حينما تولى الدكتور علي المصيلحي وزارة التموين للمرة الأولي قبل 17 عاما كان أول قراراته إلغاء الخبز الخليط. والاعتماد على القمح فقط باعتباره الأفضل في تحسين جودة الرغيف والاستجابة لمطالب المواطن. قبل أن يعود الوزير نفسه في ولايته الثانية للخبز المخلوط لكن مع تغيير الخليط.
واقترحت وزارة التموين أخيرًا إضافة دقيق البطاطا للخبز لتوفير نحو مليون طن قمح تقريبًا. مع زيادة نسبة استخراج الدقيق إلى 87.5% بدلا من 82%. وذلك لمواجهة تضاعف أسعار القمح العالمية ونقص الإمدادات.
يثير تفكير الوزارة لغطًا حول أسباب اختيار البطاطا تحديدا رغم وجود بديل آخر يتمثل في الذرة. وهو أمر تم تجربته بالفعل واستمر بالمخابز 7 سنوات قبل أن يقرر “المصيلحي” ذاته إلغاءه حين تولى “التموين” في حكومة “الدكتور أحمد نظيف” في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك”. حينها حملت الوزارة اسم “التضامن الاجتماعي والتموين”.
“رغيف جويلي”.. 7 سنين مع المصريين
كان الرغيف المخلوط نتاج مجهود للدكتور أحمد جويلي إبان توليه وزارة “التموين” بين 1996 و1999. وجاء نتاج عمله في الاقتصاد الزراعي بجامعات محلية وعالمية ونشره 100 بحث في مجاله. فتمت إضافة الذرة بمختلف أنواعه لدقيق الخبز التمويني بواقع 80% قمح و20% ذرة.
فكرة “جويلي” ارتكزت على تجربة الخمسينيات حينما كان المصريون ينتجون رغيفًا كاملا من دقيق الذرة. قبل أن يقرر الرئيس جمال عبدالناصر إلغاء ذلك لسوء حالة الخبز حينها عقب اجتماع شهير مع الحكومة. والذي حضره “ناصر” حاملاً كيس خبز جمعه من مخابز عدة مؤنبًا الحكومة على مستوى جودته.
وزير التموين خلال افتتاح مشروع “مستقبل مصر” أخيرًا قال إن مشكلة الذرة في عدم وجود مجففات لها. بعدما تغير الريف المصري من الطوب اللبن إلى الأسمنت المسلح. وبالتالي لم يعد المزارعون ينشرون الذرة فوق الأسطح لتجففها حرارة الشمس.
تصريحات الوزير تثير تساؤلات أكبر طرحها الدكتور نادر نور الدين الخبير الزراعي: إذا كانت مصر لا تمتلك مجففات ذرة وستستوردها فهل تمتلك مجففات بطاطا؟. وهل سيتم استيرادها من الخارج أيضًا؟ وكم التكلفة في ظل أزمة الدولار الحالية؟. وهل يمكن صناعة ذلك الرغيف؟
الإعلامي أحمد موسى عرض في برنامجه “على مسئوليتي” تجربة حية لإنتاج الخبز من البطاطا في الفرن التقليدي. وقال إنها تتم منذ بضع سنوات في مصر وليست مرتبطة بأزمة القمح. مشيرًا إلى أن هناك من المصريين من يستخدم العيش بالبطاطا والذي يحتوي على 50 % قمح ويكون “مسكر”. لكن ما تم عرضه هو خبز مخلوط بعجين البطاطا المطهية “مسلوقة” وليس دقيق بطاطا.
إنتاجية الذرة تجعله بديلا جيدا
بعيدا عن طعم الرغيف المسكّر حال إضافة البطاطا أو المُر بزيادة نسبة النخالة أو عدم وجود أزمة في القمح أساسًا مثلما تقول وزارة التموين يبقي السؤال: “ما حجم إنتاج مصر أساسًا من البطاطا ليتم اعتمادها كبديل لترشيد استهلاك الخبز؟. وهل مساحة زراعتها أكبر من الذرة”.
تقول وزارة التموين: “لا توجد أزمة في إنتاج البطاطا في مصر. حيث يوجد اكتفاء ذاتي منها. وتتم زراعتها في مناطق مختلفة منها الصعيد”. فيما يقول نادر نور الدين إن إنتاج مصر من البطاطا “محدود لا يتعدى عربات البطاطا في الشارع والكميات الموجودة في كل محل خضار وفاكهة”.
وينتج محصول البطاطا بين 3 و15 طنًا للفدان حسب طريقة زراعته ونوع التقاوي. “بلدي صغير الحجم أم إسكندراني كبير”. ويترك ما بين الشتلة والأخرى بين 25 و30 سم. أي إن المتر الواحد تزرع به 4 شتلات بحد أقصى.
وإذا كان حجم المساحة المزروعة لا تتجاوز 30 ألف فدان. ومع افتراض الإنتاجية الأعلى -15 طنا- فإن حجم الإنتاج الكلي من البطاطا لا يتجاوز 450 ألف طن.
في المقابل تتوقع نقابة الفلاحين زيادة المساحة المنزرعة بالذرة العام الحالي إلى 4 ملايين فدان مع تطبيق الزراعة التعاقدية على الذرة الصفراء. وذلك بسعر ضمان 6000 جنيه للطن. مع الشراء بسعر اليوم طبقا للعقود مع شركات الدواجن.
لماذا لا يتم إنتاج رغيف الشعير رغم جودته؟
يقول حسين أبو صدام -نقيب الفلاحين- إن الحكومة استهدفت 2.5 مليون فدان ذرة فقط. لكن المساحات قد تصل إلى 4 ملايين فدان مع بدء زراعة الذرة الصفراء في أغسطس المقبل.
يضيف: الذرة الشعير والبطاطا أو أي إضافات أخرى أمر مرحب به حاليا في ظل تعقيدات استيراد القمح بسبب حرب روسيا-أوكرانيا.
لكن وزير التموين يقول إن خلط القمح والشعير إلى 15% كان ناجحا في تجربة مراكز البحوث من حيث الاستساغة والخصائص. وكان هذا الخليط أفضل من القمح في عدم التفتت. لكن إنتاج الفدان من الشعير يعطي طنا أو 1.1 طن مقابل 3 أطنان قمح.
وأضاف “المصيلحي” أن الاقتصاديات هي الحاكمة في اختبار وزارة التموين. فالشعير لدينا لا يزيد على 250 ألف فدان. ما يعني إنتاجية لا تزيد على 250 ألف طن. ولو تم خلطها كلها مع القمح فإن إسهامها لن يزيد على 2.5%. كما يزرع الشعير في موسم القمح نفسه فهو منافس له.
الحسبة اقتصادية صرفة. فإنتاجية الذرة تربح حال وضعها في مقارنة مع البطاطا الحلوة. خاصة بعدما طوّر معهد بحوث المحاصيل الحقلية بمركز البحوث الزراعية صنفا جديدا من الذرة الشامية “هجين ثلاثي 377” بإنتاجية بين 27 و30 إردبا للفدان.
تقنيات المطاحن مؤهلة للتعامل مع الذرة
ما يعطي الذرة أفضلية هو تعاقد الدولة بالفعل علي مجففات لتقليل نسبة الرطوبة به. بجانب سهولة وخبرة سابقة في تطويع ماكينات طحن القمح للتعامل معه. وهو أمر لم تتم تجربته مع البطاطا المجففة.
حجة وزارة التموين في إلغاء الذرة عام 2005 ترتكن إلى أن أن عمر الرغيف الناتج عنه قصير. حيث يجف سريعًا فيصبح غير طازج خلال ساعتين فقط. وهو أمر ربما لا تصمد صحته مع انتشار الثلاجات في جميع المنازل واعتماد المصريين على حفظ الخبز مجمدًا وتسخينه وقت الاستهلاك.
وإذا كان رغيف الذرة قصير العمر مثلما تقول وزارة التموين فإنه لا يزال بديلا جيدا. وإن كان استثنائيا لحين استقرار توريدات القمح أو لحين معرفة رأي الجمهور الذي يتجه للثقافة الصحية خاصة أن الخليط الجديد “رغيف القمح مع الذرة” أقل سعرات حرارية.
ووفق دراسات الغذاء فإن دقيق الذرة غني بالكالسيوم والماغنيسيوم والصوديوم. بالإضافة للبوتاسيوم والزنك مُقارنةً بدقيق القمح. كما يتضمن مُضادات الأكسدة أعلى كما أنه خالٍ من الجلوتين وبالتالي مناسب لمرضى حساسية الجلوتين.