بلغ الخمسين ولا يزال واحدا من العمال الذين يصعدون السلم “درجة درجة” يحمل شيكارة أسمنت 50 كجم. هذه الخمسون التي تحمل الخمسين تقف في منتصف الطريق الصاعد ليتلقى منها الحمل زميل له ليكمل إلى الدور العاشر. عبد النبي إبراهيم عامل يومية في قطاع البناء يقول لــ”مصر 360″: “ما باتعبش من الشغل. وبافهم في شغلانات كتير ومعايا عدتي. لكن ممكن أسبوع يعدي عليا من غير ما ألاقي شغلانة”.
يضيف الرجل الذي أصر رغم ضغوط المعيشة على تعليم أولاده: “المقاولين بيساوموا عمال اليومية على الأجرة عشان عددنا زايد وبيزيد كل يوم. بيفاصلونا في الأجرة وساعات في اللقمة اللي بناكلها عشان عارفين إننا مش هنرفض”.
ومثل “عبد النبي” هؤلاء الذين يجلسون على الأرصفة، مستندين بأذقانهم إلى ما يمثل رأس مالهم “فأس وشاكوش وإزميل”. يتابعون حركة السيارات بعيون غائرة تنتظر أن يلتقطها زبون في “شغلانة تأكله وتأكل ولاده”. وكلما اقتربت سيارة من ميدان العروسة بالقاهرة الجديدة يتجمعون حولها في “طابور عرض” انتظارا لمن سيقع عليه الاختيار من صاحب “الملاكي” لإنجاز “مرمّة” بلهجة أولاد الكار.
هذا الواقع الاستثنائي الموسمي في “الرزق” يعيشه ملايين من عمالة اليومية أو العمالة غير المنتظمة بقطاعات الزراعة والصيد والمقاولات والباعة الجائلين وعاملات المنازل وأصحاب الحرف. وغيرهم من الطوائف التي لا تعلم ماذا ستكسب غدا أو بأي أرض تجوع. هي الفئات الأكثر هشاشة في مواجهة التغيرات المناخية” القاسية”. والتى تقوض الوظائف في القطاعات غير المنظمة كما تسبب عجزا في العمل اللائق بحسب تقرير لمنظمة العمل الدولية. فيما يضيف التغير المناخي قسوة على قسوة أعمالهم وظروفهم. حرارة ترفع من إجهادهم. وتلوث بدرجات مختلفة يتغلغل في أجسادهم النحيلة التي تأكلها الأيام الصعبة.
عمال المقاولات
يقدر عدد العاملين بقطاع التشييد والبناء من 3 إلى 5 ملايين ويضم 115 مهنة وحرفة تدنت أوضاعهم الاقتصادية بتراجع العمل في القطاع منذ إصدار قانون التصالح الخاص بعدم إصدار تراخيص البناء للمواطنين إلا وفق شروط صعبة، ما هدد قطاع التشييد بالتعثر والتوقف. الأمر الذي أدى لارتفاع معدلات البطالة والطلاق والمشكلات الأسرية بينهم. وزيادة حالة الاحتقان والتوتر النفسي والاجتماعي وفقا لمحمد عبد القادر -الأمين العام للنقابة المستقلة للعمالة غير المنتظمة.
محمد فرج -مقاول يعمل منذ سنة 2004- اضطرته الظروف إلى ترك المجال وبيع “المعدات” وتسريح العمال منذ صدور قانون التصالح. يقول: “رغم أني كنت نجار مسلح اجتهدت لحد ما بقيت معلم وصاحب عمل وعندي سجل ضريبي لكن الأزمة بعد 18 سنة في المجال خلتني أصفي نشاطي. بعت عربيتي الملاكي واشتريت موديل أقل عشان أستخدم فرق السعر أصرف منه على بيتي. ومع تعثر الحال بعت الشقة اللي كنت ناوي أجوز فيها ابني وعمال أبيع في اللي حيلتي حتة حتة”.
عمال الزراعة
يقول سلامة السيد -أحد المزارعين بشمال الجيزة- إنه اُضطر إلى تقليل عدد العمالة اليومية بأرضه لتوفير النفقات. مع ارتفاع أسعار مستلزمات الزراعة. يضيف: “كان بيشتغل معايا 6 أنفار على الأقل. دلوقتي ماقدرش أوفر لهم أجور لأن كل حاجة غليت عليا. عشان كدا بقيت أنزل الغيط أشتغل أنا وابني الكبير. لازم نوفر”.
تشير أبحاث عديدة إلى تأثيرات المناخ على قطاع الزراعة والمحاصيل. وأحيانا يكون التأثير صامتا لكنه يمس المحاصيل الزراعية بشدة ويدمرها.
بطالة وفقر
يقترب حجم العمالة غير المنتظمة من نصف قوة العمل في مصر -بحسب إلهامي الميرغني الباحث الاقتصادي. حيث يبلغ 11.4 مليون عامل شكلوا نسبة 44% من المشتغلين عام 2020 وفقاً لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء -مسح القوى العاملة بالعينة.
ويشير عبد الفتاح الجبالي -مستشار مركز الأهرام للدراسات الاقتصادية- في دراسة له بعنوان “القطاع غير الرسمي وسوق العمل” إلى أن من يعملون بعمل دائم تبلغ نسبتهم 48.7% مقابل 47.9% يعملون عملا غير منتظم. معظمهم فقراء. كما أن 51% من الفقراء المشتغلين يعملون في القطاع غير الرسمي.
وذهب “الجبالي” إلى أن خطورة هذا الوضع تتمثل في عدم استقرار داخلي لسوق العمل. وصعوبة أيضا في تنظيم الأوضاع بما يتلاءم مع احتياجات المجتمع. فضـلًا عــن الظروف السيئة التي يعمل فيها هؤلاء.
مهنة الصيد
حرفة الصيد شاقة حسب وصف أحمد المغربي -رئيس نقابة الصيادين بمحافظة دمياط: “القرش فيها بييجي بطلوع الروح”.
يقول المغربي لــ مصر 360: “الساعة 9 مساء لسة داخل البيت حالا. عضمي كله مكسر مش قادر حتى أقوم آكل لقمة مع العيال. عايز أتكلفت وأنام علشان ألحق أقوم الفجر أشتغل”.
يكشف المغربي عن حجم الأزمة بأن هناك المئات من عمال الصيد يغيبون بالشهور عن بيوتهم ويصلون إلى شواطئ موريتانيا والصومال. وهم معرضون لنوبات من الأعاصير وتقلبات البحار ومخاطر المناخ والطقس التي لا ترحم.
وفقا للمغربي فإن متوسط مكسب عامل الصيد اليومي من 60 إلى 100 جنيه: “ممكن يقعد شهر واثنين من غير شغل حسب حالة الجو. ودا بيخليه يزود ساعات شغله في الأيام اللي الجو فيها تمام عشان يكفي احتياجات بيته. ومع الغلا اللي الناس فيه الساعات الزيادة دي ولا بتعمل حاجة”.
يقول المغربي: “لتر البنزين اللي كنت بمون به اللنش كنت بشتريه بـ80 قرش أصبح 8.5 جنيه. وجركن الزيت اللي كان بــ55 جنيه وصل 650. بنكسب طبعا لكن بعد حساب مصاريف الصيانة والبنزين والأكل والشرب العملية بتصفى على مفيش”.
وفقا لمنى عزت -مديرة برنامج العمل والمرأة في مؤسسة المرأة الجديدة- فإن أغلب العاملين بشكل غير منتظم لا يتمتعون بشروط السلامة والصحة المهنية ودخولهم ضعيفة. وتضيف: “رغم خطورة هذه الأعمال فإنها لا تلبي احتياجات الأسر وحال التعرض لإصابات عمل أو عجز يفقدون فرص العمل ما يؤثر في مصدر الدخل الوحيد”.
غياب الحصر
يبين “الميرغني” أن وضع العمالة غير المنتظمة صعب لغياب الإحصاءات الدقيقة. وهو ما اتضح خلال أزمة كورونا عندما أرادت الدولة منح إعانة لهم. فقد حصل نحو 1.5 مليون فقط مما يقارب 11.4 مليون. لذلك كل سياسات الحماية الاجتماعية تفشل في لأنه لا يوجد حصر وتصنيف مكتمل لهذه العمالة وتوزيعاتها.
وقالت مني عزت لـ” مصر360″: “بدأت الدولة مؤخرا دمج العمالة غير المنتظمة في القطاع الرسمي للاستفادة من مساهمتهم الاقتصادية. لكن على المستوى التشريعي يحتاجون إلى رعاية صحية واجتماعية عبر تفعيل قانون التأمين الصحي الشامل رقم 2 لسنة 2018 وقانون التأمينات رقم 148 لسنة 2019. وفي ظل التغيرات المناخية يمكن أن يعملوا في صناعات التدوير وإدارة المخلفات. فهو قطاع هام يمكن أن يستوعب عددا من العمالة غير المنتظمة.
برامج الحماية
ويذهب “الميرغني” إلى أن تعديل أوضاع العمالة غير المنتظمة ممكن أولا بحصرهم. ثم تقديم حوافز لتشجعيهم على التسجيل بقوائم معلومة للدولة. كما يحتاج هذا القطاع -بحسب الميرغني- إلى أشكال من الدعم. فالدمج هدفه تنظيم هذا القطاع وتعظيم الاستفادة منه وتحقيق قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد. لأن الحديث عن تسجيل العمالة وحسب هدفه الجباية. بينما لا يوجد اهتمام بمواجهة مشكلات هذه العمالة وتوفير الدعم لها وتحقيق تكامل بين هذه الفئة وبين القطاع المنظم على المستويين الأفقي والرأسي.
رئيس النقابة العامة للعاملين بالزراعة والصيد -المهندس عيد مرسال- أشار إلى أن قانون التأمين الصحي الشامل ضم كل طوائف المجتمع بما فيها العمالة غير المنتظمة ومن المقرر تطبيقه على عدة مراحل. وأوضح أن قانون التأمينات يضمن للعمالة غير المنتظمة أن تدفع الدولة عنهم حصة صاحب العمل في التأمينات. وأن يقوم العامل بدفع الجزء الخاص به البالغ نحو 120 جنيه تقريبا شهريا فقط لتشجيعه على الانضمام.
وتابع أن الدولة تقوم حاليا بالتعاون بين وزارتي القوى العاملة والتضامن الاجتماعي على إعداد حصر شامل بأعداد العمالة غير المنتظمة. كما تقوم بصرف إعانات دورية ومساهمات لهم في المدارس والمرض والزواج وعند وقوع أزمات مثل كورونا.
وقال “مرسال” لــ”مصر 360″: “تقدمنا باقتراح إلى الحوار الوطني بأن تذهب نسبة تأمين المقاولات التي تدفعها بعض الشركات بنسبة 11% لصالح تأمين العمالة غير المنتظمة. على أن تخصم من نسبة العامل في حالة الانضمام تخفيفا عليه لتشجيعه على الاشتراك”.
تخفيف أعباء
مما لا شك فيه أن التغيرات المناخية تضيف إلى هموم العمالة اليومية غير المنتظمة أزمات أخرى. متمثلة في تقليل فرص العمل والأمراض المرتبطة بالتعرض لدرجات الحرارة المرتفعة. وتلك المتعلقة بسوء التغذية. نظرا لعملهم في قطاعات أكثر تأثرا بالمناخ مثل عمال الصيد والزراعة إضافة إلى أن أغلب مجالات عمل هؤلاء يكون في الشوارع المفتوحة أو في الأراضي الزراعية.
ومن أجل تخفيف الأعباء وتجنب جزء من الآثار المتوقعة على هذه العمالة فلا بد من أن تتمتع العمالة غير المنتظمة برعاية صحية واجتماعية. تضمن حصولهم على معاش تقاعدي. إضافة إلى إمكانية الحصول على العلاج. وهو ما يستوجب ضرورة حصرهم أولا عبر تعاون بين الجهات المختصة من جهاز الإحصاء إلى وزارة القوى العاملة.
وفي الجانب الصحي يجب وضع تصور حول خرائط الأمراض التي يمكن أن تصيبهم وكيفية مواجهتها. إضافة إلى ذلك كلما أمكن دمج هذه الفئات في برامج تدريب وتأهيل على مواجهة المخاطر سيوفر ذلك من فاتورة التكلفة الصحية لهم.