوطنية والعربية وعلاقاته الدولية المتشابكة وحاجة الأكاديمية العربية والأجنبية إلى خبرته الكبيرة في فهم الإخوان ومآلات حركتهم أنقذته من مصير سابقين آخرين غضبت عليهم آلهة التنظيم وكهنة معبده فأدخلوا كل منشق عنهم في نفق النسيان والموت وهم أحياء، إذ ظل الهلباوي حتى شهور مرضه الأخير فاعلا وحاضرا.
– لم يقاطع الهلباوي جماعته الأثيرة التي أسسها من ظل يعتبره حتى آخر دقيقة -للأسف- مثله الأعلي فكريا وسياسيا وأخلاقيا وهو حسن البنا، لكي يحصل على منصب في مرحلة ما بعد 3 يوليو 2013 فقد عاد الرجل إلى منفاه البريطاني منهيا حلما ورديا بأن يبقى في مصر للأبد. وبعد أن كان نائبا لرئيس لجنة الخمسين لوضع دستور 2014 وعضوا في المجلس القومي لحقوق الإنسان في فترة رئاسة الأستاذ محمد فائق هاجر للمنفى عندما اختلفت الطرق بينه وبين الدولة المصرية، وطرح بعدها من الخارج مبادرات غير واقعية فيها من التمني أكثر من الواقعية بكثير لما عرف إعلاميا بالدعوة لمصالحة بين الإدارة المصرية الحالية وجماعة الإخوان فرفضها الطرفان بنفس القدر، وهو ما كان دليلا من ناحية على النزعة الأخلاقية وليس السياسية لمبادرته ودليلا من الناحية الأخري على استقلال الرجل.
– كيف كان ممكنا للهلباوي فضح التنظيم الضيق والخروج من شرنقته الضيقة إلي رحابة الارتباط الحر بالمجتمع المصري الواسع ؟.. وإلى ما يعود تجاسر الهلباوي على التنظيم الذي عاش بين جدرانه أكثر مما عاش مع أسرته؟
– أولا سعة الأفق والانفتاح على الآخرين التي وفرتها له إقامته الطويلة في الغرب، فقد أكسبته خبرته الذاتية في بناء أول منظمة علنية للإخوان في بريطانيا احتراما للعلمانية أو المدنية الغربية التي يشرب الإسلاميون كراهيتها شربا في مناهج تربيتهم، وعرف مزايا النظم السياسية -غير الإسلامية إذا صح التعبير- كما تعلم من النقاش العام بين العمال والمحافظين واليسار واليمين وغيرهم في المملكة المتحدة فضيلة العلنية والعمل بعيدا عن أقبية التنظيمات السرية كما تعلم أن أفكار السياسة الاجتماعية والاقتصادية أكبر بكثير من مناهج تربية الأسر الإخوانية و كل المنتج الفكري لما يسمى بـ«الصحوة الإسلامية» عموما.
– ميله الذاتي إلى البحث عن المشترك الوطني والقومي جعله يسعى باستمرار إلى مبادرات للعمل الجبهوي بين تياراته المختلفة ما دامت متفقة علي الإصلاح السياسي في الداخل والعداء لإسرائيل والولايات المتحدة في الخارج ودعم المقاومة الفلسطينية كبوصلة أساسية، وهذا ما سعى إليه عندما عاد للبلاد بعد يناير مقتربا من الجمعية الوطنية للتغيير ومثقفين من اليسار القومي والماركسي.
– ولهذا كانت المواقف التي تجمعه والاساتذة والدكاترة: حمدين صباحي وعبد الله السناوي الناصريين وعبد الخالق فاروق وكريمة الحفناوي الماركسيين وعمار علي حسن وعبد الجليل مصطفى المستقلين قوية دافئة، وإن ظل باستمرار خياره السياسي المفضل وابنه الروحي هو الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح.